الاستعـمار أدرك أنّ لا مستقبل له بالجزائر فلجأ إلى الـقمـع والـرّدع وزرع الــفتن
المحــتل استهـدف الـبـنــية الاجـتـمـاعيـة الجـزائـريـة حــاضــنة المقاومـات الـــشـّعــبـيـة
حــملات تــنصــيريــة.. تجــهيل وتفقــير لـقـتل الــذّاكرة الـوطـنـيـة
تعرّض الشّعب الجزائري لأبشع الجرائم من جيش الاحتلال الفرنسي على مدار قرن واثنين وثلاثين عاما، لا تزال آثارها قائمة رغم مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال. هذه الآثار والمخلفات شكلت مصير هذا الشعب، وأخضعته لفترة طويلة من الهيمنة، حيث أنه بقي يعاني من انهيار قيمي وحضاري وانهزام فكري، نتيجة الفوضى وضغط السياسة الاستعمارية.
بما أنّ أحداث اليوم لا تفهم إلا بمعطيات الأمس، وأن المعركة الحالية هي نتيجة صراع متعدد الأوجه والمراحل، فإن فهم واقع المجتمع الجزائري المعاصر لن يتم إلا بدراسة حقبة الاحتلال الفرنسي وسياسته الاستدمارية التي شكلت منعرجا حاسما في تاريخ الجزائر مقارنة بمختلف التحولات التي شهدتها قبله وبعده وما خلفه من آثار على واقع المجتمع الجزائري والتي انعكست سلبا على المجتمع الجزائري مع مرور الزمن.
أهمية هذا الموضوع تكمن في كونه يسلط الضوء على أبشع السياسات الاستدمارية للاحتلال الفرنسي اتجاه الجزائريين، وعن مدى معاناتهم إبان الاحتلال 1830-1962م، كما يكشف مدى فعالية الأوضاع والتحولات التي أحدثها الاستدمار في إعادة بلورة الحياة الاجتماعية من أجل محو المقومات العربية والإسلامية للجزائريين والجوانب الخفية لذلك.
لا تزال كثير من الدراسات تتساءل عن مدى تأثير الاستعمار على الفرد والمجتمع الجزائري؟ فإلى أيّ حد تمكن المستدمر الفرنسي من التأثير في أحواله ومقوماته الشخصية؟ وما هي أهم آثاره الباقية والمؤثرة في الفرد والمجتمع؟
للإجابة على هذه السؤال المحوري، اتّبعنا المنهج التاريخي الذي يعتمد على جمع المادة التاريخية المتعلقة بالموضوع وقراءتها ثم تحليلها مع الاعتماد على أسلوب المقارنة بين المعلومات المستقاة من المصادر.
في بحثنا هذا، نريد أن نعيد ربط أجزاء من الماضي بالحاضر دون الانحصار في حدود زمنية ومعرفية، عكس المقاربات التي تسلم بوجود قواطع راديكالية في مسار التاريخ، فتحدث فيه حدودا عشوائية لكي تحصره في مرحلة التاريخ المعاصر ومرحلة الحاضر أكثر ضيقا، وليس قصدنا أن نقول بأن كل ما حدث في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر عبر مراحله هو نفس الماضي الذي مازال حاضرا، لكن قصدنا أن نجد، فيما وراء الأحداث المختلفة، تصورات ومنطق وممارسات هي وحدها تسمح لنا بفهم الآثار العميقة التي خلفها في المجتمع.
أساليب المحتل الفرنسي
شهدت الجزائر بعد الغزو الفرنسي اضطرابات وفوضى كبيرة وشاملة نتيجة للسياسة الاستعمارية، خاصة بعد عمليات تدمير مؤسسات الدولة وبناها التحتية ومصادرة أراضي الجزائريين..
لما أدركت فرنسا أنه لا مستقبل لها في الجزائر، لجأت إلى توظيف وسائل تمكّنها من تحقيق سياستها الإمبريالية، والتي ظهرت من خلال إجراءات قمعية وردعية ضد الأهالي الجزائريين استعملتها الحكومة العسكرية الأولى في مصادرة أراضيهم ومؤسساتهم وهياكلهم الاجتماعية، وزرع الفتنة والتفرقة من أجل التمكن منهم بكل سهولة.
