في أعماق سعيدة تعيش سيّدة حملت على عاتقها مهمة الحفاظ على صناعة يدوية بقيت لأجيال كاملة وعلى مدى قرون إحدى البصمات التي تميز تلك المنطقة تجعل من الحلفاء مادة لكثير من الأواني المنزلية ومنتجات أخرى، «مختارية» واحدة من النساء التي آمنت وما زالت تؤمن بأن الإنسان ابن بيئته لن يكون مستقبله بعيدا عما عاشه وعايشه في صغره.
هي حرفة يدوية توارثتها عائلة مختارية منذ خمسين سنة، ما جعلها تكبر وسط الحلفاء (مادة طبيعية تنتمي لعائلة الدوم والنخيل تعيش بالمناطق الغابية الجبلية)، التي كان يستعملها أهلها لصناعة الأدوات المنزلية والمراوح والقبعات التقليدية، السلال وأشياء أخرى، تلك التحف التقليدية التي كانت تصنع أمامها جعلها تشاهد الإبداع الذي يجعل من نبتة صحراوية مادة أولية لصناعة تعتمد أساسا على أنامل السيدات والرجال من اجل تطويعها وتحويلها من «حلفا» إلى سلعة تباع وتشترى.
من قرية زرعون البعيدة عن عاصمة الولاية بـ 42 كلم، بدأت يداها تلمس الحلفاء لتتعرف على ملمسها وشكلها حتى تتغلغل داخلها حب هذه الحلفاء التي كانت بالنسبة لها أعجوبة وهي تراها تتحول إلى تلك التحف اليدوية، عند بلوغها الست سنوات رأت والدتها أن ساعة تعليمها الصنعة قد دقت، وأصبح
لزاما عليها نقل ما تعلمته من أجدادها لتتواصل رسالة الحفاظ على الموروث الثقافي للمنطقة، وهكذا بدأت الطفلة تكبر مع مرور السنوات وبدأت قناعتها بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، لتصبح في سنوات قليلة حرفية مبدعة في مجال صناعة الحلفاء.
لتكون كباقي العائلات «السعيدية» التي اشتهرت منذ القدم بصناعة عدة منتجات تقليدية أساسها مادة الحلفاء على غرار السعفة المعروفة بالقفة والطبق والبقية والتليس والساريج والشواري، وهي عبارة عن كيسين ذات حجم أوسع يوضعان على ظهور الدواب لوضع الحمولة، و»السناج» الذي يحفظ فيه العنب والسجادة للصلاة، خاصة وأنّ صناعة السلال التقليدية بولاية سعيدة عرفت انتعاشا في السنوات الأخيرة، وأصبحت تستعيد مكانتها شيئا فشيئا من خلال الاهتمام المتزايد للعائلات بها، واستطاعت جلب انتباه زوار المدينة العريقة المعروفة اليوم بمدينة العقبان أين شهدت افتتاح عدد من المحلات التجارية المتخصصة في بيع مختلف منتوجات الحلفاء، خاصة وأن هذه الحرفة تقليدية بامتياز تتوارثها عائلات المنطقة أبا عن جد.
رغم أن صناعة الحلفاء من الصناعات التقليدية اليدوية الفنية والإبداعية الشاقة كما وصفتها «مختارية»، هي أيضا مصدر رزق الكثير من الأسر التي تجد صعوبة في تسويقها بسبب غزو البلاستيك منذ الثمانينات. في نفس السياق ذكر زوجها يوسف محمد في حديثه لـ «الشعب»، بأن هذه الحرفة التقليدية التي تعد المورد الأساسي لاسترزاق العائلة توارثتها عائلته أبا عن جد،تزاولها حاليا زوجته وابنتيه وشقيقتاه اللتان تعلمن المهنة منه ومن أمه رحمها الله، وقد أكّد لنا أن أخواته واصلن ممارسة هذه المهنة بعد الزواج ولقنوها هن أيضا لأبنائهن والأقارب، لانها بالنسبة لهم هي أكبر من مهنة بل هي ممارسة حضارية تروي تفاصيل حياة الأجداد بكل تفاصيلها، وهي حكاية الانسان عندما يتوافق مع الطبيعة ويعيش فيها ويتعايش معها رغم أن ظاهرها قاسية.