يوم الأحد 23 أفريل 1871م خرج الكولونيل فورشو في ساعة متأخرة من النهار قد تكون الساعة الثامنة مساء من معسكره بالعلمة ( بودواو ) ساعيا إلى فك الحصار عن المستوطنين في باليسترو. غير أن الكولونيل وفرقته لم يصلوا إلى عين المكان إلا يوم الاثنين 24 أفريل على الساعة الثانية زوالا بعد أن ساروا طيلة 18 ساعة من دون توقف ودون أن يتعرضوا لأية مناوشات أو عوائق خلال مشوارهم..
وفي باليسترو حيث كانت الوحشة مخيمة لم يعثر الكولونيل فورشو وجنوده على أي أثر لبقية المستوطنين الذين لا يعلمون حتى تلكم الساعة عن مصيرهم أي شيء يذكر، غير أنهم صادفوا واحدا مسكينا من الأهالي أرداه الجنود الفرنسيون قتيلا؛ بعد أن قادته قدماه إلى الديار المدمرة باحثا عن أي شيء من المتاع يمكن أن يستفيد منه في هذه الأوضاع التي تميزت بفقر الأهالي الجزائريين.
وبعد التعب والإرهاق الذي أصاب تلك الفرقة العسكرية التي يقودها العقيد فورشو، كان عليهم أن يقضوا ليلة 24 و25 أفريل في وسط مستوطنة باليسترو، حيث كانت ليلتهم هادئة. أما العودة إلى مركزهم العسكري في بودواو فقد كانت يوم 25 أفريل، ولكن بمجرد خروجهم من باليسترو تلقفتهم 1200 بندقية من كل جهة، حيث كان أهالي دوار الزواتنة، عمال صنهاجة وبني خلفون في الموعد، غير أن المدفعية التي كانت بحوزة العقيد جعلت الثوار لا يتمكنون من الاقتراب من القافلة العسكرية ومع ذلك فقد تابع الثائرون ترصدهم لهذه القافلة العسكرية في انتظار الفرصة المواتية للانقضاض عليها.
واستمر الترقب كذلك حتى وصلت القافلة إلى فج تامزريت حوالي منتصف النهار، وعند ذلك انسحب الثوار عندما لاحت في الأفق، قبيل الوصول إلى خميس الخشنة، الفرقة العسكرية التي كان يقودها النقيب بريير (capitain Bruyere) الذي كان مسؤولا عن تلك الجهة. وقد كان متبوعا بسرية تحمل المؤن الغذائية..خبز قهوة ومواد أخرى للجنود الذين أتعبتهم مسيرة 48 ساعة. وفي المساء عسكر جنود العقيد فورشو في مخيم عسكري أقاموه بالفندق (خميس الخشنة). ليدخلوا مقر معسكرهم في بودواو يوم 26 أفريل.
أما الأنباء الرسمية الأولى عن الأسرى فقد أوردها إلى العاصمة بصفة مباشرة يوم 09 ماي الشاوش القديم في المكتب العربي بذراع الميزان محمد أوسعيد النزليوي الذي كان محبوسا في سجن الحراش، وقد أطلق سراحه بغرض الحصول على المعلومات التي تخص أولئك المستوطنين الأسرى؛ لأن هذا الشاوش كان ذكيا جدا وهو من دفع الحاكم الأعلى لذراع الميزان commandant Jobst إلى الانتحار، بعد أن فشل هذا الأخير في احتواء الوضع الذي كان يحضر لاندلاع الثورة.
وعاد محمد أوسعيد النزليوي إلى العاصمة يحمل الرسالة التي تمكن من الحصول عليها من الأسرى أنفسهم والتي خطتها بيدها السيدة .... Mme V إلى السيد بارنيون (Barnéond) مدير السجن الذي أرسل الشاوش السجين في هذه المهمة الخاصة، وقد كانت الرسالة مفتوحة حتى يتمكن من إظهارها لفرق الجيش الفرنسي أثناء عودته كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ومما جاء فيها: لقد اتصلنا بالترخيص الذي أعطي للسيد محمد أوسعيد من طرف السيد بارنيون. ألف شكر على العناية والاهتمام الذين نحظى به عندكم. إننا نقيم حاليا عند سعيد قايد بني خلفون. أنا وطفلي والخادمة والجندي والنقيب أوجي و34 مستوطنا من سكان باليسترو. وطي هذه الرسالة وضع النقيب أوجي قصاصة صغيرة كتب عليها الكلمات التالية: نرجو من السيد بارنيون أن يخبر السيد الحاكم بالعاصمة أنني أقيم حاليا عند قايد بني خلفون الذي استقبل مستوطني باليسترو...تحياتنا.
