نعـرف أن البحـر أوسع من حــدود الجزائـر.. وأردنــاه أن يعـرف أن الجزائــر أوســع مـن خوفـه
بلغت الثورة الجزائرية، في منتصف الخمسينيات، منعطفًا استراتيجيًا حساسًا، إذ احتدمت المواجهة مع الاحتلال الفرنسي على جميع الجبهات، من الجبال إلى المدن، ومن الحدود البرية إلى السواحل البحرية.. في تلك الأجواء المحتدمة، ظهرت فكرة جريئة وغير مألوفة.. تشكيل وحدة بحرية خاصة من نوع “الضفادع البشرية”، من أجل تنفيذ عمليات نوعية ضد الأهداف البحرية الفرنسية، في إطار ما وصفه الدكتور حمري عيسى بـ«نقل المعركة إلى مجال لم يكن الاحتلال يتوقّعه، وجعله يدفع ثمن احتلاله حتى في الموانئ المحصنة”.
يذكر الدكتور حمري عيسى، في مقال موسوم بعنوان: “تكوين كوموندو فرقة الضفادع البشرية أثناء الثورة التحريرية.. 1956-1962”، أن هذه المبادرة لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت “ثمرة قراءة واعية لموازين القوى، وفهم عميق لحدود الأساليب التقليدية في مواجهة قوة استعمارية متفوقة عسكريًا”. فقد أدركت قيادة الثورة أن السيطرة الفرنسية على البحر تمنحها تفوقًا لوجستيًا خطيرًا، إذ كانت خطوط الإمداد مفتوحة عبر المتوسط، بينما يجعل الثوار الجزائريين محرومين من أي منفذ بحري فعّال.
السياق التاريخي والضرورة الاستراتيجية
مع بداية 1956، كانت فرنسا قد كثفت من حصارها البحري، مستعينة بأسطول متطور وقواعد متقدمة في وهران والجزائر العاصمة وعنابة، ولقد وصف الدكتور حمري هذه المرحلة بأنها “زمن الإطباق البحري”، حيث تحولت الموانئ الجزائرية إلى ثكنات عسكرية، وأصبح البحر “حديقة خلفية آمنة” للجيش الفرنسي، وهنا برزت الحاجة إلى أسلوب غير متوقع، يكسر هذه المعادلة ويحوّل البحر من مجال سيطرة فرنسية إلى مسرح مقاومة.
في هذا الإطار، جاءت فكرة تكوين فرقة “الضفادع البشرية” على غرار الوحدات الخاصة التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، مثل الكوماندو الإيطالي في لا سبيتسيا أو وحدات البحرية البريطانية في نورماندي. وقد أشار المؤلف إلى أن “الاستلهام لم يكن تقليدًا أعمى، بل تكييفًا ذكيًا مع ظروف الثورة الجزائرية وواقع الساحل المتوسطي”.
التأسيـس والتدريــب السـرّي
بدأت القصة فعليًا حين تلقى عدد من المناضلين البحريين تكوينًا متخصصًا في دول صديقة، بترتيب سرّي من قيادة جبهة التحرير. كان التدريب قاسيًا، يشمل الغوص الليلي، التعامل مع المتفجرات تحت الماء، وعمليات التسلل الصامت. يقول بحري: “كان البحر صديقنا وعدونا في آن واحد، يعلمنا الصبر كما يختبر حدودنا البدنية والنفسية”.
وقد اعتمدت الخطة على اختيار عناصر تتميز باللياقة العالية، الانضباط الحديدي، والقدرة على العمل في عزلة تامة. ويصف بحري هذه المرحلة بقوله: “لم يكن يكفي أن تعرف السباحة أو الغوص، كان عليك أن تصبح جزءًا من البحر، أن تختفي فيه كما تختفي قطرة في الموج”.
أولى العمليات.. ضرب العمق البحري
كانت أولى العمليات التي نفذها الكوماندو بمثابة اختبار حي لقدرتها على اختراق التحصينات البحرية الفرنسية، فقد استهدفت العملية إحدى السفن الراسية في ميناء وهران، حيث تمكن الغواصون من تثبيت عبوات ناسفة على هيكلها تحت سطح الماء، مبرمجة على الانفجار بعد مغادرتها الميناء. وبالفعل، أدى الانفجار إلى إغراق السفينة في عرض البحر، ما شكل صدمة للقيادة العسكرية الفرنسية.
ويؤكد بحري أن هذه العملية “لم تكن مجرد نجاح تكتيكي، بل كانت إعلانًا أن الثورة باتت قادرة على الوصول إلى أي مكان، حتى في قلب التحصينات البحرية الاستعمارية”..
