منذ اندلاع الثورة التحريرية، عملت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي بالجزائر، ممثلة في شخص الجنرال شريار قائد القوات الفرنسية بالجزائر، التي كانت تُسمى الناحية العسكرية العاشرة، على اتباع رد فعل عنيف تجاه الثورة التحريرية الوطنية التي كانت تهدد الوجود الفرنسي. فاتجه الكولونياليون إلى اتباع سياسة قائمة على تدمير خلايا الدعم والإسناد التي أنشأتها قيادة الثورة الجزائرية..وبسبب هذه السياسة الإجرامية تعرضت عائلات القادة والمجاهدين بمنطقة تبسة إبان ثورة التحرير الوطني (1954-1962) إلى أبشع الممارسات اللاإنسانية التي طبقتها السلطات الاستعمارية الفرنسية في حقهم..
صبّ الكولونياليون الفرنسيون جام حقدهم على أسر المجاهدين، باعتبارها المنبع والحاضن الذي نشأ فيه الثوار الذين تحدوا كل الظروف والعوائق من أجل تحرير الجزائر وطرد الاستعمار الفرنسي. لذلك سلطت عليهم أنواعا مختلفة من التعسف من السجن إلى التعذيب والحرق الإعدام الفردي والتصفية الجماعية، إلى جانب هدم البيوت وسلب الممتلكات الشخصية والاستيلاء على المواشي، وهذه كلها ترقى إلى مصاف جرائم حرب في الشرائع والقوانين الدولية المعترف به.
تصفيـة أقـارب للشهيـد عثمـاني أحمد
الشهيد أحمد بن إبراهيم عثماني (1936/1956) المكنى فريد، هو أحد طلبة معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة الذين التحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني، خلال بداية شهر جانفي 1955 رفقة زملائه الطلبة الوردي قتال، محمود بوطمين، عبد القادر أكلي ومحمود ولد القايد، أين ضمهم القائد شيحاني بشير إلى الطاقم الإداري الناشط بمقر الإدارة والقيادة بالقلعة الواقعة بجبل ششار، وكلفهم بإنجاز الأعمال اليومية الخاصة بالمجاهدين.
وسرعان ما أثبت أحمد عثماني كفاءة ومهارة كبيرة حتى أضحى يشارك القائد بشير شيحاني في بناء وتحرير الرسائل، ليعين بعد ذلك نائب للقائد جيلاني السوفي قائد منطقة الحدود الجزائرية التونسية، وسرعان ما خلفه بعد استشهاده أين واصل تأدية مهامه إلى غاية استشهاده، خلال بداية شهر مارس 1956 في جبال الأوراس.
أما والده إبراهيم بن محمد بن أحمد، فيعد واحدا من بين المناضلين الذين شرعوا في الإعداد والتحضير للثورة بمنطقة تبسة، وقد عرف بعدائه الشديد للاستعمار الفرنسي وكل من يتعامل معه، حيث لم يتوان في ضرب “شنبيط” ضربا مبرحا خلال السوق الأسبوعية التي تقام بمدينة الشريعة. ونظرا لأنشطته الوطنية فقد كان محل متابعة من طرف الأجهزة الأمنية الفرنسية التي خصصت له بطاقة معلومات أوردت فيها الآتي:
- عثماني إبراهيم بن محمد بن أحمد مولود 1901 بدوار الشريعة رقم 4415.
- 11 مارس 1956 عون اتصال للفلاقة، حيث يوجد ابنه بينهم عنصر يجب إبعاده من الشريعة، حيث يكون دوره ضارا. ساهم في إبعاد السكان للجوء إلى المحكمة الرسمية للقاضي المصلحة المحكمة المحلية للمتمردين.
- 18 أفريل 1956 أب عثماني أحمد رئيس عصابة معروف تحت اسم سي فريد، حاليا في سجن الشريعة في انتظار تحويله.
ولم تنتظر السلطات الاستعمارية الفرنسية كثيرا حتى أقدمت على تصفيته في مرتفعات جبل القعقاع، فخرج محمود مسعود ابن أخته للبحث عن جثمانه، فوجده مغطى بكومة من الحجارة وقد اخترقته رصاصات كثيرة استقرت في رأسه وصدره، وإلى جانبه جثمان الشهيد عطية عطية الذي تمت تصفيته أيضا، فقام بتفتيش ملابس الشهيد إبراهيم عثماني فوجد في جيبه بطاقة تعريفه و15000 فرنك فرنسي، ثم فتش في ملابس الشهيد عطية عطية وأخذ منها أوراقه الشخصية إلى أهله وبعد تصفية الشهيد إبراهيم عثماني، أقدمت السلطات الاستعمارية الفرنسية على تصفية أخويه الشقيقين (يونس وبلقاسم). وكلفت أفرادا من فرقة القومية برميهما في قعر بئر تقع في أولاد إبراهيم بجهة بئر مقدم”.
