قال صون تسو في كتابه فنّ الحرب: تعدّ الحرب من أهم شؤون الولاية وأساس الحياة والموت وطريق البقاء والفناء، ومن الواجب التفكير فيها وتحليلها مليا، كما ينبغي تنسيقها وفق العوامل الخمسة الآتية، وتقويمها بشكل نسبي من خلال التقديرات والبحث عن طبيعتها الحقيقية. وأولى هذه العوامل يسمى الطريقة، والثاني يسمى السماء، والثالث الأرض، والرابع القيادة، والخامس القوانين للتنظيم والضبط العسكري.
ولما علم الأمير ما بين الجنود المنتظمة والحشود المتطوّعة من الفرق العظيم عزم على تنظيم جند كاف يكون دأبه التمرين والتدريب ليصل بقوته ومعرفته بالأمور الحربية إلى مقاصده الجسيمة، فقد استقر رأيه على أنّه لا مناص من تحديث جيشه وضبطه وفق قواعد عصره إذا ما أراد أن يستمر في مقاومة الغزو الفرنسي، فعمل على عصرنته وضبطه بقوانين ونظم بغية تحويله من جيش شعبي من المتطوّعين إلى جيش نظامي وفق أحسن التقاليد العسكرية المعروفة في عصره.
لتحقيق ذلك عقد مجلسا عموميا من رجال الدولة وأعيان الرعية وزعمائها وخطب فيهم فأوضح فوائد العسكر النظامي ومنافعه وأخبرهم أنّه اعتزم على تنظيم عدد كاف منه فأجابه الجميع إلى ذلك ووافقوا عليه. ثم أرسل من ينادي في الأسواق بأعلى صوته: ليبلغ الشاهد الغائب أنه صدر أمر مولانا ناصر الدين بتجنيد الأجناد وتنظيم العساكر من كافة البلاد فمن أراد الدخول تحت اللواء المحمدي ويشمله عزّ النظام فليسارع إلى دار الإمارة معسكر ليتقيّد اسمه في الدفاتر الأميرية.
ثم عمل الأمير على ترتيب جيشه وتنظيمه بنفسه حيث جعله ثلاث فرق: الأوّل الراكبون وسماهم الخيّالة والثاني المشاة وسماهم العسكر المحمّدي، والثالث أهل المدافع الصواعقية وسماهم الرماة والطبجية. وسنّ لهم القوانين والضوابط جمعها كاتبه قدور بن رويلة في رسالة سماها: «وشاح الكتايب (كذا) وزينة العسكر المحمّدي الغالب».
يمكننا تقسيم مرحلة إنشاء الأمير عبد القادر لجيشه النظامي إلى مرحلتين متمايزتين: المرحلة الأولى هي التي أعقبت إبرام معاهدة دي ميشال 1834، وحتى عقد معاهدة التافنة 1837 مع الجنرال بيجو، وفيها أنشأ الأمير النواة الأولى لجيشه النظامي، وحدّد لهم زيّهم ومناصبهم. وتبدأ المرحلة الثانية بعد عقد معاهدة التافنة إلى غاية سنة 1843، حيث اكتمل الجيش المحمّدي شكلا ومضمونا من حيث العدّة والضبط والتنظيم.
كما استقرّ زيّه العسكري على شكل ولون محدّد بحسب رتب عناصره في كلّ صنف من أصناف الجند، وسنّ لهم القوانين في رسالة استهل كاتبه ديباجتها كما يلي: «..لما كان للجيش قوانين تخصّه وعلامات تكفه وتحضه وكان من ولاه الله أمير عبيده وجعله الله نصرة لدينه مولانا أمير المؤمنين ناصر الملة والدين، سيدنا الحاج عبد القادر نصره الله، عارفا بتلك الأمور واخترعها وأسّسها بأتم تبيين وابتدعها فجعل نصره الله لكلّ من عسكره المحمّدي وجيشه الأحمدي قانونا يخصّه على حسب تفاوتهم في المراتب وسبقهم للمزايا والمناقب وأمر نصره الله بكتابتها.. وسميتها وشاح الكتايب وزينة الجيش المحمّدي الغالب».
