أخذت قضية الصحراء الجزائرية إبان الثورة الجزائرية جهدا ووقتا كبيرا، وكانت عبئا كبيرا على القيادة السياسية لجبهة التحرير خاصة على المسار التفاوضي، للحفاظ على الوحدة الوطنية والدفاع عن المصالح المادية للشعب الجزائري بكبح جماح فرنسا من استغلال الثروات الباطنية الجزائرية، وإحباط كل المؤامرات الفرنسية الرامية لفصل الصحراء والتقسيم أو تشكيل كيان سياسي مرتبط بفرنسا، ومن الجانب العسكري، كتب على وحدات جيش التحرير الوطني بالولاية السادسة خوض معركة كسر عظم في سبيل مضاعفة النشاط العسكري بضرب المصالح الاقتصادية للاستعمار في الصحراء المتمثلة في الشركات النفطية، وتوسيع دائرة الأهداف العسكرية عبر كافة نطاق الولاية السادسة..
ولقد تمكن جيش التحرير الوطني عسكريا من وأد مشروع فصل الصحراء، وأصبحت وحداته هدفا استراتيجيا للاستعمار الفرنسي، فالقضاء على جيش الولاية السادسة يعني إنعاش حظوظ هذه المؤامرة التي تحفظ مصالح فرنسا الاستراتيجية، وفي هذا السياق السياسي، وقعت معركة الـ48 ساعة أو كما عرفت بمعركة «الكرمة وجربيع ببوكحيل»، يومي 17 و18 سبتمبر 1961 وهي معركة مني فيها الجيش الفرنسي بهزيمة نكراء، كان لها انعكاساتها السياسية خاصة على مسار المفاوضات.
الولاية السادسة التاريخية وأهميتها الاستراتيجية
تعتبر الولاية السادسة أكبر الولايات الثورية التي أقرّها مؤتمر الصومام، وكانت ضمن الأقاليم العسكرية بمقتضى قانون 1902 وتحدها من الشمال الولايات الرابعة والأولى والثالثة ومن الغرب الخامسة ومن الشرق تونس وليبيا ومن الجنوب مالي والنيجر، هذه الشساعة عقدت من العمل الثوري وتنظيم الولاية، إضافة إلى الظروف الطبيعية الصحراوية القاسية، وندرة الغطاء النباتي الغابي الذي يساعد في تنظيم العمل الثوري كباقي الولايات، واشتملت الولاية على سلسلة الأطلس الصحراوي في شمالها، وهي المشهورة بحافاتها شديدة الانحدار كالسفوح الجنوبية للأوراس وجبال الزاب وجبال أولاد نايل وجبال عمور غرب الولاية، وكتلة الهقار لأقصى جنوبها، بالإضافة إلى الهضاب العليا والكتل الرملية والحمادة.
وتعتبر الولاية السادسة ذات أهمية استراتيجية كبيرة جدا للثورة الجزائرية، نظرا لعدة معطيات كشساعة مساحتها وحدودها مع العديد من الدول الإفريقية وعلى رأسها المملكة الليبية والتي تعتبر من أهم طرق التسليح للثورة الجزائرية، وكذلك لمتاخمتها أغلب الولايات الثورية كالولاية الأولى والثالثة والرابعة والخامسة وسهولة الاتصال فيما بينها، وسرعان ما تهيكلت خلايا جيش التحرير الوطني بالجنوب، أي منذ أن أرسل زيان عاشور المجاهد عبد الرحمن بن الهادي في أفريل 1956 ليقوم بتوسيع النشاط الثوري في جبال العمور، وكلفه بربط الاتصال بوادي ميزاب الشعانبة، وتكفل الحواس من جهته بمحاولات في المناطق الصحراوية الشرقية كبسكرة والزيبان وورقلة وغرداية، وبعد صدور قرارات مؤتمر الصومام ركزت القيادة على التنظيم السياسي والعمل العسكري والفدائي في المناطق الصحراوية، وفي هذا الإطار، كلفت مجموعة من المجاهدين يرأسها محمد جغابة ومزيان صندل ورابح عجمان بالتوجه نحو أقصى الجنوب بهدف تدعيم التنظيم الثوري بوادي ميزاب ومتليلي والمنيعة وعين صالح وتمنراست، وكانت من أهم مهامهم جمع السلاح والتنظيم الشعبي والفدائي وباشرت المجموعة عملها في أكتوبر 1956 ببريان والقرارة، غرداية، متليلي، والاتصال ببقية المناطق الجنوبية عن طريق التجار والبدو.
