مليكة دادي سيدة من ولاية ورقلة نشأت بين أحضان التراث الثقافي بزخمه الكبير والذي مازالت ملامحه تطبع أزقة قصر ورقلة وبعض أسواره العتيقة والعديد من المناطق الأخرى خارجه لتروي حكايات ماضي المدينة وحاضرها الذي عصفت به رياح العصرنة على خلاف غيرها من المدن واستعصى على الكثير مجاباتها.
دور المرأة في الحفاظ على التراث علامة فارقة
بعد 33 سنة من الخدمة في مجال آخر عادت السيدة مليكة وهي في العقد السادس من عمرها مجددا بعد التقاعد لإعلاء صوت التراث المحلي وترسيخ أهميته في أذهان الأجيال الحاضرة، مؤكدة أنها لم تتخلى يوما عما تركه الأجداد من موروث ثقافي وفكري وزاوجت بين المجالين منذ نعومة أظافرها، حيث نشأت في وسط عائلي قدّر الحرفة وورثها ذلك أما عن جدة.
شغف مليكة دادي لم يكن مرتبطا بمجرد مزاولة حرفة تقليدية على الرغم من أنها كانت حرفية في الأصل، بل كان طموحا وهدفا أسمى كما تقول رئيسة جمعية «تحناتي» الثقافية والتراثية التي تفتح أبواب جمعيتها وبشكل دوري بدار الثقافة مفدي زكرياء المتواجدة في قلب عاصمة المدينة ورقلة وكأنها تفتح نافذة لزوارها على الذاكرة، هنا مازالت تحتفظ بالكثير من ملامح الماضي وموروث الثقافة المحلية والتي يحضر فيها اللباس التقليدي بقوة والقعدة الصحراوية في البيت التقليدي الذي تطبعه الأفرشة والأواني والأدوات التقليدية ولكل جزء على بساطته رواية تُحكى في جعبة السيدة مليكة التي تقدم معلومات عنها وتشرح سبب استخدامها وتفسر فائدتها بالنسبة للسكان المحليين في ذلك العصر.
هنا في هذا المكان يحج الزوار من كل مكان وعلى اختلاف درجات اهتمامهم وبما فيهم الطلبة والباحثين المهتمين بهذا المجال، أين تكون موجودة دائما للإجابة وإثراء مواضيع للنقاش وكذا الاستفادة والتعرف على أشياء جديدة تتعلق بمجال التراث الثقافي المحلي الذي يبقى واسعا في نطاقه ومليئا بالخبايا التي مازالت في حاجة إلى كشف الغطاء عنها.
فالحفاظ على التراث والتمسك به لا يعني أبدا رفض الحداثة والعصرنة والتطوير أوالتجديد إلا أنه يجب أن يبقى مرجعية يمكن الانطلاق منه من أجل تقديم أشياء عصرية من جهة والتأسيس والتأصيل لعراقة الفكر الإنساني في بلادنا من جهة أخرى كما ترى مليكة دادي.
رغم الصعوبات قررت المضي في طريقها لأن المسؤولية أكبر
هي امرأة نشيطة على الرغم من تقدم سنها إلا أنها مازالت تحمل الكثير من الإصرار، الكثير من الطاقة الداخلية والعزيمة على تقديم المزيد للمجتمع وذلك انطلاقا من تثمين دور المرأة فيه وتقديس عملها داخله، حيث تنظم عدة دورات تكوينية بالتنسيق مع مراكز التكوين المهني من أجل تكوين ورسكلة النساء الماكثات في البيت في العديد من الأنشطة الحرفية على غرار الحلويات التقليدية، النسيج بأنواعه، الخياطة العصرية والتقليدية بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الأخرى خارج التراث والتي يبقى فيها دور المرأة علامة فارقة على غرار مربيات الأطفال وكذا في حلاقة النساء وغيرها.
تعتبر السيدة مليكة من بين رموز اللباس التقليدي وخاصة «الملحفة الورقلية»، حيث أنها تدأب دوما على استقبال الوفود القادمين إلى الولاية من داخل وخارج الوطن بلباسها التقليدي لأنها تعتبر أن الرسالة التي تحملها هي إحياء خزان الثقافة المحلية من جديد بوقود الطاقات الشابة والحفاظ عليه كما تطمح إلى تعزيز انتشاره الجغرافي، إذ جابت نحو48 ولاية بالتراث المحلي المميز للمنطقة وبلباسها التقليدي وتنقلت به حتى إلى دولة الإمارات في مهرجان نظم بدبي.
قالت السيدة مليكة أن بداياتها في هذا المجال كانت محفوفة بالكثير من التحديات، حيث تلقت في بداياتها بدل الدعم من المحيط عدة صعوبات بسبب تيار الفكر المضاد للعادات والتقاليد الذي يعتبر التراث جزء من الماضي الذي لسنا في حاجة له، تقول «سمعت الكثير من الكلام القاسي والجارح الذي قابلني به البعض خاصة في تنقلاتي عبر المعارض المختلفة بلباسي التقليدي...مع ذلك قررت ولم أتراجع»، قررت أن تمشي في طريقها لأن حجم المسؤولية كان أكبر من أن تلفت إلى الوراء أوتعود إلى الخلف حتى بضع خطوات تؤكد محدثتنا.
ومن هنا آمنت السيدة مليكة دادي بالفكرة ووضعت كل ردود الفعل السلبية التي تلقتها من طرف المحيط الاجتماعي إزاء نشاطها كامرأة جانبا، لأن الهدف أنبل وأسمى من أن تنتصر عليه كلمات المثبطين، مشيرة إلى أن حرية المرأة التي عززها الأمن والاستقرار كانت تتطلب منها أن تجتهد ضمن مبادئها الأخلاقية وفي حدود قدرتها المعرفية لإثبات ذاتها ولتقديم الأفضل لمجتمعها.
فضلت أن تختتم السيدة مليكة حديثها إلى «الشعب» بدعوة كل صاحب حرفة تقليدية أن يخرج صنعته من الحدود التي رسمها لها ويروج لما تصنعه أنامله ويوثق له حتى يفتح المجال أمام آخرين لتطويرها من أجل تحقيق تنمية محلية مستدامة بدعم الصنعة التقليدية من منطلق الفكر الاقتصادي الربحي لأن الصناعات الأصيلة التي اعتمدها الأجداد تؤكد حبهم للعمل ومن المهم أن تظل خزانا لليد العاملة المحلية.