من وسائل الدعاية الفرنسية المغرضة إبّان ثورة نوفمبر 1954

جريدة “الحقائق”.. أنموذج للتضليل الإعلامي الاستعماري

أ ــ فوزي مصمودي باحث في التاريخ مدير المجاهدين لولاية الوادي

بعد قيام الثورة التحريرية المجيدة في غُرّة نوفمبر 1954، سخّرت الإدارة العسكرية الفرنسية ومن ورائها السلطة الحاكمة وجمهورياتها المتهالكة تباعا، كافة إمكاناتها المادية وقدراتها المالية وطاقاتها البشرية المختلفة للتصدّي لهذه الملحمة التي أطلق شرارتها شبابٌ آمنوا بعدالة قضية شعبهم الذي طالهُ القهر والغُبن والظلم وعمليات التعذيب والقتل والتشريد، ومحاولة النيل من ثوابته وتاريخه ودينه.. طيلة 132 سنة.

   ومن الوسائل الهامة التي وظّفتها هذه الإدارة المتعفّنة، الآلة الإعلامية المغرضة بجميع أنواعها، السمعية والسمعية البصرية والمطبوعة، والتي عملت طيلة الكفاح المسلح على قلب الحقائق وتدليس الأخبار ونشر الإشاعات وتشويه سمعة الثورة والنيل من قادتها في الداخل والخارج، ومحاولة تصدير أكذوبة: “إنّ العمليات المسلحة بالجزائر ماهي سوى أعمال إرهابية يقوم بها مجموعة من الخارجين عن القانون”!
«الحـــقـــائـــــق” الجـــريـــــدة الاســتــــعــمــاريــة المــفــقـــــودة
ومن تلك الأدوات الإعلامية المطبوعة التي قامت إدارة الاحتلال بإصدارها وَسَعَت إلى توزيعها على نطاق واسع، جريدة (الحقائق)، المفقودة اليوم على المستوى الوطني، وغير المعروفة لدى المؤرخين والباحثين الجزائريين، كما أنّ الذين تناولوا الإعلام الثوري الوطني والإعلام الفرنسي المضلِّل والمضاد، لم يتطرقوا إليها بتاتا في دراساتهم وأبحاثهم، وفي محاضراتهم ومداخلاتهم خلال الملتقيات الوطنية التي تناولت إعلام الثورة التحريرية، فظلت منسيَّة ومازالت كذلك، بسبب عدم اطلاعهم عليها والدراية بصدورها - حسب ما وقفنا عليه - ونجهل تاريخ صدور عددها الأول الذي قد يكون خلال سنة 1956، ولم نهتد إلى آخر عدد صدر منها. كما أنّ ثمنها كان زهيدا جدا حيث لم يتعدّ الـ (15 فرنكا)، أيّ (3 دُورُو) بالتعبير الشعبي الذي يعود إلى العهد العثماني بالجزائر.
وضمن إطار بحثنا الحثيث والمتواصل حول الإعلام الذي كان في قلب المعركة فقد عثرنا في مكتبتنا الشخصية على عدد أصلي من هذه الجريدة الشهرية، حمل رقم 14، لشهر أكتوبر 1957، والذي جاء في أربع صفحات من حجم التابلويد، وقد تم تحرير مادته الإعلامية بأسلوب ركيك وضيع وممزوج بالعامية والفصحى والفرنسية الهجينة التي يترفّع عنهَا حتى العوام، فما بالك بالمثقفين!