تركز النشاط الثوري على العمل الفدائي لظروف المنطقة بتنظيم فرق فدائية في كل المدن لإثبات وجود الثورة في هذه المناطق، وأرسل الحواس مجموعات أخرى منها مجموعه محمد روينة قنتار وحامدي بلقاسم وإبراهيم حليلو والرويني الغويني ورابح الأبيض، لتدعيم المجموعة الأولى حيث عملت قيادة المناطق الصحراوية إلى تكوين فرق صغيرة لتمثل نواة جيش التحرير الوطني عن طريق تجنيد أبناء المنطقة، وتكونت كتيبة قامت بعدة عمليات ليوسع النشاط العسكري فيما بعد بالاعتماد على التنظيمات الشعبية والفرق الفدائية، فأصبحت الولاية السادسة تراقب أغلب نقاط الجنوب الجزائري الشرقي في المدن خاصة، والشريط الحدودي.
ويأتي اكتشاف البترول والغاز الطبيعي في باطنها حيث تم اكتشاف الغاز الطبيعي مبكرا سنة 1954 بعين صالح والبترول 1956 بايجلي وحامي مسعود، ليعطى دورا استراتيجيا للولاية ويدخل جيش التحرير الوطني في معركة كسر عظم مع الاحتلال الفرنسي لإحباط مشروع فصل الصحراء من جهة، والعمل على حرمان الاحتلال من استغلال الثروات الباطنية للصحراء من جهة أخرى.
مؤامـــرة فصـل الصحـراء..
بدأت فرنسا بالعمل الميداني لفصل الصحراء وعزلها عن محيطها الطبيعي الجزائري، تمهيدا للإبقاء على حالة التبعية لها في حال قررت التخلي عن شمال الجزائر، وضاعفت الحكومة الفرنسية من جهودها في التنقيب، فكلفت شركات نفطية بوضع خريطة جيو-فيزيائية لأحواض النفط والغاز في الصحراء فكان أهمها حوض الحمراء للبترول، بحاسي مسعود، وحوض حاسي الرمل للغاز، بالقرب من الأغواط، وقد وضعتهما إدارة الاحتلال في متناول الشركات البترولية العالمية التي استفادت من الرخص الخاصة الممنوحة لهم للبحث والتنقيب.
ومضت السلطات الاستعمارية قدما في سبيل فصل الصحراء واستغلال ثرواتها الباطنية عن طريق الزج بحزمة من الإجراءات القانونية كاستحداث المنظمة المشتركة لتنمية المناطق الصحراوية OCRS والتي صادق البرلمان الفرنسي على إنشائها في ديسمبر 1956، وأعلنت رسميا في 10 جانفي 1957، والهدف منها - كما أعلن - تشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية لرفع المستوى الاجتماعي للصحراء، وتضم كلا من الصحراء الجزائرية (عمالتي الواحات والساورة وموريتانيا والسودان الفرنسي والنيجر وتشاد أي دول الساحل الإفريقي الفرنسي)، وتم إقصاء شمال الجزائر من هذه المنظمة، لتكون محاولة مبكرة لتجسيد النوايا الفرنسية في تقسيم الجزائر معتبرة الصحراء الجزائرية فضاء لا علاقة له بالشمال، وتأتي الخطوة العملية الثانية بإنشاء وزارة الصحراء للمرة الأولى في 17 أوت 1957 تولاها كولينيون موليني Couniglion Molinie ثم خلفه في 1 جوان 1958 ماكس لوجان Max Le jeunne في حكومة ديغول، وتم استحداث استثنائي للتنظيم الحكومي الفرنسي، فمنذ أن شرعت فرنسا في احتلال الجزائر بتاريخ 14 جوان 1830 إلى غاية مارس 1934، تاريخ احتلال تندوف، بقي الجنوب الجزائري تحت الحكم العسكري من 1870 إلى غاية 20 سبتمبر 1947 والظاهر من إنشاء هذه الوزارة هو التسريع في مشروع فصل الصحراء، ورفع كل القيود البيروقراطية المتعلقة باستغلال الثروات الباطنية بسحب الصحراء من المصالح الحكومية الأخرى، وكذلك للعمل على تنظيم ساكنة الصحراء وتهيئتهم إداريا لمشروع التقسيم وفصلهم عن باقي الجزائر.
