مرت الأسبوع الماضي بالضبط في 21 فيفري من الشهر الجاري، الذكرى الثانية لرحيل الأستاذة في قسم التاريخ زكية زهرة، بعد مسار علمي وعطاء غزير من خلال البحوث والكتب في مادة التاريخ، والتي شكلت خسارة كبيرة للجامعة الجزائرية، وفي هذا الصدد كتب الدكتور ناصر الدين سعيدوني كلمة عنها كونه كان أستاذها.
لقد كان نبأ وفاة الزميلة الفاضلة الأستاذة زكية زهرة –وأنا بعيد عن الجزائر أحضر فعاليات مؤتمر تاريخي بلبنان- بمثابة الفاجعة الأليمة والصدمة العنيفة، إذ شعرت بالحسرة تهز كياني والحزن يستبد بي، لما كانت تربطني بهذه الأستاذة الفاضلة من روابط إنسانية وصلات علمية ناهزت الثلاثين سنة، فقد عرفتها في الثمانينات من القرن الماضي طالبة نشيطة متواضعة، وخبرتها باحثة متفانية في عملها مثابرة على البحث في إصرار وتعمق، وتعاملت معها كزميلة فاضلة ذات شخصية محترمة وقيم علمية متميزة بسلوكها المنضبط وحسن أخلاقها متفهمة لشروط البحث ومتطلباته، مما يجعل غيابها عن الوسط الجامعي وانقطاع إسهامها العلمي خسارة لا تُعوض وفراغ لا يمكن ملؤه.
ولعل أكثر ما هزّ كياني هو صبرها على مرضها وانطواؤها على ذاتها محافظةً على كرامتها وعزة نفسها، فلم تضعف ولم تستسلم، وظلت حاضرة في مجال البحث والتدريس، وكنت أشعر باعتلال صحتها وأحاول الاطمئنان على وضعها، فكانت تجيب بأن وضعها الصحي لا يستدعي القلق. وكانت آخر محادثة لي معها في الأسبوع الذي سبق وفاتها وقبل سفري إلى خارج الجزائر، فترك صوتها الخافت وعباراتها المهذبة بنبرتها الحزينة انطباعا عميقا في نفسي، فأحسست وكأنها تودعني وتبث لي آلامها وتهيأ لي أتها تتهيأ لتنسحب من حياتنا بعد أن أبدت لي عزوفها عن البحث وعن المشاركة في اللقاءات العلمية، مما أشعرني بقلق داخلي، فعزمت على لقائها عند رجوعي من السفر، ولم أدر أن حديثنا هذا كان آخر محاورة لي معها...
إن زكية التي عاجلها الأجل دون أن تستكمل مشوارها العلمي، كانت في حياتها الجامعية وإسهامها التاريخي مثالا للجيل الناشئ من الباحثين، فهي قيمة علمية وبعد إنساني ونموذج للأستاذة الجامعية التي تحتاج إليها الجامعة الجزائرية اليوم، فقد حافظت على كرامتها العلمية واحتفظت بعزة نفسها وصانت قيمتها العلمية وأكدت حضورها العلمي ،بتكريس حياتها للبحث وتسخير جهودها للتدريس، لم تغرها الأضواء ولم تؤثر عليها المغريات لنيل المكاسب الشخصية وانتهاز الفرص السانحة.
إن مثابرة الأستاذة د. زكية عل البحث وإصرارها على التعمق في دراستها، مما مكّنها من اكتساب أدوات ثقافة تاريخية واسعة وأكسبها معرفة باللغتين التركية والإنكليزية إلى جانب العربية والفرنسية، وهذا ما أعطى ثماره في أطروحة ماجستير “التنافس الفرنسي الإنكليزي في الجزائر وموقف الباب العالي منه” التي أشرفت عليها وتمت مناقشتها بمعهد التاريخ بجامعة الجزائر (1997)، كما توليت الإشراف على تحضيرها لرسالة الدكتوراه، قبل أن تتولى الأستاذة د. راندي دغيلام، متابعة الإشراف على رسالتها في موضوع “مؤسسة سبل الخيرات الشرفة على المساجد الحنفية بمدينة الجزائر (1700-1830)”، والتي حصلت بها على الدكتوراه بدرجة الامتياز من جامعة إيكس-آن-بروفانس(2012).
لقد خبرت في الأستاذة د. زكية سلوكا رفيعا وتعاملا علميا جعلني أعتبرها مثالا لجيل الباحثين الـمُزَوَّد بأدوات البحث والقادر على الإبداع فيه والتأسيس لمدرسة تاريخية في التاريخ العثماني، تجمع بين التخصص المحلي والتواصل العالمي وتضع حدا لاستلاب التاريخ من طرف الهواة؛ لكن شاءت مشيئة الله أن تفقد الجزائر دائما طلائع باحثيها ليتكرس المد الشعبوي في تناول التاريخ، فبالأمس غابت عائشة غطاس واليوم تتوارى زكية، بعد أن آلت تجربة الجيل السابق لهما إلى الزوال بفقد الأستاذ د. أبو القاسم سعد الله وانطواء من بقي من رفاقه على أنفسهم، في مناخ يحارب التميز ويُلغي التجارب السابقة، ويرفض التواصل، ولا يرى فائدة في انتقال التجربة من جيل إلا آخر ... وهذا ما يجعل غياب زكية عن ساحة البحث التاريخي مأساة حقيقية، لأنه كلما عاجلت المنية باحث مؤهل للبحث كلما تكرس الفراغ العلمي، وتقطعت صلات الحاضر بالماضي ،واكتسحت الرداءة فضاءنا المعرفي .