محاولة زرع الفتنة العنصرية
إنّ الاحتلال الفرنسي للجزائر مسّ الأرض والإنسان معاً، واستهدف عناصر الهوية والشخصية الوطنية، وفي مقدمتها الدين واللغة والتاريخ والحضارة. سياسته هذه كانت ترمي إلى استيطان دائم أبدي بالجزائر لتحقيق أطماع إمبريالية.
وبما أنّ المجتمع الجزائري كان يقوم على القبيلة كإطار سياسي واقتصادي، فإن المسألة الأولى التي مسها الاستعمار كانت البنية الاجتماعية، حيث استمدت المقاومات الشعبية شدتها، وهو ما أضر المحتل في البداية. وجعل الجنرال بيجو يصرح أمام مجلس النواب: “لو كان سكان الجزائر قوما آخرين غير العرب، أو كانوا يشبهون شعوب الهند المخنثة لما أوصيت أبدا بصرف الأموال الطائلة في سبيل تعمير البلاد بالعساكر والجنود، ولكن وجود هذه الأمة القوية العتيدة المستعدة كامل الاستعداد للحرب، والمتفوقة على العناصر الأوروبية التي كنّا ننوي إدخالها إلى البلاد، كل ذلك يحتم علينا أن نختار العناصر القوية من الأوروبيين لتوطينهم أمام أولئك العرب، وجنبا إلى جنب معهم، وبين ظهرانيهم”.
من أجل الاحتلال الكامل للجزائر، حاولت السلطات الفرنسية القضاء على القبيلة التي هي أساس التنظيم الاجتماعي في الجزائر، فراحت تصدر القوانين العقارية التي ترمي إلى تحطيم بنية المجتمع الجزائري، وكانت لهذه السياسة التعسفية آثار وخيمة على المجتمع الجزائري لا زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا تنغص على الناس حياتهم. لقد عملت الإدارة الفرنسية منذ البداية على تفتيت القبيلة من أجل القضاء على التنظيم الاجتماعي التقليدي في الجزائر، وتبين هذا منذ صدور قرار 22 أفريل 1863م المعروف باسم سيناتوس كونسولت، الذي عمل بكل الوسائل على تفكيك القبيلة، لأن استمرار المقاومة كان بسببها، لذا كان لابد من تفكيكها وتحطيمها نهائيا حتى يسهل عليهم القضاء على المقاومة. ويتم تحقيق هدف المستوطنين الأوروبيين المتمثل في الحصول على مزيد من الأراضي الخصبة.
أدّى تطبيق قانون سيناتوس كونسولت إلى إحداث تغييرات جذرية على بنية القبائل والعروش الكبرى، حيث تم تفتيتها وتحويلها إلى وحدات إدارية صغيرة وهي الدواوير، وأطلق عليه اسم دوار - كومين (douar-commune). فتنفيذا للقرار، أنشئ 656 دوارا في المقاطعات الجزائرية الثلاثة وذلك على حساب تفكيك القبائل، بغرض تخطي كل الحواجز التي من شأنها تعرقل عملية نقل ملكية الأراضي من الأهالي إلى المعمرين، كما يعمل على إحكام السيطرة على الأهالي ومراقبتهم.
إضافة إلى كل ذلك، تمّ إنشاء المكاتب العربية بعد سنة 1844م، والتي كانت عبارة عن واسطة بين السلطة العسكرية والأهالي، وكانت مهمتهم تقديم المعلومات للسلطات حول الأهالي، وأيضا إدارة شؤون القبائل لمراقبة تحركات السكان ومحاولة التغلغل في عمق القبائل الجزائرية، إضافة إلى صدور تعليمة المراقبة تحركات الأمير جوزيف نابليون، وزير الجزائر والمستعمرات، (1858-1859م) في ديسمبر 1858م التي أعفت الجزائريين العاملين لدى الأوروبيين من دفع الضريبة للقبيلة، ودفعها للإدارة الفرنسية عوض ذلك، حيث نصّت هذه التعليمة على ما يلي: “لقد قيل إن القبيلة هي قاعدة التنظيم الاجتماعي للعرب، علينا أن نمكن التنظيم الفرنسي ليشمل مختلف تجمعات الأهالي في بلدتنا، عليكم أن تفضلوا الاتجاهات الطبيعية والتي بحضور حضارتنا المتفوقة، فإن القبيلة عليها أن تتفتت بهدف اندماجنا في تنظيمنا، بواسطة هذه الوسائل وهذه الوسائل وحدها سوف نصل بها إلى كسر تماسك القبيلة، والانتزاع منها على الخاصية السياسية ليحل محلها تنظيمنا الإداري”.
