رجـال تحمّلـوا رسالة الثورة التحريرية المباركة..

عيسـات إيديـر.. مسار ومصــير

د. محمود آيت مدور جامعة بجاية

حاولت نقابة القوة العمالية تدعيم رواية “نقص اليقظة”، إذ أنّه وفي مراسلة الأمين العام للاتحاد العمالي النقابة القوة العمالية لعمالة وهران الموجّهة للمندوب العام للحكومة الفرنسية في الجزائر بتاريخ 4 سبتمبر 1959، ورد الحوار الذي كان قد دار بين عيسات إيدير ومسؤول من نقابة القوة العمالية لعمالة الجزائر، حينما زار المستشفى، وتضمّن ذاك الحوار أنّ عيسات إيدير عرض بوضوح الأسباب الحقيقية التي كانت وراء الحادث الذي تعرّض له، والناجمة عن عدم التزامه بالقانون الداخلي.


 «على إثر الزيارة المفاجئة للحراس، كان يدخّن سجارته مستلقياً فوق السرير ومخالفاً بذلك النظام الداخلي للمركز، وحاول إخفاء السجارة داخل فراشه، لكنه غفل عنها لفترة طويلة وهو ما تسبّب - على ما يبدو - في اندلاع الحريق الذي كان ضحية له».
 من خلال ما قاله المندوب الذي اعتبر أنّ عملية نقل عيسات إيدير إلى مركز بيرترارية مباشرة بعد تبرئته من قبل المحكمة العسكرية إجراء طبيعيا ومنطقياً، تتجلّى النية المبيتة والصريحة لتصفية عيسات إيدير والتخلّص منه بكلّ الطرق. ولتبرير الأمر، ثار المندوب ذاته في حديثه الموجّه إلى المحامي رولان، والذي نقلته جريدة لوموند Le Monde في عدد 19 أوت 1959 قائلاً: «الذين لا يفهمون لأنّهم لا يملكون أدنى تجربة في الحرب الثورية وعن الجو والمخاطر اليومية التي تنجم عن العمليات الإرهابية وعمليات الاختطاف والاغتيالات التي تعدّ بمثابة الأسلحة المفضلة لدى جبهة التحرير الوطني».
وبعد ذلك تعدّدت بل تناقضت روايات النيابة العامة للحكومة المتعلّقة بمصدر الحروق التي تعرّض لها عيسات إيدير. في الوهلة الأولى، صرحت أنّه حاول وضع حدّ لحياته عن طريق إضرام النار في فراش سريره، وعندما تأكّدت بأنّ الحجة واهية، استبدلتها بأخرى تمثلت في تعرّضه للحادث أثناء محاولة إخفاء السيجارة التي كان يدخّنها فوق سريره. وهنا تتبادر إلى أذهاننا مجموعة من التساؤلات المحيّرة وهي : لماذا لم ينقل عيسات إيدير بعد إتمام المحاكمة من بربروس إلى بني مسوس في انتظار نقله إلى بوسوي، أين كان يتواجد منذ تاريخ 15 أوت 1956؟ هل كان ذلك بسبب شدّة إجراءات التعذيب في بيرترارية، وبعدها عن المسامع والأنظار مقارنة بالمعتقلات الأخرى؟ هل أبقي فعلاً في بيرترارية من أجل الحصول على اعترافات أخرى؟ وما هي الأشياء الأخرى التي كان ينتظر أن يقولها ولم يكن قد سمع بها معذبوه؟
في بداية الأمر، حاولت فرنسا تمرير فرضية محاولة الانتحار لتبييض صورتها وتشويه سمعة عيسات إيدير. لكن لماذا كان على عيسات إيدير أن ينتحر حسب الفرضية التي أريد تمريرها في البداية، كما فعلت مع العربي بن مهيدي، بما أنه تمت تبرئته من قبل المحكمة من كلّ التهم الموجّهة إليه؟ ثم توصّلت إلى خلاصة وقوع الحادث بسبب نقص الحذر واليقظة من قبل عيسات إيدير الذي تسبّب في إشعال الحريق في أفرشة سريره، مثلما فعلت مع فرحات حشاد التونسي الذي اغتيل بتاريخ 5 ديسمبر 1952 وتسبّب - حسب ابن حميدة عبد السلام - في فقدان الحركة العمالية، وكذلك كلّ الشعب التونسي، لقائد أساسي. لكننا نتساءل هنا كذلك كيف وصلت علب الكبريت هكذا إلى عيسات إيدير الذي لم يسبق له أن دخّن سيجارة واحدة طوال حياته؟ ولماذا تدهورت صحة عيسات إيدير فجأة حينما وافق المندوب العام للحكومة على نقله للعلاج في فرنسا؟
