منذ اندلاع الثورة التحريرية المباركة، ركزت القوات الفرنسية على تفتيش كل المناطق الجبلية، خاصة جبال الأوراس وقراها، واعتقلت كثيرا من المدنيين لمجرد الشبهة، ولم يزد ذلك المجاهدين إلا تصميما على الكفاح ومهاجمة القوافل الفرنسية، ونذكر من الهجومات ما قام به المجاهدون ليلة 7-8 أفريل 1955 حينما هاجموا فرقة الجندرمة وأصابوا أحدهم بضربة فأس تعبيرا على الانتقام من تعديه على السكان، وتتبع المجاهدون الخونة للقضاء عليهم، وهو ما وقع مثلا يوم 04/09 بناحية تبردقة، وهاجموا ليلة 09 إلى 10 أفريل الكتيبة العسكرية المتمركزة بقصر أولاد يوب شرق مشوتش، وهاجموا قافلة أخرى يوم 11 أفريل بناحية درمون شمال زريبة الوادي..
انتبه الفرنسيون منذ اندلاع الثورة إلى أن الداعم الأساسي للثوار هم سكان الجبال والريف الجزائري. ولذلك عمدوا إلى ترحيلهم وتشريدهم لمحاصرة المجاهدين ومنع تموينهم بالسلاح والغذاء. وقد انتهوا أيضا إلى أن الحصن الحصين للثوار في الجبال المنيعة، لذلك عمدت فرنسا إلى شق المسالك الجبلية لتتمكن من فتح المرور لعتادها الحربي وشاحناتها إلى معاقل المجاهدين. وقد انتبه المجاهدون لهذه الإستراتيجية الخطيرة، لذلك أصدروا أوامرهم للشعب كي يمتنعوا عن العمل في ورشات تعبيد الطرقات، وكان الأسلوب الأنجع هو مهاجمة القوافل ومراكز الدعم العسكري لمنعها من تنفيذ مخططاتها، لذلك نجد تكثيف الهجومات والكمائن والمواجهات المستمرة للقوافل والمراكز العسكرية ومنعها من الوصول إلى تحقيق أهدافها. وفي يوم 12 أفريل هاجم المجاهدون ثلاث شاحنات كانت تحمل القمح بين جلال وخنقة سيدي ناجي، وقضوا على 8 رماة من مجموع 23 وغنموا 16 بندقية حربية منها 3 بنادق رشاشة، وأحرقوا الشاحنات الثلاث.
كثف المجاهدون هجوماتهم على القوافل العسكرية دون هوادة، ففي يوم 12 أفريل 1955 هاجم المجاهدون قافلة عسكرية جنوب جلال وغنموا جهاز راديو نوع (536SCR). وانتشرت الدعاية الثورية بين المجندين في الفرق العسكرية مما أدى إلى فرار بعضهم والالتحاق بصفوف الثورة ومنهم تذكر أن أحدهم فر من مركز عامرة ليلة 15-16 أفريل وجلب معه بندقية رشاش (PM) و6 خزانات، ونظم المجاهدون كمينا محكما لقافلة فرنسية يوم 17 أفريل مساء، وسجلت التقارير الفرنسية تكبد قواتها اثنين قتلى من اللفيف الأجنبي وواحد جريح، وتم قطع المواصلات الهاتفية بين باتنة وأريس، ووزع المجاهدون مناشير تدعو الشعب إلى المقاطعة النهائية.
تخندق المجاهدون في المواقع الوعرة ونصبوا الكمائن للعساكر الفرنسيين بكل حكمة، وذلك ما وقع في يوم 02 أفريل 1955 بناحية أريس، حينما هاجموا القافلة العسكرية المارة بخندق بعلي قرب منعة، وحيّدوا بعض أفراد الحركى، وتكررت الكمائن ضد القوات الفرنسية بناحية الولجة ودوار تبردقة وجلال وعالي الناس، وتم يوم 17 أفريل الهجوم على قافلة عسكرية بدوار الولجة قرب شبلة، تمكنوا من تحييد ضابط وعدد من الجنود وجرح آخرين، واعترفت التقارير الفرنسية أن المجاهدين طوروا تنظيمهم العسكري وأسلحتهم وكثفوا من دعم صفوفهم.