الانتقام من عائلة المجاهد القائد محمود الشريف
أظهرت السلطات الاستعمارية الفرنسية بمنطقة تبسة رد فعل عنيف تجاه التحاق محمود الشريف (1911/1987) بصفوف جيش التحرير الوطني يوم 10 أفريل 1956، ويتضح لنا ذلك من خلال تتبع المعلومات الواردة في ملفه وملف شقيقه أحمد الشريف المحفوظين في أرشيف ما وراء البحار الفرنسي، أين نقف على تفاصيل تاريخية في غاية الأهمية تكشف لنا عن الكيفية والإجراءات التي تعاملت بها السلطات الاستعمارية الفرنسية تجاه أفراد أسرته. والتي يطغى عليها العنف والتخبط والعشوائية.
بداية هذه الإجراءات - وفقا لمحتوى التقرير المرجعي رقم 268 الصادر عن درك الشريعة يوم 11 أفريل 1956 - كانت بقيام نقيب “كونور” الفصيلة الإدارية المتخصصة بالشريعة، بنقل العتاد الفلاحي الخاص بالشريف محمود إلى مركز الشريعة. ثم بدأت في تتبع العلاقة بين المجاهد محمود الشريف وأفراد أسرته. في هذا الإطار، نقف على تقريرين مرجعيين مهمين الأول يحمل رقم CLEA Tebessa/545/5 صادر بتاريخ 25 أفريل 1956م، ويكشف بأن محمود الشريف يوجد مع مجموعات الجبل الأبيض..أين يقوم من حين إلى آخر بتحرير رسائل إلى زوجته التي انتقلت إلى تبسة، وفي إحدى هذه الرسائل يطمئن أهله ويقول لهم بأنه سيدخل إلى تبسة بعد النصر.
أما التقرير الثاني فيحمل رقم 305 والصادر بتاريخ 09 ماي 1956، فيكشف بأن محمود الشريف يوجد في الجبل الأبيض مع المسمى بوزيد، وكتب إلى أخيه الشريف الهادي يطلب منه الانضمام إلى الثوار”. لتلجأ السلطات الاستعمارية الفرنسية بعد ذلك إلى اتباع أسلوب الانتقام من أسرة محمود الشريف، حيث ألقت مصالحها الأمنية القبض على شقيقه أحمد الشريف بمدينة تبسة يوم 26 ماي 1956م، واقتادته إلى ثكنة “نقربي” وفقا لما يذكر التقرير المرجعي (CLE/927 Tebessa)، حيث تعرض للتعذيب الشديد من طرف زبانية الاستعمار الفرنسي، وظل يعاني من أثار التعذيب الذي تعرض له لفترة زمنية طويلة”.ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية وكرد فعل منها على تجنيد محمود الشريف، بمصادرة مزرعته وسكنه، إضافة إلى أنها صادرت محولا كهربائيا وجرارا ومقطورة ونقلتهما إلى مقر الفصيلة الإدارية المتخصصة بالشريعة”.
تصفيــة أقارب للمجاهد القائـد مقداد جــدي
هو مقداد بن الحفناوي بن المكي جدي وشيلة بنت محمد جدي (1929/1995)، التحق بصفوف جيش التحرير الوطني بمنطقة تبسة خلال شهر جانفي 1955 شارك في معارك كثيرة على غرار معركة غوط هود شبكة بواد سوف (أوت (1955) وأصبح أحد القادة الميدانيين البارزين بمنطقة تبسة التي تولى قيادتها خلال سنة 1958. ولهذا السبب، كثفت السلطات الاستعمارية الفرنسية من جهودها لإلقاء القبض عليه.
ولمتابعة أفراد عائلة المجاهد جدي مقداد، أعدت السلطات الاستعمارية الفرنسية بطاقة أمنية لشقيقه جدي لمين بن الحفناوي بن المكي وابن شهلة بنت محمد مولود في 27 فيفري 1937 بدوار الشريعة رقم 341 وأوردت فيها المعلومة الآتية: أخ رئيس العصابة جدي مقداد.
وعندما يئست السلطات الاستعمارية الفرنسية من البحث عن مقداد جدي وابن عمه بلقاسم في الدوار الذي يسكن فيه أبواهما، قامت بإلقاء القبض على والده الحفناوي بن المكي جدي، وشقيقه لمين، وأقاربه محمد بن المكي ومعمر جدي.. والذين أعدموا في مجزرة جماعية ارتكبت خلال شهر ديسمبر 1957 بالمكان المسمى الحميمة السوداء بدوار ثليجان استخدم فيها الجنود الفرنسيون الأسلحة الحربية والبيضاء، وهذه أسماء الشهداء:
جدي الحفناوي بن المكي، جدي لمين بن الحفناوي، جدي محمد بن المكي، جدي معمر بن محمد، براهمية مختار بن الحاج، قواسمية سالم بن حامد الزيدي، جاب الله المدعو بوطبة بن العربي.
تصفيـة المناضـل الهويــــدي بـــن محمــد تومي
ولد المناضل تومي لهويدي بن محمد وصحرة بنت صالح فرحاني في دوار المزرعة (1900/1957)، وفيه نشأ ومارس مهنة تجارة المواشي أين كان يتنقل بين أسواق خنشلة والشريعة”.