التأثير النفسي على الاحتلال
أحدثت هذه العمليات تأثيرًا نفسيًا بالغًا على البحرية الفرنسية. فقد تحولت الموانئ التي كانت قبل ذلك رموزًا للأمان والسيطرة، إلى نقاط قلق دائم، وأصبحت الدوريات أكثر تشددًا، وأُنشئت فرق خاصة لمراقبة أعماق الموانئ. غير أن بحري يوضح أن “تكلفة الإجراءات الفرنسية كانت في حد ذاتها انتصارًا للثورة، إذ أجبرت العدو على تخصيص موارد هائلة لمواجهة تهديد محدود العدد، لكنه كبير التأثير”.
شهادات ميدانية وتفاصيل إنسانية
لا يخلو عمل الدكتور بحري من لمسات إنسانية تنقل القارئ إلى قلب الحدث، ففي إحدى الصفحات، يروي المؤلف مشهد أحد الغواصين وهو يخرج من الماء بعد عملية ناجحة، وابتسامة الإرهاق على وجهه، قائلاً لرفيقه: “لقد كان البحر اليوم معنا، لا ضدنا”، كما يذكر مواقف بطولية لأفراد واجهوا الموت في الأعماق، إما بسبب عطل في أجهزة التنفس أو تيارات بحرية قوية، لكنهم ظلوا متمسكين بإنجاز المهمة.
الدعم اللّوجستي وشبكات المساندة
لم يكن نجاح هذه الوحدة ممكنًا دون شبكة دعم لوجستي محكمة، شملت تهريب المعدات عبر قنوات سرية، وتوفير قوارب صغيرة للتسلل، وحتى إخفاء الغواصين في منازل آمنة قرب السواحل. وقد اعترف بحري بدور “المدنيين البسطاء الذين خاطروا بكل شيء لتوفير مأوى أو وجبة ساخنة لمن يعود من البحر في منتصف الليل”..
التكامــل مـع باقـي جبهــات القــتال
رغم أن “الضفادع البشرية” كانت فرقة متخصصة، فإن عملياتها لم تكن معزولة عن باقي الجبهات. فقد كان ضرب السفن أو تعطيل الموانئ يتزامن أحيانًا مع هجمات برية أو عمليات فدائية في المدن الساحلية، لخلق حالة تشتيت قصوى للقوات الفرنسية. يعلق بحري قائلا: “كان الهدف جعل العدو يشعر أن الخطر يأتيه من البر والبحر والجو، في وقت واحد”.
مقارنـــة مــع تجـــارب عالميــة
يلفت بحري النظر إلى أن هذه التجربة، رغم محدودية إمكاناتها، تقارن في جرأتها بعمليات نفذتها قوى كبرى. ففي فيتنام مثلاً، استخدم الفيتكونغ تكتيكات مشابهة لضرب السفن الأمريكية في الموانئ النهرية، وفي الحرب العالمية الثانية، نفذت وحدات إيطالية عمليات غوص جريئة ضد الأسطول البريطاني في الإسكندرية، لكن الفرق، كما يوضّح بحري، هو أن “الضفادع الجزائرية كانت تعمل في ظل حصار شامل، ومن دون أي قاعدة بحرية خاصّة بها”، ومع ذلك قدّمت مشاهد بطولية رائعة خلّدها تاريخ الثورة المجيد، وإن لم تكن الطريق مفروشة بالنجاح الدائم، فقد فشلت بعض العمليات لأسباب تقنية أو بسبب تشديد الرقابة الفرنسية. وأحيانًا كان البحر نفسه خصمًا عنيدًا، بأمواجه العاتية وبرودته القاتلة. ويسرد المؤلف حادثة مأساوية لفقدان اثنين من الغواصين في عرض البحر بعد أن جرفتهم التيارات بعيدًا عن نقطة الالتقاء. ومع ذلك، ظل الإيمان بالقضية هو المحرك الأساسي للاستمرار، وهذا نجاح آخر يشرح إيمان الجزائري بقضيته العادلة، واستماتته في الدفاع عن كرامته وحريته.
الإرث والدلالـــة التاريخيــة
مع نهاية ثورة التحرير المباركة عام 1962، تركت فرقة “الضفادع البشرية” إرثًا يتجاوز إنجازاتها الميدانية. فقد أثبتت أن الابتكار والجرأة يمكن أن يغيرا قواعد اللعبة، حتى في مواجهة قوة عسكرية ضخمة. كما رسخت فكرة أن البحر، الذي طالما استُخدم كأداة سيطرة استعمارية، يمكن أن يتحوّل إلى ساحة مقاومة فعّالة.
كلمة منيرة نقلها الدكتور بحري في مقاله، تلخص فلسفة هذه الوحدة الجبارة التي اقتحمت البحر، وأوردت المستعمرين مهالك لم يكونوا يتوقعّونها بعد أن اطمأنوا إلى أن سيطرتهم على البحر مكتملة لا جدال فيها، فجاء من يقول لهم بثقة الثوري الكبير: “كنا نعرف أن البحر أوسع من حدود الجزائر، لكننا أردناه أن يعرف أن الجزائر أوسع من خوفه”..
رحم الله الشهداء الأبرار، وجزاهم عن الجزائرييين جميعا خير الجزاء.