وبمجيء الجنرال ديغول للحكم بعد أحداث 13 ماي 1958، فيما يعرف بقيام الجمهورية الخامسة، كانت قضية فصل الصحراء في صلب اهتماماته، إضافة إلى مشاريعه السياسية والاجتماعية كمشروع قسنطينة وسلم الشجعان ومشروعه العسكري مخطط شال الهادفة للقضاء على الثورة الجزائرية كما صرح بذلك في عديد المناسبات، بقصد «المحافظة على أوضاع أبار البترول وقواعد تجارب القنابل النووية» أو ما ورد في خطابه يوم 19 سبتمبر 1959 «يجب تقسيم البلاد واقتطاع الصحراء من الجزائر لضمان مرور أنابيب البترول وفرض التجزئة الترابية».
وعبر ديغول في مذكراته عن سر الرغبة التي كانت تحذوه للحفاظ على الصحراء وأهميتها الإستراتيجية بالنسبة لفرنسا ومستقبلها.. قال: «منذ عهد قريب، حقول البترول والغاز التي ساعدتنا على استكمال حاجاتنا الماسة إلى الطاقة الصناعية إذ ثمة أسباب كثيرة كانت تحمل الشعب الفرنسي على أن يعد امتلاك الجزائر أمرا مفيدا».. وفور استلامه الحكم، أرسل وزيره الأول ميشال ديبري للجزائر لدراسة الأوضاع العامة، وطلب دراسة خاصة بالصحراء من مستشاره اوليفيي قيشار Olivier Guichard.
لقد أظهر ديغول أن قضية فصل الصحراء تعتبر حيوية وعلى قدر كبير من الأهمية، ولتكن بمثابة الغنيمة التي يمكن من خلالها إنهاء حالة الحرب في الجزائر، والدخول للمفاوضات مع جبهة التحرير الوطني حول استقلال الشمال الجزائري؛ لهذا عمل ديغول كل ما في وسعه لمضاعفة الجهود التي سبقته في هذا الإطار، خاصة في ظل سباقه المحموم للحاق بركب الدول المتقدمة في الصراع على منابع الطاقة وبناء قاعدة نووية تمكنه من دخول النادي النووي، وكل هذا يجب أن يمر عبر فصل الصحراء الجزائرية عن باقي الوطن، فجند ديغول كل طاقات فرنسا المادية والبشرية لهذا المسعى، وامتدت سياسته على ثلاث محاور أساسية: المحور الأول الخطة الاقتصادية لاستغلال الثروات الباطنية وإنشاء قاعدة للصناعة الاستخراجية، المحور الثاني الخطة الإعلامية والدعائية لتضليل الرأي العام الجزائري والدولي، المحور الثالث المخططات العسكرية والسياسية للقضاء على النشاط الثوري بالصحراء.
إحباط مؤامرة فصل الصحراء.. سياسيا
قرّرت لجنة التنسيق والتنفيذ إعادة هيكلة الولاية السادسة في أفريل 1958 وأسندت قيادتها إلى الصاغ الثاني احمد بن عبد الرزاق الحواس، إلى جانب أعضاء مجلس الولاية عمر إدريس الطيب الجغلالي محمد العربي بعرير، وتم وضعت استراتيجيه وفق التطورات الجديدة التي شهدتها سنه 1958 بظهور الجمهورية الخامسة التي جاءت للقضاء على الثورة والعمل الجدي على فصل الصحراء، مما جعل قيادة الولاية تتخذ إجراءات جديدة بتكثيف الاتصال والتنسيق والتعاون بين الولايات المجاورة الأولى والثالثة والرابعة والخامسة في نهاية سنة 1958 في مجال التموين والذخائر الحربية، وإجراءات تتعلق بتبادل الإطارات والوحدات بين الولايات كلما دعت الضرورة إلى ذلك، كما عملت على الاتصال بأعضاء المجالس العامة والمحلية والنواب والقياد وكل الأعيان، ودعوتهم إلى اتخاذ موقف واضح من فكرة فصل الصحراء، وتحسيسهم بخطورة الأمر.
وضاعفت قيادة الولاية من حملاتها التوعوية وإجراء اتصالات مع كتاب لاصاص وكل الجزائريين العاملين في هياكل إدارة الاحتلال والمنتخبين، وإقناعهم بضرورة تقديم استقالاتهم بصورة جماعية تعبيرا عن مساندتهم القوّية للثورة، ورفض سياسة فصل الصحراء، وكذا تنظيم مكاتب سرية في كل المصالح الإدارية المدنية والعسكرية الاستعمارية.