وعرفت ناحية بسكرة هجوم المجاهدين على المركز العسكري بولاشن، وحاصروه من جميع الجوانب يوم 17 أفريل 1955، وتزامن ذلك مع هجوم بناحية الحجاج، وحيّد بعض الحركي والجنود الفرنسيين، وكان يوم 17 أفريل حافلا بالهجومات على القوات الاستعمارية، وهو ما وقع بالحجاج قرب أريس، إذ هاجم المجاهدون قافلة عسكرية متكونة في أغلبها من الحركى وحيّدوا بعضهم وجرحوا البعض الآخر، ومنهم والدة الحاكم الإداري التي نقلت إلى مستشفى باتنة، وذكر التقرير الهجوم الذي قاده القائد شريط لزهر على حافلة الرائد ميجال يوم 17 أفريل 1955 على بعد 4 كلم شمال الولجة وتم تحييده مع رفاقه، وانتقم المجاهدون للسكان وغنموا الأسلحة والمؤونة.
أهم ما بقي من تلك الغنائم، بغل استعمل في حمل الأسلحة ونقلها إلى المجاهدين في الجبال وعرف بينهم باسم (بغل ميجال)، وفي اليوم نفسه، واجه المجاهدون بناحية أريس فرقة اللفيف الأجنبي وحيّدوا اثنين وجرحوا آخرين بحسب التقارير الفرنسية.
وفي 4 ماي 1955 هاجم فريق من المجاهدين دار الغابات بشيليا واشتبكوا مع القوات الاستعمارية، ودامت المواجهة حتى المساء وسقط شهيد وجرح آخر، وتمكنوا من تدمير الهدف.
واشتبك حوالي 40 مجاهدا مع جنود الاحتلال شرق غرب خنشلة، وتلاه اشتباك آخر بالقرب منه، وعرفت منطقة فم الطوب اشتباكات عديدة بقيادة المجاهد نويشي الطاهر، أقر الفرنسيون بفقدان ضباط وجنود في هذه المعركة ووضع المجاهدون كمينا ناجحا لقافلة عسكرية بمنعة، وكبدوها خسائر مهمة، وحيّدوا بعض جنودها في مساء يوم 4 ماي ووقع اشتباك في نفس اليوم بجبل شيليا قادة نويشي طاهر. وتبغزة محمد الصغير وأسر إثر ذلك المجاهد معاش محمد بن بلقاسم متأثرا بجروحه واعترف الفرنسيون بفقدان بعض جنودهم.
حصار عين القصر.. جبل عمران وقطاع خنشلة
قامت القوات الاستعمارية بمحاصرة المجاهدين بموقع كاف بجبل عمران يوم 20 ماي 1955، واستمات المجاهدون في القتال، ووقعت مواجهة بين المجاهدين والقوات الاستعمارية يوم 21 ماي 1955 شاركت فيها الطائرات في ناحية خيران دوار عالي الناس، ودامت المعركة من الصباح إلى المساء، وفي اليوم نفسه، واجه المجاهدون المدفعية والطائرات والمزنجرات.. وقعت المواجهة يوم 22 ماي وعمت جبل حمام كنيف على حدود قطاع خنشلة ومسكيانة، وبحسب التقارير الفرنسية وقع عشرون شهيدا. وانقطعت الاتصالات الهاتفية بين بابار وتبردقة، ولجأت القوات الاستعمارية إلى اعتقال المدنيين مما يدل على خسائرها الكبيرة لتنزل غضبها على المدنيين العزل.
كما وقعت مواجهات في اليوم نفسه، 22 ماي، بوادي العرب وعمت دوار الولجة تبردقة عالي الناس وجبل كنيف شمال شرق خنشلة وواجه المجاهدون العساكر الفرنسيين، واختطفوا قائد دوار متوسة بن حسين وبعض المسؤولين الإداريين، وعمت المواجهات كل المنطقة.. خنشلة وقايس وطامزة ودوار أولاد بودرهم وجبل شطاطة، وقام المجاهدون بحرق مزارع الكولون كما عمت الحرب الاقتصادية منطقة باتنة في شهر ماي 1955، فأحرقت دار الغابات ليلة 20 إلى 21 ماي وقطعت الاتصالات الهاتفية بين باتنة وقسنطينة.
وهكذا، فإن الصراع في حرب المواقع لم يقتصر على الجبال ومراكز المجاهدين، والتصدي للقوات الاستعمارية، بل كان على أشده حول المدن، وإفشال خطة “عزل الشعب” التي اعتمدتها الإدارة الاستعمارية.