حسب الوثائق التي بحوزتنا، بإمكاننا إعادة السيناريو المأساوي للجريمة وهو كالآتي:
حسب الإجراءات المعتادة، أخذ عيسات إيدير في يوم 13 جانفي 1959 مساء مباشرة بعد تبرئته بالمحكمة من قبل المظليين، تنفيذا لأوامر الكولونيل غودار Godart الذي جعل من مركز الفرز بيرترارية مكاناً للعبور الآلي نحو التعذيب. وأرجع غاليسو سبب هذا التحامل الكبير إلى أنّ غودار كان بمثابة «الخادم المتحمّس الذي كان يضمن بصفة غير شرعية ودون أدنى عقاب المهمة القمعية التي اتبعها الوزير المقيم روبار لاكوست ضدّ الحركة النقابية الجزائرية بدافع المعاداة للشيوعية في الماضي، وللوطنية في الوقت الحاضر. وحسب ما ورد في الرسالة المفتوحة التي وجّهها رولان إلى جريدة لوموند الفرنسية، يكون مندوب الحكومة قد أوضح للمحامي الذي حاول معرفة الأسباب التي كانت وراء عدم الإفراج عن عيسات إيدير فور صدور قرار التبرئة، أنّ القرار لم يصدر من قبله. وقد تعرّض خلال الفترة الممتدة من 13 جانفي إلى 17 جانفي إلى التعذيب الشنيع بحرقه في مناطق مختلفة من جسمه، وما يستبعد فرضية الحادث أو مقولة محاولة الانتحار، هي آثار الحرق باستعمال المكواة الحديدية على مستوى وجهه والتي لاحظتها عائلته التي قامت بزيارته بعد وفاته من أجل التعرّف على الجثة. لكن يبقى الغموض يكتنف الجهة المدبّرة للأمر؟ وحينما أعلم الكولونيل قائد مصالح الأمن بالوضع، أمر بتحويله إلى المستشفى العسكري بمايو لتلقي العلاج، وكان ذلك تحت الحراسة.
ورغم أنّ حالة عيسات إيدير كانت تستدعي النقل إلى مستشفى متخصّص في الحروق بباريس، إلا أنّ السلطات الفرنسية تجاهلت الأمر وتماطلت تاركة إياه يصارع آلام الحروق لمدة فاقت الستة أشهر. وحينما سمح المندوب العام للسيد غاريغاز بزيارة المريض، لاحظ تغيرات خطيرة في هيئة السجين مقارنة بما كان عليه في المحاكمة الأخيرة. ورغم حالة عيسات إيدير الكارثية، تمكّن من نفي فكرة الانتحار.
أما فيما يخصّ ما تعرّض له فور وصوله إلى مركز بيرترارية، فإنّ الأمر المؤكّد هو تعرّضه للحريق على مستوى الأرجل ومناطق أخرى من جسده. لكن الغموض يبقى يكتنف أمر تعرّضه للحرق العمدي أو غير الإرادي، وهل كان الأمر ناجماً عن التعذيب أم عن محاولة انتحار؟ حسب مندوب الحكومة الذي كان قد اشتكى للمحامي رولان أمر عيسات إيدير الذي لم يكن واضحاً أبداً، وكان تارة يتكلم عن الانتحار وتارة أخرى عن الحادث.
أياماً معدودات قبل اتخاذ القرار بنقل عيسات إيدير إلى باريس للعلاج تحت تأثير الرأي العام العالمي، تدهورت حالته فجأة بشكل يستحيل أن ينقل على إثره إلى أيّ مكان ليلفظ أنفاسه بعد ذلك.