وانخرط بمعية صديقه الحمزة أحمد بن حمادي في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. وبعد اندلاع الثورة التحريرية انخرط في صفوفها. وقد التحق ابنه أحمد (1923/1961) بصفوف جيش التحرير الوطني بمنطقة تبسة، وأصبح قياديا بارزا ومسؤولا عن التموين بالمنطقة، وقد تحول بيت العائلة الواقع في جهة كاف النسورة إلى مركز لتموين المجاهدين، أين كان المناضل لهويدي تومي يقوم بتأدية هذه المهمة رفقة ابنه مختار الذي كان يجمع المؤونة والملابس ويخزنها ثم ينقلها إلى معاقل المجاهدين، إضافة إلى القيام بنقل البريد أيضا.
ونظير جهوده النضالية، عينته القيادة الثورية بمنطقة تبسة خلال سنة 1956 مسؤولا عن مركز للتموين، ورئيس للجنة خماسية بجهة زورة العراوي (بلدية المزرعة حاليا)، حيث كان يقوم بتأدية نشاطات مختلفة أهمها جمع الاشتراكات من عند المناضلين، وتموين المجاهدين ويجمع الزكاة (العشور) خلال مواسم الحصاد.
وفي سنة 1957، داهمت فرقة عسكرية فرنسية بيته واعتقلته واستولت على رؤوس الماشية التي كان يربيها، واستولت على أثاث البيت والحلي الموجود به ولم تسلم حتى الكلاب من إجرامها، فقد قتلت بدم بارد. ثم نقل المناضل الهويدي بن محمد تومي إلى سجن الشريعة أين استشهد تحت التعذيب.
تصفيــة المناضل علـي بــن أحمـد زارعي
ولد المناضل علي بن أحمد بن عباس زارعي، وفاطمة بنت محمد خلال سنة 1896 بدوار تازينت بلدية تبسة المختلطة، شارك في الحرب العالمية الأولى وفقد فيها ذراعه اليسرى..بعد اندلاع الثورة التحريرية، انخرط في صفوفها مسخرا جهوده وماله لخدمتها، ومحولا بيته الواقع في مرتفعات تار غروست والقعقاع إلى مركز لتموين إخوانه المجاهدين، ونظير الخدمات الجليلة التي قدمها لجيش التحرير الوطني، عينته القيادة الثورية بمنطقة تبسة، مسؤولا مدنيا عن قطاع القعقاع وتار غروست وجزء من تازينت، وكان يستقبل في بيته كبار القادة على غرار فرحي ساعي، فرحي بشير بن عثمان ومعلم خليل الذي كلفه بتنفيذ عدة مهام ثورية بمدينة تبسة، وأشرف على تجنيد عدد من شباب المنطقة.
ونظرا لوجود بيته في موقع استراتيجي، فقد كان يستقبل دوريات وكتائب المجاهدين القادمين من مختلف الولايات الداخلية، قبل مرورهم إلى الأراضي التونسية. وقد قدمت عائلة المناضل علي بن أحمد زارعي كل ما تملك لمصلحة الثورة التحريرية، والتحق عدد من أبناء الأسرة بصفوف جيش التحرير الوطني. وفيهم من استشهد، فقد التحق ابناه مسعود المولود في 08 جوان 1924 والذي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في سنة 1955، واستشهد شقيقه المناضل زارعي صدوق بن أحمد المكنى الصادق، والذي قدم بدوره شهيدين هما زارعي الزهر بن الصادق مولود في 1930 بتبسة، وكان عسكريا في إطار التجنيد الإجباري الذي فر منه والتحق بصفوف إخوانه المجاهدين خلال سنة 1955..ألقت عليه السلطات القبض في 26 نوفمبر 1955 في منطقة القبائل، وحكم عليه بالإعدام، واستشهد في 26 أفريل 1957 جراء التعذيب البشع.
أما شقيقته حفصية بنت أحمد زراعي، فقد قدمت بدورها شهيدين هما الطاهر بن جاب الله، الطالب السابق في معهد عبد الحميد بن باديس، وبلقاسم بن جاب الله، أما شقيقته مباركة بنت أحمد زارعي فقد قدمت بدورها شهيدا وهو عمراني الوردي بن عبودة (1925/1957).
أما شقيقه إبراهيم بن أحمد زراعي، فقد قدم مجاهدا وهو علي المكنى علاّ، في خضم ذلك واصل المناضل علي بن أحمد زراعي نشاطه الثوري بعزيمة وإصرار متحديا كل الصعاب التي عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على وضعها في سبيل المناضل بهدف توقيف عمليات الدعم التي يقوم بها لمصلحة الثورة التحريرية، لكنها لم تتركه وشأنه، وكلفت إحدى وحداتها العسكرية يوم 17 جانفي 1958 بإلقاء القبض عليه واقتادته إلى مقر الفصيلة الإدارية المتخصصة بالشريعة (حسب التقرير - المرجعي Chera 109) والذي جاء فيه: “مسؤول تم توقيفه”..واستشهد بعد ذلك على يد زبانية الاستعمار الفرنسي في ظروف غامضة ودخل في سجل المفقودين، ولم تعرف الأسرة إلى يومنا هذا الموقع الذي دفن فيه”.
الحلقة الأولى