واندلعت حرب نفسية بين الطرفين خاصة في المنطقة الأولى بعد معركة الجديدة يومي 09-10 جوان 1956، ومعركة أرقو بين أيام 17-18-19 جوان من السنة نفسها، وقد عبرت التقارير الفرنسية أن مصالحها لاحظت عمق العمل السياسي والبسيكولوجي للثوار في الوسط الشعبي.
وإذا كانت المقاومة قد اعتمدت استراتيجية (السمع مع القوات الفرنسية، فإن الشعب خلال الثورة قد اعتمد استراتيجية الصمت) والامتناع عن الاتصال بالإدارة الاستعمارية، وتجنب الحديث معها، وهو ما زاد الأوروبيين خوفا وقلقا مما جعل الإدارة الاستعمارية تنشر دعايتها وانتصاراتها الخيالية حتى تخدع الجزائريين، وكان رد الشعب واضحا، إذ كثف من نشاط اللجان المحلية وهيكلة المواطنين سياسيا، وهو ما وقع خلال صيف 1956 في كل من عين التوتة (باتنة) مثلا، وتبسة وخنشلة.
وبرز دور الجانب الديني في التعبئة الشعبية، ولعب الشعور الوطني دورا في رفع معنويات الشعب، فالتف حول المجاهدين، وأقرت السلطات الفرنسية باستحالة معرفة دور رجال الدين بالضبط في الحرب النفسية. وقد تمكن الثوار من تعيين بعضهم قضاة لفك النزاعات وتطبيق الشريعة الإسلامية بين السكان، وعقدوا الاجتماعات حضرها رجال الدين وسيروا محاكمات شرعية بإشراف الثوار ومساعدتهم.
وفي أريس أدخل المجاهدون القوات الاستعمارية في هيستيريا مستمرة، وقاموا بتحييد الخونة لمنع الفرنسيين من التوغل في أوساط السكان ومعرفة أسرار الثوار، وقطعوا أعمدة الهاتف لمنع التواصل بين مختلف المصالح الفرنسية، ومهاجمة مقرات ومراكز القوات الفرنسية وقوافلها المتحركة، والعمل على منعها من الوصول إلى المداشر والتعدي على السكان كعادتها.
وعلى قدر ما عملت الفرق الإدارة المتخصصة على كسب الشعب الجزائري، على قدر ما انتشرت الثورة والتف الشعب حولها، وهو ما أكدته التقارير الفرنسية، وتأسيس الخلايا الشعبية المواجهة الحرب النفسية الفرنسية هادفة إلى مخادعة الشعب، ونشأت تنظيمات سياسية وإدارية في مدن بريكة، وتوسعت لتعم الحضنة، مما جعل فرنسا تكثف من تأسيس الفرق الإدارية المتخصصة، واعتبرتها ضرورية لمنع التواصل بين منطقة الحضنة ومنطقة الأوراس، ولكن الثوار تمكنوا من ربط الصلة والسيطرة على القاعدة الشعبية، وتأسست لجان محلية وصفت بلجان التحرير المواجهة المحاولات الفرنسية لربط الاتصال مع الشعب الجزائري.
وأمام هذا التطور، لجأت الإدارة الاستعمارية إلى الهيمنة على الإنتاج الزراعي، وراقبت المحاصيل وعملت على منع الشعب من تخزينها بعيدا عن مراقبة العساكر الفرنسيين، وكان رد الثوار قد تمثل في الهجوم القاسي على أعوان الاستعمار ببلدية بسكرة، وحيّدوا 12 منهم ببرج الشقة يوم 25 ماي 1956. وقاموا بعدة عمليات داخل مدينة بسكرة وصفتها التقارير الفرنسية بالصدمة البسيكولوجية.
وعملت الدعاية الفرنسية على التعويض النفسي. ونشرت أخبارها عن خسارة المجاهدين للمعارك، وضخمت عدد الشهداء الثوار وهو في الحقيقة يؤكد تنكيل القوات الاستعمارية بالشعب الأعزل، وقد جعلت منه درعا يقيها من هجمات الثوار، ولكنها أقرت بأن اللجان الثورية المحلية قد انتشرت بقوة مما يدل على تركيز الثورة على العمل المدني تشارك فيه جميع الفئات الشعبية. وأشارت التقارير إلى فشل مكاتب الفرق الإدارية المتخصصة، خاصة في منطقة خنشلة وقراها، طمقرة عين ميميون الزوي والولجة وغيرها.