ومكث المستوطنون أسرى في دوار بني خلفون حتى تم تسليمهم إلى الجنرال سيريز يوم 13 ماي 1871، بعد أن بقوا هناك محبوسين لمدة 20 يوما يعاملون بكل كرم وسخاء. وهو ما جعلهم فيما بعد يشهدون لصالح سعيد أو علي ويطلبون من السلطات الفرنسية العمومية والعسكرية أن تعفو عنه بعد أن حكمت عليه المحكمة بالإعدام.
هذه إذن هي حلقة من حلقات ثورة 1871 التي يعتبرها الكثيرون من الناس أهم حدث ثوري طال الفرنسيين في باليسترو.
وبعد أن استتب الأمن في المستوطنة، وتمكن الفرنسيون من السيطرة الكاملة على الأوضاع، عمدوا إلى بناء نصب تذكاري أمام الخندق الذي دفنوا فيه من حيّدوا تخليدا للحادثة وأقاموا فوقه تمثالا لدومينيك باسيطي أول رئيس لبلدية باليسترو منوهين ببطولة المستوطنين وإنجازاتهم الحضارية في المنطقة!!
أما عمار بن كركود الذي قتل رمز الاستيطان في منطقة باليسترو، فلم يرد ذكره على الإطلاق وما كان أحد من الناس يذكره أو يعرف عنه شيئا، لولا المصادر الفرنسية التي ذكرت هذه الحادثة بالتفصيل غير أنها لم تعطنا معلومات عن الرجل ولم تذكر ما حدث له بعد ذلك.
وبقي اسم الرجل منقوشا على صفحات المصادر التي ذكرت الحادثة، ولكن العامة من الناس اليوم لا تكاد تعرف عن هذا المجاهد شيئا، وكان من الممكن أن يكون اسمه معلوما عند الجميع خاصة لدى أبناء المنطقة لو بقي النصب التذكاري قائما، غير أن الذي حدث غداة الاستقلال هو أن العامة دمرت النصب ومحت بذلك المعلم التاريخي الذي كان من المفروض أن يحافظ عليه مواطنو المنطقة تخليدا لتاريخ الحادثة واسم المجاهد الذي قضى على المستوطن.
الحــاج محمد المـقـراني يــسـتـشهد في منطــقــة باليسترو
بعد أن جمع المقراني حوله 4000 محارب عاد بهم على عجل إلى الجهة الغربية عبر جبال البيبان، حيث انضم إليه عدد كبير من محاربي بوجليل وبني مليكش وبني عباس وبني يعلى وبني منصور واتجه بهم نحو مدينة البويرة مركز قيادة الآغا بوزيد وكان ذلك في الفاتح من شهر ماي 1871م. في ذات الوقت الذي كان فيه الثوار الآخرون يواجهون القافلة العسكرية التي كان يقودها تروملي على الضفة اليسرى لوادي سوفلات.
وفي اليوم الخامس من شهر ماي عام 1871، وعلى الساعة الواحدة صباحا استعد الطابور العسكري الفرنسي للتوغل في هدوء محاولا عدم إثارة الانتباه لتحركه مستفيدا من الظلام الدامس الذي كان يخيم على تلك الجهة، وهو مدعم ببعض الخونة من القومية والصبايحية.
وعند الفجر، لاحظ الجنرال سيريز أن هناك جماعة من الثوار تحتل مرتفعات التلال، وعندما لاحت الشمس في الأفق شاهد رئيس السرية على الضفة اليسرى فريقا من الفرسان يتقدمون باتجاهه حاثين الخطى، وكان الحاج محمد المقراني من بين أولئك الفرسان حيث سمحت الراية التي ترفرف في مقدمة الفريق، بتحديد موقعه من دون خطأ.
وبدأ المجاهدون يحكمون حصارهم شيئا فشيئا على القوات الفرنسية، حيث قامت فصيلة من الرماة بالتسلل بمهارة وخفة وراء الصخور وعبر أشجار العليق، وأشواك الغابة معيقة تقدم الجنود الفرنسيين الذين انتابهم الرعب وأسرعوا الخطى، مما اضطر فوجا من العساكر الصبايحية إلى مهاجمة العناصر التي كانت تحاول الاقتراب من القافلة العسكرية الفرنسية بغرض إبقاء الثوار المجاهدين بعيدين عن كتائب الجيش الفرنسي، وهو ما مكن بالفعل تلك الفرق العسكرية الفرنسية من الوصول إلى برج الخروب بعد حوالي 10 ساعات من تحركها.