قـــراءة في الـــعـــدد الـ 14 لـــشـــهـــر أكـــتـــــــوبـــر 1957
في افتتاحية هذا العدد التي احتلت الصفحة الأولى، وجاءت بعنوان “الثورة تحتضر”، وتحت شعار “الأمم الحرة تساند فرنسا”! ــ حاولت هذه الجريدة التأكيد – كذبا - على وجود خلافات بين قادة جبهة التحرير الوطني (الجناح السياسي للثورة)، وبين قادة جيش التحرير الوطني (الجناح العسكري لها)، إلى جانب الافتراء بوجود تباين حاد بين زعماء الداخل وزعماء الخارج، بل حتى بين مكوّنات المجتمع الجزائري الواحد، وتجنّيها عليهم، حيث كتبت زُورا عن خلاف مختلق بين الجزائريين، في سبيل زرع الفتنة ونشر الفرقة بين زعماء الثورة، هذه الادّعاءات التي لا أساس لها من الصحة وقد دحضها التاريخ المجيد للجزائر وفنّدها الواقع الثوري، حيث كانوا كتلة واحدة وقيادة موحّدة، ولم تكن هذه الاعتبارات مطروحة بتاتا في أوساطهم، خلافا لما يدّعي العدو الفرنسي ومملكته الإعلامية، كما وصفت ثورة نوفمبر 1954 بـ«المغامرة الدامية”.
انــتــحـــال الجــريـــدة لــشـــخـــصـــيـــة الـــشـــعـــب الجـــزائـــــــري
ولسفاهتها وادّعاءاتها الباطلة، أجهدت الجريدة نفسها كي تكون ناطقا رسميا باسم الشعب الجزائري! حيث حاولت الحديث باسمه كذبا بإبراز معاناته والمطالبة نيابة عنه بوقف العمل المسلح، بقولها: “ونَحْنَا نعرفوا نتائج نار المغامرة الدامية التي أشعلوها. ويوجد ألوف من الأرامل والأيتام يطالبون بوضع حدّ لآلامهم. وتتعالى نداءات الأهالي في المدن والقرى راجية إيقاف هذا الصراع الأخوي”، كأنّ الشعب الجزائري خوّلها الحديث باسمه، ليس هذا فحسب، بل لابد لهم -ـ حسب دعوى الذي حَبَك الافتتاحية - أن “ينضمّوا تحت العلم الفرنساوي ليجهزوا على الثوار المطاردين”!!
كما توجّهت عبر نداءاتها للشعب الجزائري تُعلِمُه أن فرنسا عَرَضت حلاًّ (سلمياً وعادلا)! للقضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، من خلال ندائها: “أيها الجزائريون؟ في الوقت اللي تبين فرنسا أمام هيئة الأمم المتحدة أنها جابت تسوية سلمية ديمقراطية وعادلة للأزمة الحاضرة، تبرهنوا كل يوم للعالم أن الشعب قد طرد جبهة التحرير الوطني..”، ألفاظٌ وضيعة وعامية لا تمتّ بصلة إلى لغة الصحافة، على غرار: “نحنا، نعرفوا، اللي، جابت، تبرهنوا، ننجموا، باشْ، البوجادية، السرفيس، هذوك، يجو..” كما سنرى بعد ذلك.
الادّعـــاء بـــأنّ الحـــكـــومـــة الفـــرنــســيــة جــــعــلــت الجـــزائـــر الأولى عـــالمـــيـــا في المـــــيــــــاه!
وفي صفحة كاملة تناولت صحيفة البهتان موضوع المياه، ضمن مقالها “معركة المياه بالجزائر”، لاسيما بالجنوب الكبير، حيث زعم كاتب المقال المدعّم بالصور والأرقام المغلوطة، أن فرنسا قامت بحفر العديد من الآبار والعيون والحواسي: “ومما تفتخر له فرنسا تجاه العالم هو عملها المدهش للرّي اللي تحسدها عليه دول العالم أجمع. هذه الأعمال مشرفة”!!.
وبكل خِسّة ونذالة، أراد صاحب المقال التأكيد بأنّ الدولة الفرنسية قامت بجهود جبارة في سقي الجزائريين وري بساتينهم! وأراضيهم، أو بالأحرى ما تبقَّى منها بعد سيطرة الغزاة والمستوطنين من الفرنسيين والأوربيين على أكثرها، بقوله: “وبما بذلوا الرجال من جهدهم في مواجهة الطبيعة الثائرة”.