قد يكون هذا التدهور المفاجئ راجعاً إلى إجراء طبي إرادي من أجل التخلّص من عيسات إيدير خشية أن تكشف خيوط الجريمة أمام الرأي العام العالمي. وقد تضمّن أحد المناشير الموزّعة من قبل روجي لابيار Roger Lapeyre، الأمين العام لفدرالية الأشغال العمومية والنقل التابعة لكونفدرالية القوة العمالية، يؤكّد بصراحة علم السيد رولان محامي عيسات إيدير بمكان وجوده وبحالته المتدهورة منذ شهر جوان ما يلي: « إنّ هذا الخطأ يقصد به عملية تحويل عيسات إيدير إلى مركز بيرترارية مباشرة بعد تبرئته من قبل المحكمة من الصعب الصفح عنه، حينما ندرك أنّ عيسات إيدير الذي تعرّض لجروح خطيرة بتاريخ 17 جانفي 1959 في ظروف غامضة، كان محل طلب واحد مقدم في شهر جوان من قبل محاميه السيد رولان من أجل نقله إلى مستشفى بفرنسا مختص في معالجة الحروق، ذلك النقل الذي تم تأجيله للأسف بسبب تدهور حالة المريض».
لم تقنع نتائج التحقيق هذه أعضاء من الوفد الخارجي للاتحاد العام للعمال الجزائريين وعلى رأسهم كلّ من معاشو عبد القادر ودكار رحمون حسب ما ورد في تقرير لمصلحة الاستعلامات العامة لعمالة الجزائر: يجب توضيح أنّ أعضاء من الوفد الخارجي على غرار معاشو عبد القادر ورحمون دكار يكونون قد تدخّلوا لدى مختلف المنظمات الدولية، الصليب الأحمر الدولي والكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، من أجل الدفع نحو إجراء تحقيق جديد». وخلص التقرير إلى ترجيح فرضية الدور الذي يكون قد لعبه إيروين براون، المندوب الأمريكي عن الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة (السيسل) الذي قدم النصح لأعضاء الوفد من أجل ممارسة المزيد من الضغط بغرض الدفع نحو إرسال لجنة دولية إلى الجزائر لتولي قضية عيسات إيدير.
 ومن جهة أخرى، قام الوفد الخارجي للاتحاد العام للعمال الجزائريين بتونس بتوزيع منشور شجب فيه تصرفات النيابة العامة للحكومة العامة الفرنسية في الجزائر حيال كيفية تعاملها مع قضية عيسات إيدير، وممّا تضمّنه ما يأتي: «قبل ذلك، كانت السلطات الفرنسية في الجزائر التي ضغط عليها من أجل تقديم التوضيحات ادّعت أنّ عيسات إيدير حاول وضع حدّ لحياته. هذا الأخير نفى قطعاً أمام أحد محامييه أن يكون قد حاول الانتحار.. ولهذا تم اللّجوء إلى الحريق غير المتعمّد” الذي نتج لا إرادياً عن السيجارة، رغم أنّ عيسات إيدير لم يكن يدخّن ولم يسبق له أن قام بذلك، وهذا ما أوقع السلطات الفرنسية في تناقض صريح.
وهناك من النقابات على غرار فدرالية الأشغال العمومية والنقل التابعة لكونفدرالية القوة العمالية، من اكتفت باستنكار الطريقة التي اعتمدت من أجل التخلّص من عيسات إيدير مع ترجيحها لفرضية تعرّضه للحادث. وقد ورد في أحد المنشورات التي أشرنا إليها سابقاً: «لا أحد على المستوى الدولي بإمكانه فهم كيف أمكن نقل الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين الذي تمت تبرئته من قبل المحكمة العسكرية ببساطة إلى مركز العبور بيرترارية، لم يكن بمقدور أحد فهم الأمر، لأنّ التصرف كان خاطئاً، وكانت حلول أخرى ممكنة». فمن جهة ندّدت بموقف الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة التي تنتمي إليها، لأنّ هذه الأخيرة ندّدت بالأمر وتدخلت فيه أكثر من اللازم، بينما التزمت الصمت حيال قضايا أخرى مماثلة على غرار قضية اغتيال النقابيين المنتمين للاتحاد النقابي للعمال الجزائريين التابع للحركة الوطنية الجزائرية المصالية وهم كلّ من بخات أحمد وعبد الله فيلالي وأحمد سماش.