وقرر الجنرال سيريز القيام بعملية ابتزاز في قرية مجاورة ربما ليثبت لنفسه أنه ما يزال يسيطر على الوضع هناك، ويحتفظ حتى تلك الساعة بالمبادرة في العمليات العسكرية، حيث أرسل كتيبتين من الوحدة 23 للقناصة لإحراق المنطقة الواقعة في مواجهة البرج، بعد أن أرسل فيلقا من الفرقة الرابعة من السلك الزواوي لحمايتهم واحتلال الهضبة التي تطل على الهوة الواسعة.
واشتبك القناصة مع المجاهدين على مسافة قصيرة من المنطقة وتلاحم الجيشان بالسلاح الأبيض وكلهم عزم على القتال، واندحرت القوات الفرنسية أمام تدفق المجاهدين الذين منعوها من التقدم إلى الأمام بفعل الهجمات المتكررة الكاسحة.
ولم ينج من القوات الفرنسية في هذا الاشتباك إلا حوالي 30 جنديا فرنسيا تمكنوا من الانسحاب والالتحاق بمعسكرهم تحت قيادة ضابط صف مساعد، وتشتت الكتيبتان التابعتان للوحدة 23 للقناصة بعد أن خسرتا جميع الضباط في تلك المواجهة.
وتسارعت وتيرة المعركة فجأة وبعنف وانتقل المجاهدون إلى الهجوم في جميع الاتجاهات حيث هاجموا الخيالة بشراسة منقضين على الفرنسيين الذين كانوا يقاتلون منسحبين إلى الوراء نحو معسكرهم لأسباب دفاعية، وكون الناجون من الجيش الفرنسي حلقة متراصة لتفادي السقوط تحت ضغط التدفق الكبير لقوات المجاهدين التي بدت في أعين الجنود الفرنسيين وكانت أعدادها تتضاعف.
وفتح الزواويون الذين كانوا يحتلون مواقع محكمة ومموهة نيرانا مكثفة ومصوبة، وتلقى المقراني الذي كان في المقدمة رصاصة في جبهته ليسقط على الفور شهيدا، وأصيب عدد من المقاتلين الذين كانوا معه، وانسحب الناجون من النيران المكثفة واختفوا..ثم عاودوا الكرة من جديد، وبعد بذل تضحيات جسام، تمكنوا من انتشال جثة زعيمهم، وحملوها بعيدا عن ميدان المعركة.
وفجأة ارتفع صوت مدوّ، ولكنه حزين وممزوج بالشهيق ليعلن وسط صخب الانفجارات وقرقعة السيوف عن سقوط الباشاغا محمد المقراني شهيدا في ميدان الشرف. وبذلك وضع هذا الصوت حدا للتراجيدية التي كان سيعيشها الطابور العسكري الفرنسي الذي كان يمكن أن يفنى عن آخره. وعندما علم بومزراق بنبأ الفاجعة العظيمة تحامل على نفسه وتولى القيادة العامة للقوات المسلحة للثوار.
وطار الخبر من تل لآخر حتى بلغ السهل، فنكست البنادق وتراخت السواعد، وخيم صمت ثقيل على جميع الصدور، أما الجنرال سيريز فقد بقي مذهولا مدهوشا لعدة لحظات، ثم قال متنفسا الصعداء: لقد أنقذتنا وفاته، وجدير بي أن أفرح وأبتهج إلا أن موته سبب لي حزنا كبيرا، فقد كان خصما شجاعا، وفيا ومقداما.
ووضع الجنرال سيريز قواته في استعداد والسلاح عند الأرجل وترحم على روح عدوه، وقد تمكن الجميع بفضل هذه الهدنة من مشاهدة قافلة الجنازة وهي تنقل الجثمان إلى قلعة بني عباس ليوارى الثرى تحت ظلال جبال جرجرة التي شهدت ولادته ونشأته، لتبقى ذكراه عطرة تتداولها الأجيال اللاحقة.