واعتبرت صحيفة البهتان هذه الإنجازات المزعومة (ثورة) مقارنة بينها وبين “الثورة التحريرية” العادلة، حيث ورد في ذات الافتتاحية زوراً: “إنها ليست ثورة القَتَلة وأصحاب الفوضى بل ثورة المهندسين والعمال هذه اللي توجد لنا في قلب الجمعية الفرنسية مستقبل سلم وتقدم اجتماعي”.
ولم يفت هذا القلم المأجور ــ بإملاء أصحاب الجريدة طبعاً ــ القول: “إن الجزائر بلاد فقيرة وزراعية وسكانها كثيرة. ولكنها بدون مياه وتعتبر صحراء قاحلة”، وبالتأكيد أن هذه الأوصاف سببها الرئيس هو الاحتلال الفرنسي البغيض منذ تدنيسه أرضنا في 5 جويلية 1830، واستمراره في نهب خيرات أبنائها وتحطيم قدراتهم الاقتصادية.
كما عدّد الكاذب صاحب المقال السدود التي أقامتها فرنسا – رغم أنها كانت جميعاً في صالح مشاريعها الاقتصادية ومشاريع الكولون ومزارعهم وبساتينهم التي استولوا عليها - ليخلص هذا الكاتب المعتوه وبأسلوب ركيك إلى القول: “ننجْموا نقولوا باللي الجزائر هي الأولى في التقدم العالمي في حقل توزيع المياه وتصريفها”! يا سلام! وبذلك فقد تقدّمنا خلال عام 1957 - حسب محتوى المقال - على فرنسا نفسها وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.. في مجال توفير المياه!! وضرب لذلك مثلا حول منطقة الزيبان ووادي ريغ ووادي سوف: “في بلاد زيبان وواد غير (كذا.. هل هو خطأ مطبعي وكان يعني به وادي ريغ، أم وادي غير أو قير الذي يصبّ ببشار بالجنوب الغربي الجزائري)، توجد آبار ارتوازية تسقي نخيل دكلة (كذا) نور ومن بين البيار اللي حفرت أخيرا، آبار تمرنْه وتسقي 300 هكتار من النخيل وآبار الواد سوف (200 هكتار) وآبار ورغلة (يقصد ورقلة) بـ(300) وآبار سيدي خالد 120 هكتار”.
الحَــرْكَــى والقــومــيــة بــلــغــة الأرقـــــام!
أما الصفحة الثالثة، فتضمّنت مجموعة من الأخبار ذات الخلفية الاستعمارية، على غرار: (بوليس البادية) من العملاء، حيث ذكر صاحب الخبر أن عدد أفراده بلغ “9000 بوليس فرنسي مسلم”، وقد أَغْدَقَ عليهم الجيش الفرنسي بأنواع التكريمات وأصناف النياشين - حسب ما ذكرت الجريدة ـ- “ويكفينا ذكر أعمالهم باش تشوفوا مبلغ إخلاصهم، 500 منهم ربحوا نياشين في المعارك وقتل 200 منهم 10 ضباط”! إنها فعلا نياشين! ولكنها نياشين العمالة والخيانة التي ألقت بهم وبأسمائهم في مزبلة التاريخ.
وفي مقال قصير آخر، أطلقت الجريدة اسم “جيش الشعب” على عملائها المأجورين من الحَرْكَى والقومية ــ بتفخيم حرف القاف حتى يكون ذا دلالة قوية، والذين - حسب زعمها - يطاردون جيش التحرير الوطني الذي وصفت أفراده بـ«القتلة والمجرمين والإرهابيين”.
