بين عامي 1960 و1966، أجرت فرنسا سلسلة من التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، تضمّنت تفجيرات جوية وأخرى تحت الأرض. شملت هذه التجارب السرية 17 تفجيرًا نوويًا، كانت تهدف الى تعزيز ظهور فرنسا كقوة نووية عالمية ضمن سياق الحرب الباردة. اختيرت منطقة رقان في ولاية أدرار كموقع رئيسي لهذه التجارب نظراً لعزلتها الجغرافية وبعدها عن المناطق السكنية.
في 13 فيفري 1960، أجرت فرنسا أول تفجير نووي لها والمُسمى “اليربوع الأزرق” (Gerboise Bleue)، في منطقة رقان. بلغت قوة هذا التفجير 70 كيلوطن، أي ما يعادل أربعة أضعاف قوة قنبلة هيروشيما ثم أتبعت ذلك بسلسلة من التفجيرات، منها “اليربوع الأبيض” (Gerboise Blanche) في 1 أبريل 1960، و«اليربوع الأحمر (Gerboise Rouge).
في 27 ديسمبر 1960، بعد استقلال الجزائر في 5 جويلية 1962، واصلت فرنسا إجراء التفجيرات تحت الأرض في منطقة هقار حتى 16 فيفري 1966.
التّداعيـــات البيئية والصحيـة
تسبّبت هذه التجارب النووية في آثار بيئية وصحية كارثية ما زالت المنطقة تعاني منها حتى اليوم. انتشرت الإشعاعات النووية في مساحات شاسعة من صحراء الجزائرية، خاصة في منطقتي رقان والهقار، حيث أُجريت معظم التفجيرات. فوفقاً لتقارير صادرة عن منظمات دولية مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) ومنظمة أطباء العالم (Médecins du Monde)، أدت هذه الإشعاعات إلى تلوث خطير للبيئة، حيث تأثرت التربة والمياه الجوفية بشكل كبير.
وأظهرت الدراسات أن التربة في المناطق المحيطة بمواقع التفجيرات تحتوي على مستويات عالية من المواد المشعة مثل السيزيوم-137 والبلوتونيوم-239، والتي تبقى نشطة لآلاف السنين. هذا التلوث أدى إلى تدهور الأراضي الزراعية، مما جعلها غير صالحة للزراعة، كما تلوثت المياه الجوفية، ممّا أثّر على مصادر الشرب والري في المنطقة المحيطةوعلى الصعيد الصحي، فقد تعرض أكثر من 40 ألف شخص للإشعاعات النووية بشكل مباشر أو غير مباشر، وفقاً لتقديرات منظمة أطباء العالم. تشير التقارير الطبية إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بأمراض السرطان، خاصة سرطان الرئة وسرطان الغدة الدرقية، بين السكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، سُجلت حالات عديدة من التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد، فضلاً عن انتشار أمراض الجهاز التنفسي وأمراض الجلد الناتجة عن التعرض المزمن للإشعاع. فالآثار الصحية لهذه الإشعاعات لا تقتصر على الجيل الذي عاصر التفجيرات فقط، بل تمتد إلى الأجيال اللاحقة بسبب الطفرات الجينية التي تسببها المواد المشعة. مما يجعل من هذه القضية ليس فقط كارثة بيئية، بل أيضاً أزمة صحية متعددة الأجيال.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أدى التلوث الإشعاعي إلى تدمير النظم البيئية المحلية، حيث تأثرت الحياة البرية والنباتات بشكل كبير. اختفت أنواع عديدة من الحيوانات والنباتات التي كانت تعيش في المنطقة، ممّا أثر على بين التنوع البيولوجي وأخل بالتوازن البيئي العام.
إمكانية إزالــة التــّلوّث
طالبت السلطات الجزائرية وما زالت تطالب فرنسا مرارًا بتوفير بيانات دقيقة حول مواقع النفايات المشعة المدفونة، فضلاً عن الشروع في عمليات تطهير متقدمة تشمل إزالة التربة الملوثة، ومعالجة المياه الجوفية، وتطبيق تقنيات الاستصلاح الإشعاعي لضمان تقليل الجرعات الممتصة إلى مستويات آمنة وفقًا للممارسات المعتمدة في مجال الوقاية الإشعاعية وإدارة النفايات النووية. ان إزالة التلوث الإشعاعي عملية معقدة تتطلب استخدام تقنيات متطورة. تشمل بعض الخطوات المحتملة:
إزالة التربة الملوثة: يتم استخراج التربة الملوثة بالإشعاعات ونقلها إلى مواقع تخزين آمنة بعيدًا عن المناطق السكنية.
تنقية المياه الجوفية: يتم استخدام تقنيات خاصة مثل الترشيح الكيميائي لإزالة المواد المشعة من مصادر المياه.