وخلف بومزراق أخاه الشهيد في قيادة الثورة إلى أن اعتقل في 20 جانفي 1872 بواحة الرويسات قرب ورقلة. وبذلك انتهت الثورة التي أسالت كثيرا من حبر المؤرخين والكتاب الفرنسيين لفهم أبعادها ومحاولة القضاء على كل ما قد يؤدي إلى تكرار مثلها. وقد سلط الفرنسيون الذين تمكنوا في النهاية من القضاء على سطوة ثوار 1871 أشد أنواع القمع والتنكيل بالأهالي الجزائريين الذين كان عليهم الصبر ومواصلة الكفاح حتى تحقق الاستقلال يوم 05 جويلية 1962م بفضل تضحيات الجزائريين.
المــقــراني الأســــطــورة بمــنــطــقــة بــالــيــســــترو
ولشدة تعاطف أهالينا في منطقة باليسترو مع مجاهدي ثورة 1871 فقد نسجوا حول شخصية الحاج محمد المقراني أسطورة تبين مدى الأمل الذي كان معقودا على هذه الشخصية التي صارت في وقت وجيز مثالا للرجل الصالح القوي الذي لا يغلبه الكفار وسينتصر عليهم بإذن الله..فقد كانوا يقولون عن الرجل أنه بعد كل معركة يفتح الحزام الذي يتمنطق به فتسقط عشرات الرصاصات التي أصابته في الجسد أثناء تبادل الطلقات النارية مع قوات الجيش الفرنسي المدعمين بالمجندين الجزائريين المتعاونين معهم دون أن تنال منه.
واكتشفت المخابرات العسكرية الفرنسية أن المقراني البطل يحمل حجابا يحول دون تمكن الرصاص من اختراق بدنه، ولذلك عهدوا إلى أحد الخونة باغتيال المقراني بواسطة الرصاص المصنوع من معدن الفضة بعد أن دلهم على السر أحد المتعاونين معهم ممن باعوا الذمة والدين. وقد تم تنفيذ العملية يوم 05 ماي 1871 م التي اغتيل على إثرها البطل محمد المقراني لتبقى حكايته ترويها الأجيال أبا عن جد، والكل يطرح أكثر من سؤال.
وبعد أن تم للسلطات الفرنسية السيطرة على الأوضاع الأمنية بعد القضاء على رموز الثورة راحت تسعى للقضاء على ما تبقى من الأهالي المغلوبين على أمرهم فكان أن ركزت اتهاماتها على العديد من المواطنين، على اعتبار أنهم مسؤولون عن الأحداث التي وقعت يومي 20 و 21 أفريل عام 1871 والتي أدت إلى تدمير مستوطنة باليسترو وتحييد العشرات من المستوطنين بها.
الإعــدام والــسجن لأهــالي المــنطـقـة
ومن بين الذين اكتووا بنار تعسف الاستعمار الفرنسي بعد نكبتهم وفشل ثورة 1871، نجد الإخوة الخمسة للبطل الشهيد المقراني وابنه، حيث شاركوا بكل قوة وحزم في الثورة التي تزعمها المقراني. إذ أنهم بعد أن قبضت عليهم السلطات الفرنسية وحوكموا صدرت في حقهم أحكاما تقضي بنفيهم إلى كاليدونيا حيث بقوا هناك حتى تحصلوا على الإعفاء من العقوبة.
أما فيما يخص المقدم سي محمد الصالح، حفيد شقيق بوقبرين، فقد اختفى عن الأنظار بمساعدة الأهالي، وبذلك لم تتمكن السلطات الفرنسية من القبض عليه خلال حملاتها الجهنمية ومتابعتها لكل المشاركين والمدعمين للثورة، إذ كان طوال المدة التي أعقبت فشل الثورة من 1871 وإلى غاية 1886 ينتقل من منطقة إلى أخرى، حيث يستقبل بحفاوة بالغة من طرف الأهالي بمختلف مناطق الشرق الجزائري وهو لا ينفك يدعو إلى الجهاد ومحاربة الفساد والوقوف في وجه الفرنسيين المحتلين الذين أهلكوا الزرع والضرع.
ولم يبق المقدم سي محمد الصالح البجاوي مكتوف الأيدي ينتظر مصيره المحتوم، بل اختفى عن الأنظار لأنه كان يدرك ما ينتظره على أيدي أعداء البلاد، بعد أن لعب دورا كبيرا في شحذ الهمم وتجنيد الرجال في مختلف الثورات السابقة منها ثورة الحاج اعمر وثورة لالة فاطمة انسومر ونفس المهمة قام بها في ثورة 1871.
الحلقة الثانية