والملفت للانتباه - وفي إحصاء رسمي - أن الجريدة حدّدت عدد الحَرْكَى والقومية الذين وصفتهم بأنهم: “المتطوعون في الجيش النظامي الفرنسي”، والذين بلغ عددهم “30 ألف مسلم.. و7000 من المخازنية” وهذا خلال عام 1957، على اعتبار أن هذه الأرقام وردت في هذا العدد من جريدة (الحقائق) لشهر أكتوبر 1957. ومن هؤلاء من ولدوا بفرنسا ومن ولدوا بالجزائر، ولا فرق بينهما، حسب الجريدة التي وصفت هذا التفاهم المزعوم بينهما بأسلوب منحط خليط بين (فصحى وعاميّة وفرنسية هجينة)، لا يرقى إلى مستوى (إنشاء) تلميذ في الطور الابتدائي: “هناك تفاهم بين المدعو المزيود في فرنسا والمدعو المزيود في الجزائر، وكثيرا ما تعزز بينهم محبة تدوم بعد انتهاء السرفيس”! ودون أن يدري صاحب المقال فقد فَصَل بين (فرنسا) وبين (الجزائر) فجعلهما وطنين مختلفين!!
     كما تناول العدد ذاته، ألـ (12 ألف متطوع) من الخونة الذين - حسب الجريدة - “يحوسوا في الجبال وينجحوا بالعمليات الحربية ويثبتوا في كل مكان ثقة الناس فيهم. وظهروا هذوك الجنود رجال فُحول.. ودخلوا في الجيش الرسمي ظهروا مثال للمجنّدين الصغار (أي للبوجادية)”.
الــطــعـــن في بـــرامـــج الإذاعـــات العــربــيــة المــــوجــّهــة لـــصالـــح الـــثـــــورة
وفي الصفحة ذاتها، حاول معدّها إلصاق جرائم القتل والذبح والتنكيل بجيش التحرير الوطني! نَاسِبًا هذه المعلومة المغلوطة إلى إذاعة دمشق العريقة، بقوله: “يعمل المجرمون جرائمهم دائما في الظلام. هذه المرة الأولى التي تقول فيها إذاعة دمشق الحق. لأن مجرمي جبهة التحرير الوطني ينتهزون فرصة الليل ليذبحوا المسلمين في مساكنهم. ففي ظلمات الليل ينتهكون حرمات نسائكم وينكلون بأطفالكم، إن الثائر يهوم في الليل كالذئب ويزرع العنف والكراهية إنه لا يجسر على أن يرى نفسه في ربيع النهار”.
هذه الأراجيف والأباطيل ينطبق عليها المثل العربي: “رَمَتْنِي بدائها وانْسلَّتْ”، والمثل الشهير: “يكاد المريبُ يقول خُذُوني”! ونحن نعلم علم اليقين وبشهادة عديد الضباط والجنود الفرنسيين الذين وثّقوا شهاداتهم الحية في مذكراتهم المطبوعة ولقاءاتهم الإعلامية أنّ هذه الأوصاف الإجرامية والسلوكات اللاإنسانية والمذابح الرهيبة هي من صفات الجيش الفرنسي وبني قومهم من المستوطنين، ونعلم كذلك أنّ إذاعة دمشق وغيرها من الإذاعات العربية كانت لسان صدق للثورة الجزائرية، وكان أثيرها مفتوحا أمام البرامج والحصص الموجّهة لفائدة ملحمة نوفمبر وبياناتها السياسية والعسكرية.
وقد تطرّق صاحب المقال الذي كان مدعّما برسوم كاريكاتورية ساذجة وغير معبّرة ــ نماذج من هذه الجرائم وأعمال الإبادة التي قام بها الجيش الفرنسي ونسبها زورا إلى جيش التحرير الوطني في كلّ من: آقبو وغيليزان وبنتييفر وغوفي وواد السَّمَّار وفكرام.. هذه الأخيرة التي ذبح فيها الفرنسيون “27 شخصا وجرحوا 16 جروحا خطيرة.. وبمزرعة قرب سعيدة ذبحوا 27 عاملا”!. ولا ندري فحوى مشكلة جريدة (الحقائق) مع (الرقم 27)! ومع صاحب مقال (السفاكين اللي يجو في الليل)! لنتيقّن أنّ هذه النشرية التي أطلقت على نفسها افتراءً عنوان (الحقائق)، لا تملك من هذه الصفة سوى الإسم، وكان الأجدى بالقائمين عليها أن ينعتونها بـ (جريدة الأباطيل).

الحلقة الأولى

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024