المراقبة طويلة الأمد: تركيب أنظمة مراقبة لمتابعة مستويات الإشعاع وضمان عدم ارتفاعها مجددًا.
إلا أن هذه الجهود قد تواجه تحديات ضخمة، منها التكلفة المالية العالية التي قد تصل إلى مليارات الدولارات، بالإضافة إلى نقص البيانات المتعلقة بمواقع دفن النفايات النووية، حيث لم تفصح فرنسا بعد وبشكل كامل عن الخرائط الجغرافية لهذه المواقع، مما يستوجب اعترافا رسميا كامل من فرنسا بمسؤوليتها عن الأضرار الناجمة عن هذه التجارب وإطلاق مشاريع تطهير حقيقية للمناطق المتضررةوكذا رفع السرية عن الأرشيفات المرتبطة بالتجارب النووية لتمكين الباحثين من دراسة الأضرار الناجمة بشكل دقيق.
بالنسبة لتعويضات الأشخاص المتضررين بصفة مباشرة او غير مباشرة من هذه التجارب ورغم صدور “قانون موران” الفرنسي عام 2010، الذي يعترف بضحايا التجارب النووية، إلا أنه يحتوي على العديد من الثغرات القانونية التي تعيق تنفيذ تعويضات فعلية. فالقانون لم يشمل أقارب الضحايا ولم يُقر بحقهم في تعويضات عن الأضرار النفسية أو المادية الناتجة عن هذه الكارثة.
خطّــة لإزالـــة التّلـــوّث الإشعاعــــي
تهدف هذه الخطة المقترحة في هذا المقال إلى إزالة نسبة كبيرة من التلوث الإشعاعي في منطقة رقان وذلك عبر استخدام تقنيات خاصة لضمان سلامة السكان وإعادة تأهيل البيئة تدريجيًا. تبدأ المرحلة الأولى (1-2 سنوات) بالتقييم والتخطيط، وتشمل مسحًا إشعاعيًا شاملًا وتحليل التربة والمياه لتحديد النظائر المشعة الموجودة وتصنيفها على حسب خطورتها، وأيضا ترتيب المناطق حسب درجة التلوث، مع وضع خطة لإخلاء مؤقت للمناطق الأكثر تلوثًا.
في المرحلة الثانية (3-5 سنوات)، يتم التدخل العلاجي من خلال إزالة التربة الملوثة ونقلها إلى مواقع آمنة، تنقية المياه الجوفية باستخدام الترشيح الكيميائي، وزراعة نباتات تمتص الإشعاع في المناطق المنخفضة التلوث، مع تثبيت الرمال الملوثة بمواد خاصة للحد من انتشار الجسيمات المشعة.
أما المرحلة الثالثة (6-8 سنوات) فتشمل إعادة تأهيل المناطق المطهرة عبر زراعة النباتات المحلية، وإطلاق مشاريع تنموية مستدامة مثل الطاقة الشمسية، مع إجراء فحوصات صحية دورية للسكان المتضررين.
المرحلة الأخيرة (9-10 سنوات) تركز على المراقبة المستدامة عبر تركيب أنظمة قياس إشعاعية دائمة، وإصدار تقارير شفافة، وتدريب فرق محلية للاستجابة السريعة.
نجاح هذه الخطة من شانه تقليل التلوث واستعادة التوازن البيئيوصحة السكانبنسبة كبيرة شريطة توفر تعاون دولي ودعم مالي كبير وهذا بعد استجابة فرنسا لمطالب الجرائر والإفصاح عن كل تفاصيل هذه التجارب.
خاتمـة
تمثّل التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية إحدى أكبر الكوارث البيئية والصحية التي ما زالت تداعياتها تؤثر على المنطقة وسكانها حتى اليوم. إن التلوث الإشعاعي الناتج عن هذه التفجيرات قد أخل بالتوازن البيئي وأدى إلى أزمات صحية ممتدة لأجيال عديدة، ما يجعلها مسؤولية أخلاقية وإنسانية تقع على عاتق فرنسا.
رغم الجهود الجزائرية المستمرة للمطالبة بإزالة التلوث وتعويض المتضررين، إلا أن التحديات التقنية والمالية ما زالت تعرقل تحقيق تقدم ملموس. ومع ذلك، فإن تنفيذ خطة محكمة لإزالة التلوث على مدى عشر سنوات، مدعومة بتقنيات متقدمة وتعاون دولي، يمكن أن يُحدث فارقًا حقيقيًا في استعادة البيئة وتحسين صحة السكان.
إنّ الاعتراف الكامل من فرنسا بمسؤوليتها عن هذه الكارثة ورفع السرية عن الأرشيفات المرتبطة بالتجارب النووية يمثلان خطوات أساسية لتحقيق العدالة البيئية والإنسانية، ممّا يفتح الباب أمام تحقيق استدامة بيئية في المنطقة.