وباستلام العقيد محمد شعباني قيادة الولاية، تم إعادة هيكلة المناطق الجنوبية من الولاية وتأطيرها مما يسمح بمتابعة الأحداث عن كثب، والانتشار عبر كل شبر من الصحراء، فأصبحت كل من غرداية ومتليلي وورقلة تمنراست أهم مراكز الانطلاق، وعرفت بالمنطقة الخامسة تعاقب عليها عدد من المسؤولين كأحمد طالب، السعيد عبادو، رشيد صايم، علي الشريف، احمد بن شرودة، الجموعي قرمة، العابد زروال ومحمد شنوفي.
وكثفت قيادة الولاية كذلك من نشاطها الدعائي المضاد لمشروع التقسيم ويتجلى ذلك في نشرية «صدى الجبال» التي يتكفل الجيش بتوزيعها وشرحها للشعب، كما يروى المجاهد محمد شنوفي في شهادته: «كانت مجلة صدى الجبال تحتوي على مواضيع تتعلق بكل سياسة ديغول، وبعد تجاوز مرحلة المناشير، دخلنا مرحلة أصبح من الضروري فيها تبني طرق أخرى، حيث أسندت القيادة بعض المهام السياسية بالإضافة إلى المهام العسكرية العادية لبعض المجاهدين كي يتصلوا بالجماهير وتوعيتها بمشروع التقسيم، وإعطاء عزيمة للمفاوضين والوقوف إلى جانبهم، والثمرة أتت بسلسلة المظاهرات في الجنوب وادي ميزاب 1961 غرداية ومتليلي، ومظاهرات تقرت، سبتمبر 1961، وورقلة في فبراير 1962.
وفي هذا السياق، نشر العقيد محمد شعباني مقال «مهزلة المهازل» بمجلة «صدى الجبال» في عددها الثاني الصادر سنة 1961، ولقي صدى كبير جدا، فقد شرح السياسة الفرنسية في الصحراء، وأرسل عدة رسائل تهديدية حيث قال: «لم تستح حكومات باريس من الهزائم المرة التي تلقتها على يد الثورة التحريرية في الجزائر خلال السنوات السبع المنصرمة، في المحيطين الداخلي والخارجي، ولم تتعظ بالدروس التي لقنها إياها الشعب الجزائري بإحباط مؤامراتها ومناوراتها الرامية إلى فصله عن ثورته أحيانا، وتقسيمه وتشتيته أحيانا أخرى، فمحاولاتكم الأخيرة السافرة الفاشلة المخزية والمحكوم عليها في مهدها والرامية يا حكام باريس إلى فصل الصحراء عن بقية التراب الجزائري.. هذه مهزلة أحقر من خرافة ربع الساعة الأخير.. إنكم تضيعون أوقاتكم ومصيرها الفشل والخسران؛ لأن الصحراء جزء غال وعزيز من التراب الجزائري رغم أنفكم، وسنن الكون والتاريخ والجغرافيا قد فرضت ذلك».
وكللت هذه الجهود من القيادة بالنجاح، خاصة في مجال التحسيس بحجم المؤامرة الفرنسية، فقد استطاعت قيادة الولاية تجنيد المواطنين وكسبهم في معركة التقسيم، والفضل يعود - بالدرجة الأولى – إلى جهود المحافطين السياسيين لجيش التحرير الوطني، والالتفاف الكامل للشعب مع الثورة، وقطع دابر المؤامرة الفرنسية وتجلى في المظاهرات الشعبية العارمة التي جرت في مدن بسكرة بوسعادة الجلفة الأغواط غرداية تقرت ورقلة.. مظاهرات تحدى فيها الشعب الجزائري السلطات الاستعمارية وجيوشها رافعا الأعلام الوطنية، مناديا بالوحدة الوطنية والتأييد الكامل لجبهة التحرير وتوّج هذا الرفض بالإضراب العام الذي دعت إليه الحكومة المؤقتة يوم 5 جويلية 1961 ليكون يوما وطنيا ضد سياسة التقسيم، فكان إضرابا عاما وشاملا وناجحا 100 بالمائة باعتراف الصحافة الفرنسية والدولية، رغما عن الحشد العسكري الكبير الذي جند لإفشاله والذي قدر بـ30 ألف عسكري.