لقد كانت لهذه السياسة آثار كبيرة على المجتمع الجزائري، حيث تفتت القبيلة إلى دواوير بفعل تحديد أراضيها وإخضاعها للبيع، وبالتالي فقد بذلك الجزائريون في الريف الإطار الملائم الذي ينظم حياتهم ويحفظ لهم مصدر رزقهم وأصبح الفرد بعد أن لم تعد القبيلة تحميه وتقدم له العون أعزلا في مواجهة إجراءات الإدارة الفرنسية الجائرة.
محاربة مقوّمات الشّخصية
لم يكن الاحتلال الفرنسي على الجزائر اعتداء عسكريا فحسب، بل كانت أكثر من ذلك، فقد كانت عملية ممنهجة ومسطرة للسيطرة الشاملة، تقوم على معارف متنوعة وعلى تصورات إيديولوجية تستغل التفوق المادي واختلال التوازن الذي أحدثته الثورة الصناعية.
هذا ما تمّ العمل به في الجزائر بعد أن استقر الوضع بالمحتل، حيث شن حملة تنصيرية عسكرية كبيرة على المجتمع الجزائري ومؤسساته الاقتصادية والسياسية ومقوماته الثقافية والاجتماعية، محاولا بذلك بسط نفوذه وتوقيف المد الحضاري من خلال الغزو الفكري والحضاري.
وقد تعمّد الاستعمار الفرنسي تشويه الشخصية الجزائرية معتمدا على سياسة التجهيل وقتل الذاكرة التاريخية، والحضارة لأنه أدرك أهميتها وقيمتها عند الشعب الجزائري، فقد استهدف الاحتلال من خلال حملته الشنيعة العلم والتعليم في الجزائر لإيمانه بأهمية هذا القطاع في توعية الشعوب وتفتحه، فقامت الإدارة الفرنسية بهدم وتدمير كل المدارس التي كانت قائمة في ذلك العهد من مساجد وزوايا وكتاتيب، وكل شيء له علاقة بالتعليم ومصادرة الأوقاف ونفي العديد من العلماء إلى الخارج، و«تحويل المساجد إلى كنائس للنصاري كما حدث مع مسجد “كتشاوة” بالعاصمة، حيث تم تحويله إلى كنيسة عرفت باسم “كنيسة سان فيلب (cathedral saint Philippe)، كما حولت إلى ثكنات للجيش والشرطة وإسطبلات للخيل والدواب، وتعرضت كل المدن الجزائرية الأخرى لما تعرضت له العاصمة، حتى لا تكون هناك فكرة أن هناك أجيال صاعدة من أبناء الجزائر، وكذلك غرس فكرة في أذهان التلاميذ مفادها أن الجزائر جزء من فرنسا، وعملوا على إحلال التاريخ الفرنسي محل التاريخ الجزائري، وكذلك القضاء على المساجد والزوايا ومحاربة الأئمة والعلماء وحرق المكتبات.
هناك العديد من الكتب الفرنسية التي تؤكد على هذه الحقائق وعلى ما أصاب التعليم العربي - الإسلامي بعد الاحتلال، حيث جاء في إحداها أن التعليم التقليدي قد توقف عن أداء مهمته لظروف الحرب من جهة، والاستيلاء عن الأوقاف من جهة أخرى، وهجرة المعلمين أو نفيهم من جهة ثالثة، فقد خربت المدارس الثانوية وغادر المتعلمون الزوايا القريبة من مراكز الاحتلال، واكتفى الأساتذة بأداء الشعائر الدينية.
لم تكن عملية تدمير المؤسسات الثقافية والإسلامية والتراث إلا جزءا من مخطط المحتل الذي سعى جاهدا في نشر الأمية والجهل في أوساط الأهالي الجزائريين، حيث قام بمصادرة الأوقاف حتى يصبح التعليم بدون تمويل وحارب اللغة العربية بشتى الوسائل حتى أصبحت لغة أجنبية باسم القوانين الرسمية، مثل قانون 1834م الذي نص على أن الجزائر أصبحت فرنسية وقرار مجلس الدولة في 1835م، وقرار شوطان (1838م)، على أن اللغة الفرنسية أصبحت اللغة الوحيدة والرسمية للجزائر في التعليم وفي الإدارة، وبهذا الشكل طبقت فرنسا سياستها الاستدمارية في كل المجالات.