علامات ونياشين العسكر المحمّدي
الوَسْمُ في اللغة العربية أثرُ الكَيّ، وَالْجَمْعُ وُسُومٌ ؛ كما يعني العلامة، فالوِسَامُ: مَا كانت توُسَم بِهِ البعيرُ مِنْ ضُروب الصور. والمِيسَمُ المِكْواة ، وَالْجَمْعُ مَوَاسِمُ ومَيَاسِمُ . قَالَ ابْنُ بَرِيّ: المِيسَمُ اسْمٌ لِلْآلَةِ الَّتِي يُوسَم بِهَا، وَاسْمٌ لأَثَرِ الوَسْمِ أَيضاً. وفي الحياة المهنية يُطلق الوسام على الرتبة الممنوحة للشخص بوظيفته معينة لا لأدائها الفعلي، وإنّما هي وظيفة اسمية تشريفية، أما الرتبة الموجّهة للشخص للأداء الفعلي فتسمى منصبا، وكان الأول والثاني يتساويان في المزايا والحقوق.
أما في العرف العسكري فالوسام قطعة معدنية، ذات شكل وزخارف ورموز، تتفق والغرض الذي يمنح من أجله، يشبك كالإبزيم. وقد يوظف في صنعه معدن البرونز أو معدن ثمين ويطلى أحياناً بالمينة الملونة، ويرصّع بالأحجار الكريمة أحياناً أخرى، حسب درجة أهميته، وقد يعلق بشريطة من القماش، تختلف ألوانها باختلاف الوسام، وحينها يعرف بالنوط ويجمع على أنواط، وقد يكون على شكل وشاح ينتهي برصيعة، وهو من أرفع أنواع الأوسمة. ويتمتع حامل الوسام بميزات يحدّدها نظام إحداثه، وربّما أجريت له جراية خاصة، مثل راتب شهري أو مكافأة سنوية وهو أمر كان معمولا به في جيش الأمير عبد القادر، وكما أنّ للأوسمة الحديثة قواعد وأنظمة تضعها كلّ دولة لتحديد كيفية منحها وطريقة حملها؛ فقد حدّد الأمير بدوره القواعد والأنظمة التي تبين كيفية منحها وأسلوب حملها.
كما وظفت كلمة نشان وهي فارسية الأصل ولها عدّة معانٍ أهمها: العلامة، والأثر، والأمارة، والهدف، والغرض، والرامي، والطغراء السلطانية، وأخيرا الوسام. وقد أدرج هذا المصطلح في التسميات العثمانية المتنقلة إلى الجزائر مع القدوم العثماني، وانتشرت بصورة كبيرة في الغرب الجزائري، حيث استعملت مرادفا للسدادة في ماسورة البندقة أو المدفع، ووظفت بمعنى الرمي والتسديد كذلك، فقد جاء في التنبيه الثاني من القوانين التي سنّها الأمير: يجب على السيّافين أن يتعلّموا حرب المدفع من تعمير ونشان.
ثم أصبح للمصطلح معان أخرى في المنطوق الجزائري، وبخاصة المنطقة الغربية من الجزائر، حيث وظّف للدلالة على المضيّ في طريق مستقيم فيقال: أمشي نيشان حتى بلوغ الهدف أو المكان المراد الوصول إليه، كما وظّف للتعبير عن السلوك السويّ المستقيم فيُقال: أمشي نيشان تسلك بخير، أيّ تمشي سويا على صراط مستقيم، تكون بخير. أما لدى العثمانيين فقد استحدث السلطان العثماني محمود الثاني سنة 1882م، وساما عسكريا عثمانيا أطلق عليه اسم نشان (Nişan)، وكان على أربع درجات الأولى والثانية والثالثة والرابعة.