إن الباحث الحقيقي صاحب القيمة الذاتية يبقى ذكره ويتأكد تأثيره بما تركه من إسهام، ومن هؤلاء فقيدتنا الأستاذة د. زكية التي أكدت حضورها معنا بما تركته من مساهمات تاريخية قيّمة هي نعم المثل الذي يقتدي به الجيل الناشئ من المؤرخين والباحثين. إن القراءة المتأنية لإسهام الأستاذة د. زكية تؤكد لدى القارئ مدى دقة بحثها وخصوصية مواضيع بحثها وتركيزها وميلها إلى الاختصار في عرض أفكارها مع حرص على التعمق في التناول والتحليل للمعطيات وعرض للأسباب والنتائج، مما يضعها ضمن نخبة الباحثين في تاريخ الجزائر العثمانية، وخاصة في مجال مسائل الوقف،و مجال علاقات الجزائر بالدولة العثمانية، وما دام جل إنتاجها لم يجمع وينشر بعد، فإنه يحسن بنا في هذه الكلمة أن نثبت بعض ما اطّلعنا عليه من إنتاجها ضمن القائمة التالية:
أ ـ في مجال دراسة الوقف :
مؤسسة سبل خيرات المساجد الحنفية بمدينة الجزائر في العهد العثماني (1700-1830) (أطروحة دكتوراه (جامعة إيكس-آن-بروفانس) تحت إشراف أ. د. راندي دغيلام، نوقشت في 2012).
D’Istanbul à Alger : la fondation waqf des subul-al-khayrât et ses mosquées hanéfites (du début du 18ème siècle à la colonisation française).
A propos des waqfs de subul-al-khayrât, in C.F.S.E.C.S.A., Aix-en-Provence, 2002.
•أوقاف مؤسسة سبل الخيرات، ضمن كتاب “الدولة الجزائرية الحديثة ومؤسساتها”، سلسلة المشاريع الوطنية للبحث، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، وزارة المجاهدين، الجزائر، 2007 (ص ص. 256-278).
حول الأهمية التاريخية لأوقاف الأحناف بمدينة الجزائر من خلال ثلاث نماذج من الوثائق، ضمن أعمال ندوة الوقف في الجزائر أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلية العلوم الإنسانية (2001)، عدد خاص من مجلة دراسات إنسانية، جامعة الجزائر، 2002.
حول استخدام “العناء” في استغلال الأملاك المحبسة في الجزائر إبان الفترة العثمانية (طورته وساهمت به في الكتاب التذكاري للأستاذة د. عائشة غطاس).
La location des biens waqf à Alger par le bail des ‘Ana, in Colloque international I.R.E.M.A.M, Aix-en-Provence, 2009.
•المؤسسات التعليمية بمدينة الجزائر أثناء الفترة العثمانية، دراسة حول الدور التعليمي للمساجد والزوايا والمدارس والكتاتيب، بحث قُدم في المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني (إستانبول، 1999)، نُشر ضمن أعمال المؤتمر، مركو إرسيكا، 2000، ص ص 112-123.
ب ـ في مجال دراسة تاريخ الجزائر العثمانية
المصادر العثمانية التركية (بيبليوغرافيا) الخاصة بتاريخ الجزائر، مجلة الدراسات التاريخية، معهد التاريخ (جامعة الجزائر).
كيفية البحث في تركيا وخاصة دور الأرشيفات وبعض المراكز العلمية بها ( عرض لتجربة الباحثة في الأرشيفات والمكتبات بتركيا البحث بتركيا ).
لجغرافي الأميرال بيري رايس، مجلة الدراسات التاريخية، معهد التاريخ (جامعة الجزائر)، عدد 6/1992، ص ص. 101-109.
كيف يُفهم ويُفسر ارتباط الجزائر بالباب العالي (عرض من وجهة نظر الباحث الأكاديمي )، قدم لمجلة تركية بإستانبول).
الإصلاحات في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (مذكرة سنة أولى ماجستير).
لمحة عن التنافس الفرنسي الإنكليزي على الجزائر وموقف الباب العالي منه (1792-1830) (رسالة ماجستير بمعهد التاريخ (جماعة الجزائر)، نوقشت في 1997، في طريق النشر).
الجيش الإنكشاري، ضمن كتاب “الدولة الجزائرية الحديثة ومؤسساتها”، سلسلة المشاريع الوطنية للبحث، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، وزارة المجاهدين، الجزائر، 2007 (ص ص. 64-94).
***
رحمك الله أيتها الزميلة الفاضلة والباحثة المتميزة وأوسع لك في دار الخلد، وأبقى ذكرك عطرا وأثرك طيبا. لقد كان موعد رحيلك باكرا لكن موعد الأجل لا يؤخر، وإن رحلة الحياة لا تُقاس بسنواتها وإنما بحصادها، وإن التواري عن الحضور في زمن لا يُقدر الكفاءة والجهد لهو خير موقف في هذا الزمن الردئ، لأنه يجعل قيمة الإنسان تنتقل من صخب الحياة إلى طمأنينة الضمير وراحة الخلود مصداقا لقوله تعالى: “ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”. رزقك الله جنان الخلود وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.
بوزريعة في 25 فبراير 2015