لقد أدرك المستعمر تلك المقومات الأساسية مركزا بخاصة على اللغة العربية، وبالتالي القضاء على الإسلام، حيث اعتبرت فرنسا فترات عصور تاريخ الجزائر قبل الاحتلال عصورا مظلمة.
فرض الضّرائب ومصادرة الأراضي
شرعت سلطات الاحتلال الفرنسي منذ الأشهر الأولى على احتلالها للجزائر في سن مراسيم وقوانين تبيح بموجبها الاستيلاء على الأراضي الزراعية، ومنذ ذلك الوقت لم ينفك الحكام الفرنسيون من محاولة الاستيلاء على الأرض. ومن الأمثلة على ذلك، قرار الكونت كلوزيل بتاريخي 08 سبتمبر و07 ديسمبر 1830م القاضيان بضم أملاك البايلك، وأملاك الأوقاف، وقرار 10 جوان 1831م الخاص بأملاك الداي والبايات والأتراك الذين غادروا البلاد.
وفقا لذلك، وصلت إلى الجزائر موجات من المعمرين، ولعل أهمها موجة عام 1832م التي استقرت في مناطق مختلفة من الجزائر. وبعد سنة واحدة، استولى المستوطنون الجدد على آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة من أملاك الجزائريين، وأقاموا فيها مزارع وأحواش.
ولقد جعل الجنرال بيجو حاكم الجزائر آنذاك “السيف والمحراث” عنوانا لسياسته، حيث عمد إلى الاستيلاء على الأرض بالقوة وضمها لأملاك الاستعمار، تمهيدا لتوزيعها على المستوطنين الوافدين على الجزائر من مختلف البلدان الأوروبية.
فرضت إدارة الاحتلال بين عامي 1844-1846م مصادرة كثير من الأراضي بحجة عدم زراعتها، وبعد عملية إثبات عقود الملكية لأكثر من 200 ألف هكتار تعرضت لعملية سلب ونهب استطاعت السلطات الفرنسية أن تصادر 95 ألف هكتار من أصل 168 ألف هكتار بمقاطعة الجزائر، في حين استفاد المستوطنون من 37 ألف هكتار وهو ما أدى إلى تشكيل وتوسيع 27 قرية استيطانية في منطقة الساحل ومتيجة.
من أهم عمليات مصادرة أراضي الجزائريين التي قامت بها سلطات الاحتلال الفرنسية، تلك العملية التي جاءت على إثر ثورة 1871م، حيث أصدرت قانون المسؤولية الجماعية في إطار قانون الأهالي الإجرامي القاضي بالحجز الجماعي لممتلكات الجزائريين، أين استولت بالقوة على 500 ألف هكتار من أراضي 315 قبيلة.
بالإضافة إلى عمليات السطو ومصادرة الأراضي، جاءت سلطات الاحتلال بقوانين وتشريعات تفرض بموجبها ضرائب ثقيلة لترهق الأهالي الجزائريين وتجبرهم بطريقة غير مباشرة على الانسحاب.
لقد تفنّنت إدارة الاحتلال في خلق ضرائب متنوعة ومتعددة، فإلى جانب الضرائب العادية والضرائب غير المباشرة والإتاوات المفروضة على مختلف النشاطات، فإنهم أخضعوا الجزائريين لما اشتهر باسم “الضرائب العربية المتمثلة في الزكاة والعشر”، وألحقت ضريبة “اللازمة” المفروضة على المناطق الجبلية وعلى الواحات، وألحق في إطار هذا القسم الخاص بالضرائب العربية السنتيمات الإضافية التي فرضتها الإدارة في البداية لتواجه بها المصاريف الطارئة، وابتداء من سنة 1863م خصصتها لتغطية مصاريف التمليك الشخصي للأرض، ورغم كل هذه الضرائب إلا أن المستوطنين اقترحوا فرض غرامات جديدة على المسلمين.
لقد دفعت الضرائب كثيرا من الجزائريين عام 1862م إلى الهجرة خوفا من أن تطالهم العقوبات، وتبعا لهذا شهدت تلمسان فقرا كبيرا، بحيث أنّ قبائل بأكملها لم تجد ما تقتات عليه سوى جذور النباتات ما أدى إلى هلاك الناس جوعا، كما دفع هذا الوضع الفلاحين إلى إهمال زراعتهم ومواشيهم، في وقت ازداد طلب المعمرين على شراء هذه الثروات.
الحلقة الأولى