أما في تبسة، فقد نجحت الدعاية الثورية في التأثير على المجندين المسلمين في صفوف الجيش الفرنسي. ففر العديد منهم لينضم إلى المجاهدين حيث ترك حراس الغابات والمكاتب الريفية صفوف الجيش الفرنسي، والتحقوا بسلاحهم بجيش التحرير الوطني، وكان جلهم الجزائريين المجندين، وعرفوا بتفانيهم في الجهاد، واستشهد بعضهم في الجبل الأبيض بقيادة الشهيد لزهر شريط.
وأكدت التقارير الفرنسية أن اللجان السرية التي أسسها الثوار حققت مجموعة انتصارات مبهرة بفضل خلاياها المنتشرة والخطيرة والفاعلة بالمساعدة التي تقدمها لفرق جيش التحرير الوطني في شكل معلومات، والدعم المعنوي والمادي والمساندة أثناء العمليات العسكرية، وعبرت عن انتصار بسيكولوجي مؤثر. وكان على القوات الفرنسية أن تتدخل بعنف ضد شبكة الدعم الشعبي، وهو ما قامت به في بلدة البرج بطولقة، وأوقفت سبعة جزائريين مدعية أنها اكتشفت شبكة الدعم بالبلدة، وكان الرد تنفيذ المجاهدين عملية نوعية ضد رئيس الفرق الإدارية المتخصصة ببلدة القنطرة”.
وكان النشاط الثوري يجري بالتنسيق بين مختلف الهيئات الإدارية والسياسية والعسكرية، ولحماية أفراد الشبكة السرية لدعم الثورة، قام الفدائيون بتحييد الخونة الذين يتجسسون لصالح القوات الاستعمارية وحيّدوا خائنا يوم 28 ماي 1956 قرب باتنة، وذبح أربعة آخرين خلال الأسبوع الثاني من شهر ماي 1956 بتيمقاد، ولم تجد القوات الاستعمارية بدا إلا أن تقوم بترحيل سكان الأرياف وإبعادهم عن الجبال معقل الثوار، وهو ما فعلت مع الدواوير القاطنة على سفح جبل بوعريف. وشردتهم في البراري وأغلقت السوق الأسبوعي بالشمرة لمنع المجاهدين من التسرب للمدينة والاتصال بخلايا الثورة.
أما في عين التوتة، فقد أكدت التقارير الفرنسية أن الوضع بها حطمه الثوار بقضائهم على جواسيس الإدارة الاستعمارية، وسجلت أن الثوار بالبلدة أكثر تنظيما وفاعلين في صنفهم على ممثلي الإدارة الفرنسية من قياد وحراس الغابات وحراس البلديات والضغط عليهم للاستقالة من العمل الصالح الإدارة الاستعمارية.
ولم يتسامح الثوار مع الفعل الاستعماري. إذ هاجموا مركز جبل لقرون إثر خيانة وقعت ضدهم. وكانت النتيجة خسارة الإدارة الاستعمارية في الرجال والعتاد معتبرة، جعلت كثير من سكان عين التوتة يفتخرون بها، وجعلت المعمرين يفكرون في مغادرة الأراضي والسفر إلى فرنسا، وقد توجهت عائلتان منهم فعلا إلى فرنسا، كما طلب بعض المعلمين المقيمين بالقنطرة وعين التوتة قبول استقالتهم والرجوع إلى فرنسا، وهكذا تدعمت الحرب البسيكولوجية الثورية وانتصرت في عدة مواقع، وكان رد فعل القوات الاستعمارية الدعوة إلى محاصرة عين التوتة وغيرها، وتقسيمها، وهو الحل الوحيد لمراقبتها عسكريا.
وفي أريس، هيمن الثوار بصفة مطلقة على الوضع، وصارت اللجان المحلية تتحكم في التسيير العام لمصالح السكان، وعزلت الإدارة الاستعمارية التي أكدت أن الثوار نظموا إدارة حقيقية وأصبحوا يشرفون على مصالح الإدارة، وهم من يسلم رخص الحصاد للمعنيين بمختلف الدواوير، ومما يدل على نجاح الحرب البسيكولوجية الثورية، فرار 18 مجندا بسلاحهم من مكتب الفرق الإدارية المتخصصة ببلدة تكوت والتحاقهم بصفوف جيش التحرير الوطني خلال شهر ماي 1956، وهو نفس الأمر الذي وقع الفرقة الحركي بتافلفال وفرار أغلبهم والالتحاق بصفوف جيش التحرير، وكانت تلك ضربة قاسية للقوات الاستعمارية، مما دفعها إلى التنكيل بالسكان العزل.
الحلقة الأولى