بعد مدّة من القصف الفرنسي المكثّف، جاء دور المدفعية الثقيلة (لارتيري) والدبابات لتدكّ المواقع بالقصف وخاصة من الناحية الجنوبية من جهة سفح الجبل، والمدفعية من نوع هاون 60 و80 التي شرعت بدورها في القصف الجنوني عدة ساعات دون انقطاع، أمّا الدبابات فقد كانت أثناء القصف تزحف نحو الموقع، حيث كان عددها حوالي 150 دبابة مختلفة الأنواع ترافقها الحشود القوية للعدو من مشاة وفرق خاصة من اللفيف الأجنبي مدعمة بالمدافع الثقيلة.
وضاقت حدود موقع جيش التحرير الوطني، وطوّقت بشدة، ومع ذلك لم يطلق أية رصاصة، لأنّ استراتيجية القتال التي حددها القادة للمعركة تقتضي إطلاق النار عند اقتراب مشاة العدو وفرقه إلى أماكن قريبة يراقبها أفراد جيش التحرير الوطني، كي ينزلوا بهم الضربة القاضية.
وبالفعل كانت ضربات قاضية تلقّتها كل الفرق التي اقتربت من مواقع الجيش خاصة من الناحية الغربية أين توجد كتيبة المساعد علي قوجيل التي فتحت نيرانها بقوة وبسرعة على الواجهة الأمامية للعدو، واضطرتها إلى الرجوع، فاستقبلها ضباطها بالهراوات والسياط دافعين بها إلى موقع المعركة.
واستمرّت المعركة طوال اليوم على هذا المنوال.. قصف وهجوم بالعساكر والدبابات وهي طريقة العدو دائما في معارك بهذا القدر. أما المجاهدون فقد عزّزوا المواقع الدفاعية بأسلحة ثقيلة رشاشة لمواجهة الطائرات، ما فرض عليها التحليق في علو شاهق.
وعند غروب شمس اليوم الأول هدأت حدة القتال، بينما استمر القصف المدفعي المركز لمنطقة العمليات تحت الأضواء الكاشفة، ومعه بعض المناوشات المتقطعة، فكان من الطبيعي مع هذا الهدوء النسبي أن يعقد قادة الكتائب اجتماعا مع قائد الولاية، ويتم بعد ذلك تفقد كل قائد لأفراد كتيبته، فحصل الاجتماع مع العقيد شعباني، وتم فيه عرض الوضع: شهيدان وهما محمد الهادي عبد السلام قائد كتيبة قسمة 58 وإبراهيم قبطان، بالإضافة إلى ثلاثة مجاهدين أصيبوا بجروح خطيرة، وهم بلقاسم مستاوي، أحمد مغازي والطاهر محجوب.
ويروي المجاهد احمد مغازي شهادته حول ما أصابه من حروق بليغة: “في النصف الأول من 17 سبتمبر بدأ القتال مع قوات العدو البرية، وواجه المجاهدون الموقف بشجاعة وبطولة، وتمكّنوا من إلحاق خسائر هائلة بالعدو بفضل استخدامهم الجيد للتحصينات الطبيعية التي تزخر بها المنطقة، ما أجبر قوات العدو على التراجع للخلف، لإعادة تنظيم صفوفها وتدعيمها بعناصر إسناد أخرى قبل أن تعيد الهجوم. في هذه الفترة، قام الطيران الحربي ومدفعية الميدان على التوالي بقنبلة جهنمية لمنطقة العمليات استخدم فيها كل ما لديه من وسائل الفتك والدمار كقنابل النابالم المحرمة دوليا، ونجم عن ذلك إصابة العديد من المجاهدين بإصابات مختلفة، وكنت واحدا منهم، حيث أصبت إصابة شديدة نتيجة القنبلة الجوية العشوائية فاحترق جسمي”.
ورغم الوضعية الصعبة التي كنت عليها إثر اشتعال النار بخندقي - يواصل المجاهد أحمد مغازي - فقد خرجت منه والنار تلتهم ثيابي، وازداد الوضع صعوبة بعد أن بدأ جنود العدو في إطلاق النار عليّ بعد خروجي من الخندق باحثا عن ملجأ آخر وتمكنت من الإفلات بصعوبة.
وبعد تقديم قادة الكتائب عروضهم، اتخذت قيادة المعركة الإجراءات الفورية بنقل الجرحى وإخراجهم من منطقة العمليات، توزيع المؤونة والذخيرة مجددا على الجيش، والخروج من هذا المركز والتنقل إلى آخر أكثر حصانة.
وبعد التشاور، تقرّر التسلل من المنطقة الجنوبية من جهة كتيبة لخذاري زيان، لكنه حذر القيادة من خطورة الجهة؛ لأنّ الحصار بها مكثف ويتعذر اختراقها، وتبين بعد الاستطلاع أنه بالإمكان الانسحاب من الجهة الشمالية للموقع حيث يوجد فراغ أهمله العدو، فأمر قائد الولاية بالخروج عبره.