وذهبت نقابة القوة العمالية إلى أبعد الحدود في اتهاماتها الموجّهة للكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، وهي أنّ هذه الأخيرة وعلى رأسها الأمين العام أولدنبروغ أعلنت عداءها الصريح لفرنسا وأنّها تساند “المتمرّدين” الجزائريين وتمولهم من أجل شراء الأسلحة والذخيرة.
وعلى المستوى الدولي، وحسب جريدة لوفيغارو Le Figaro، فقد توالت البيانات منذ اليوم الأول لإشاعة الخبر من قبل شخصيات وتنظيمات نقابية وجمعيات، على غرار الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة والفدرالية النقابية العالمية والنقابات الأسترالية والقانونيين السويسريين وغيرهم، لغرض المطالبة بتفسيرات حول ظروف وفاة عيسات إيدير.
وتضمّن بيان الندوة النقابية الإفريقية ما يلي: “هذه الندوة فحصت الحادث المأساوي لاغتيال عيسات إيدير، وسجّلت مواقف مختلف المنظمات النقابية الدولية التي ندّدت بهذه الجريمة الشنعاء. ولهذا ستوجّه عريضة للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة من أجل إرسال لجنة تحقيق لتسليط الضوء على ظروف موت عيسات إيدير”.
وعبّرت الكونفدرالية الفرنسية للنقابات المسيحية هي الأخرى عن انشغالها الكبير بقضية عيسات إيدير مع المطالبة بالإسراع في إرسال لجنة للتحقيق للنظر في ملابسات القضية. وهذا ما يتبين من خلال الرسالة التي وجّهها أندري جونسون نائب رئيس الكونفدرالية إلى السيد باتان، رئيس لجنة حماية الحقوق والحريات الشخصية بتاريخ 01 أوت 1959.
 خــــــــاتمـــــــة
كان عيسات إيدير يشكّل خطراً أكيداً على الإدارة الفرنسية التي كانت تعرف تفاصيل كثيرة عن نشاطاته السياسية والنقابية والتي كانت تتم في إطار القوانين الفرنسية، ممّا فوّت على هذه الأخيرة كلّ الفرص من أجل اعتقاله. كما كانت الإدارة الفرنسية قد وجدت نفسها في وضع محرج أثناء عملية المحاكمة، لأنّ ملفه كان يتضمّن إلصاق تهمة غير مؤسّسة؛ لأنّها وقعت أثناء تجريده من حريته.
كانت فرنسا تدرك خطورة عيسات إيدير الذي برّأته المحكمة من كلّ التهم، لذلك سعت للحيلولة دون تمكّنه من استعادة حريته، الأمر المؤكّد هو أنّ عملية اختطاف عيسات إيدير من قبل المظلّيين فور خروجه من مقر المحكمة العسكرية بالعاصمة، كان من تدبير أعلى السلطات في الجزائر وعلى رأسها مندوب الحكومة الفرنسية دولوفريي الذي أقرّ باستحالة الإفراج عن شخص أدرج اسمه ضمن أهم هياكل الثورة التي وضعها مؤتمر الصومام. لكنّ الغموض يبقى يكتنف الجهة المدبّرة المكيدة الحريق والكيّ بواسطة المكواة الكهربائية وكذلك الغرض من ذلك. كان بالإمكان إبعاد شبهة الاعتداء الذي تعرّض إليه عيسات إيدير عن مندوبية الحكومة الفرنسية في الجزائر لو اتخذت هذه الأخيرة الإجراءات اللازمة والمستعجلة لعلاج عيسات إيدير في فرنسا في مستشفى متخصّص في الحروق. وبالتالي سنحاول بعدها البحث عن مسؤولين آخرين متطرّفين خرجوا عن سيطرة المندوب. وما يؤكّد كذلك ضلوع المندوبية العامة في قضية التصفية، أنّها اتخذت قرار النقل تحت ضغط الرأي العام العالمي وبالخصوص النقابات الدولية. وبعد أيام معدودات من اتخاذ القرار، تدهورت حالة عيسات إيدير بشكل لافت للانتباه ممّا يجعل من احتمال قيام أشخاص آخرين بالتخلّص نهائيا من عيسات إيدير بطريقة طبية” أمراً لا يحوم حوله كثير من الشكوك، لكي لا يكشف عيسات خيوط الجريمة.
انتهى – للمقال مراجع

الحلقة الأخيرة

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024