وفي أثناء تسلّق المجاهدين، وقعت مناوشات واشتباكات عنيفة تحت الأضواء الكاشفة وقصف الطائرات، ولما رأى العقيد محمد شعباني أن مواصلة تنفيذ هذه الخطة يقتضي المخاطرة، قام بعمل جريء حيث أطلق قذيفة مضيئة بالألوان من مسدس خاص، أنزلت الرعب والذهول في صفوف العدو، ظنا منهم أن المجاهدين بصدد استعمال سلاح جديد متطور.
يروي المجاهد زيان لخذاري قصة هذه الخدعة، فيقول: “في الليل، قررنا الانسحاب إلى منطقة جربيع، وكان شعباني يملك مسدس الإنارة بالأضواء، فأطلق طلقة منه في وسط المعركة فتفاجأ العدو من هذا السلاح الذي يحوزه جيش التحرير الوطني، مما سبب حركة غير طبيعية في صفوف العدو، وسمح بفتح فجوة استطاع المجاهدون عن طريقها الخروج من المنطقة المحاصرة..هذا ما شتّت صفوف العدو، وفسح المجال لكتائب جيش التحرير الوطني كي تجتاز مجال الخطر منقذة جرحاها وذخيرتها ومؤونتها ودوابها، وكل ذلك حدث في حدود الحادية عشر ليلا، وواصل الجيش بقيادة العقيد شعباني طريقه ليلا مسرعا متسلّقا مرتفعات جبل بوكحيل ومخترقا شعابه وكانت وجهته مركز “جريبيع”، وهي أكثر استراتيجية وحصانة وتوفّرا على الماء والتموين، ويبعد عن موقع الكرمة بحوالي 10 إلى 15 كلم.
وصل جيش التحرير الوطني إلى الموقع الجديد قبل طلوع الشمس، وعلى الفور أخذ كل جندي نصيبه من الذخيرة والمؤونة ودخل أخدوده، وكانت الأخاديد محضّرة مسبقا جراء معارك سابقة بهذا المركز، وبينما استسلم المجاهدون إلى الراحة في خنادقهم بعد يوم وليلة من القتال والسير السريع، وفي الوقت الذي خلا فيه جميعهم إلى الراحة، كان المجاهد “مونس احمد” رامي الرشاشة 30 ألمان، نائما عند فتحة خندقه لم يدخله، فقد غلبه النعاس والتعب، فنام خارجا، وكان سببا في اكتشاف الموقع من قبل طائرتين كاشفتين كانتا تحلقان بتركيز.
وعلى الساعة السادسة ونصف من صباح 18 سبتمبر 1961، وبمجرد اكتشاف المجاهد المستلقي خارج الخندق، أطلقت الطائرتان النار عليه، فاستشهد ومعه المجاهدان شريف قرماط والبشير محداد اللّذان كان خندقاهما بجواره.
وبالطبع أسرعت الطائرتان لإعلام قوات العدو. فحشد العدو جموعه تجاه موقع جريبيع بقوة أكثر من اليوم الأول، بلغت 1400 عسكري معززة بالمدرعات والسيارات المصفحة ومدفعية الميدان الثقيلة تحت حماية أسراب الطائرات بأنواعها بقصد محاصرة الموقع من جميع النواحي ودكه.
ولأنّ الجيش الفرنسي قد خبر طبيعة القتال في اليوم الأول من المعركة، فقد ركّز جهوده بقوة - هذه المرّة - معتمداً على الطائرات المقاتلة ومدفعية الميدان الثقيلة والمدرعات، حيث أمطر مركز المجاهدين بوابل من القذائف المختلفة والقنابل المتواصلة إلى غاية الساعة التاسعة، واستأنف القتال مع القوات البرية التي كانت دائما تسير تحت هراوات الإرغام والسياط من قبل ضباطها، ووقع قتال بري رهيب بين الطرفين، وتراءت أعمدة الدخان من مسافات بعيدة.
ومن أغرب ما حدث في هذا اليوم، أنه لما تتقدّم أية فرقة من مشاة العدو وتكتسحها رشاشات المجاهدين فتفر. ولم تُجدِ معها الهراوات ولا السياط، ممّا أثار غضب قادتها فأعطوا الإشارة إلى الطائرات المقنبلة لتمطرهم بوابل من القنابل، وقد شاهد المجاهدون بأمّ أعينهم ومن مواقعهم وباستغراب، الطائرات الفرنسية وهي تصب رشاشاتها وقذائفها على وحداتها التي انهارت معنوياتها، فأبادت كثيرا منها، والأمر طبيعي لأن هذه القوات ليست فرنسية أصلا، ولكنها من المرتزقة.
استمرّت المعركة على هاته الحال، فالعدو، ورغم وجوده في دور المحاصر، إلاّ أنّ معنوياته كانت منهارة وقواته مبعثرة بين الكر والفر، وكانت من حين إلى حين تتعالى أصوات المجاهدين بالتكبير رافعة لمعنويات بعضها البعض، ومضعفة لمعنويات العدو إلى غاية حلول الظلام حيث هدأت حدة القتال، بينما استمر القصف المدفعي تحت الأضواء الكاشفة، وكان من الطبيعي أن يجتمع قادة الكتائب مجددا بقائدهم لعرض وقائع ونتائج اليوم الثاني.
كان الشغل الشاغل في هذا الاجتماع كيفية كسر دائرة الحصار المفروض، فأرسل القادة سرية لاستطلاع الوضع الطبيعي والعسكري للحاجز الترابي الذي رأوا أنه المنفذ الذي ستمر عبره الكتائب.
وكانت نتيجة الاستطلاع إيجابية، إذ يمكن تسلّق الحاجز وهو خال من وجود عساكر العدو، عندها قرّرت القيادة الشروع في الاستعداد لعملية التسلق بعد أن أمرت بدفن شهداء اليوم الثاني وعددهم سبعة، وأوصت بالاعتناء بالمصابين، فنقلوا على ظهور زملائهم إلى مكان آمن يبعد حوالي 1 كلم عن المركز، وغطّوا بالحلفاء والعرعار على أن تعود إليهم سرية بعد وقت قريب.
وقد تمّ تقسيم الكتائب إلى أفواج صغيرة لضمان سلامة المجاهدين، وتفاديا لحدوث المواجهة مع العدو. بسبب نقص الذخيرة الحربية والمؤونة.
وبالفعل، شرع في تنفيذ خطة الانتقال بحيلة من اقتراح الضابط الأول الشهيد مخلوف بن قسيم، حيث اقترح تسريح البغال التي كان جيش التحرير الوطني ينقل عليها المؤونة ودفعها تسير عبر الوادي منحدرة ومحدثة ضجيجا يعتقد العدو من حركتها أن المجاهدين يسيرونها، فينشغل بها ويغفل عن حركة المجاهدين، وتمّ ذلك فعلا، ففي الوقت الذي كانت فيه البغال تتلقى وابلا من نار الرشاشات، كانت أفواج المجاهدين تتسلق الممر الصخري الترابي وتجتازه سالمة غانمة منتصرة. وتمكّنت قيادة الولاية من كسر الحصار المفروض مرة ثانية، والتشتت عبر قمم بوكحيل، فقد استطاعت القيادة أن تتجنّب الإبادة الحتمية لجيش لولاية السادسة بفضل إستراتيجية الأخاديد والالتزام التام بالتعليمات وتطبيقها.
ويروي المجاهد سعيد بن علي جاب الله: “من خلال الأعداد الضخمة للقوات الفرنسية، فإنها كانت تحضر وتتحين الفرصة للقضاء على قيادة الولاية السادسة بجبال بوكحيل، فكل جندي بها كان يعرف مخبأه واتجاه إطلاق النار، وكنّا موقنين بالاستشهاد وننتظر الساعة وكنا متسلحين بالإيمان بالله.
وانتهت المعركة بمقتل حوالي 300 من جيش العدو، ومن المجاهدين، استشهد في المعركة الأولى 2 والثانية حوالي 4 أو أكثر قليلا، وبلغ عدد المحروقين بالنبالم 6 مجاهدين، كما يروي المجاهد محمد كحلة.
لقد كان لهذا الانتصار العسكري أهمية كبيرة جدا في مسار الثورة التحريرية، خاصة وأنّ كل الظروف السياسية كانت تعطي انطباعا أن هذه المعركة هي معركة كسر عظم مع الاستعمار الفرنسي خاصة في قضية الصحراء حيث كانت بمثابة رصاصة الرحمة لهذه المؤامرة، فلابد أن يكون لها انعكاس في الجانب التفاوضي وما أعقبه من خيبة أمل لدى الجيش الفرنسي الذي كان وكأنه يقاتل أشباح.
الشّاهد من خلال الدراسة التاريخية للوقائع، أن إحباط مشروع فصل الصحراء كان للجانب العسكري من نشاط وحدات جيش التحرير الوطني بالولاية السادسة، الدور الأبرز من خلال عمليات التخريب وضرب الأهداف الاقتصادية للاستعمار وحرمانه من استغلال ثروات الجزائر، وكذا تنظيم الفئات الشعبية وحملهم على النضال لرفض مشروع التقسيم، وإيقاع هزيمة كبرى بالجيش الفرنسي، وهو الذي دخل المعركة بهدف القضاء على جيش التحرير الوطني بالولاية السادسة؛ لأن تحقيق هذا المسعى يعتبر إنعاشا لمشروع فصل الصحراء، فحتى خيار المواجهة العسكرية المباشرة مع جيش الولاية السادسة أيام 18/17 سبتمبر 1961 ببوكحيل باء بالفشل الذريع، رغم القوة النارية للجيش الفرنسي، وهذا ما كان له بالغ الأثر على المسار التفاوضي والسياسي، وكانت الهزيمة رسالة مفادها أن جيش التحرير الوطني يسيطر على المنطقة، ومن العبث البقاء في الصحراء في هذه الظروف.