ولما ضبط الأمير نظمه وقوانينه جعل من حقّ كلّ منتسب لجيشه النظامي الحصول على بدلة تامة وعلى بندقة (بندقية) إنكليزية أو فرنسية مجهّزة قدر الإمكان بعالية (حربة)، كما كانوا يحملون جرابا يحتوي لفتين من الخرطوش، والبلاصكة (بارودية) تمنح لكلّ متطوّع، ويتم هذا بحسب رتبة كلّ منخرط في الجيش، وتميّزا لهذه الرتب جعل لسائر رؤساء الأصناف المذكورة في قوانينه علامات يتميّزون بها ويعرف بها الرئيس من المرؤوس فجاءت كما يلي:
الآغــة والبـاش خوجة
كان الآغة بمثابة رئيس العسكر المحمّدي (المشاة) يعيّنه الأمير ويمنح بندقة دون عالية، وبشطولتين، وسيفا مقبضه محلّى بالفضّة، وغمده مصفّح بالفضّة كذلك، ومثله يسلّح الباش خوجة الكاتب العام)، ويميّز الآغة أربع علامات من الذهب، اثنتان على منكبيه إحداهما مكتوب فيها. (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله)، والأخرى كتب فيها حكمة (الصبر مفتاح الجنّة)، واثنتان في صدره على شكل القمر، فذات اليمين مكتوب فيها (محمد) صلى الله عليه وسلم، وذات الشمال مكتوب فيها اسم الجلالة (الله)، بينما يسلّح الباش خوجة - كبير الكتّاب أو الكاتب العام - ببندقة مجهّزة بعالية، وله علامة من الفضّة على شكل القمر مكتوب فيها لقب أمير المؤمنين ( ناصر الدين)، يجعلها على ساعده الأيمن.
رئيــس الخيّالـة
وهو كبيرهم، تحت إمرته ألفي خيّال، وعلى رأس كلّ خمسين منهم جعل كبيرا سمّاه سيّاف الخيّالة، فيصبح عددهم أربعين سيّافا، وكاتبا. ويميّز رئيس الخيّالة علامتين من الذهب إحداهما على منكبه الأيسر مكتوب فيها الحديث الشريف (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) والأخرى يتقلّدها على صدره الأيمن مكتوب فيها (محمد صلّى الله عليه وسلّم).
السيّافون
صنّفوا من الركاب، مسلّحون ببندقة مجهّزة بعالية، وسيف بالإضافة إلى بشطولتين عليهم شراؤها على نفقتهم الخاصة، ويحملون بلاصكة كالجنود، وهم ملزمون بأن لا يركبوا يوم تعليم الحرب ولا في يوم القتال، وظيفتهم التكفل بسلاح الجند، وهم المسؤولون عنه، فلا بدّ لكلّ منهم أن يَعُدَّ السّلاح، ويتفقده؛ لأنّه هو الضامن المتكفل به أيّ أنّه تحت مسؤوليته.
وبينما يميّز سيّاف العسكر علامتين من الفضّة على شكل السيف يضعهما على عضديه إحداهما، وهي اليمنى مكتوب فيها (لا أنفع من التقى والشجاعة) والأخرى، وهي اليسرى، مكتوب فيها (ولا أضرّ من المخالفة وقلّة الطاعة)، يميّز سيّاف الخيّالة علامة واحدة فقط من الفضّة يجعلها على عضده الأيسر مكتوب فيها (أيّها المقاتل أحمل تغنم).
كبـــير الصــفّ
يمنح رؤساء الصفّ بندقة مجهّزة بعالية وسيف، ويقودون الفصائل (الصفوف) التابعة للكتيبة، مسؤولون أمام السيّاف على كلّ ما يتعلق بالنظام، ففي كلّ يوم سبت عليهم أن يتفقدوا حساب العسكر، وكسوته، ويُميّز كبير الصفّ علامة واحدة يضعها على ساعده الأيمن نفذت من الفضّة مكتوب فيها وسلاحه وآلة حربه (من أطاع رئيسه واتقى مولاه نال ما يرجوه ويتمنّاه).
الكاهية (نائب كبير الصفّ)
كان لكلّ كبير صفّ مساعد أو نائب مسلّح مثله مثل كلّ العسكر المحمّدي ببندقة مجهّزة بعالية، ولتمييزه عن بقية العسكر جعلت له علامة من الجوخ الأحمر يضعها على ساعده الأيمن.
باش طبجي (رئيس الصواعقية)
وهو رئيس المدفع المسؤول عن السدنة الإثنا عشر أيّ العاملين على المدفع، يتميّز عن أقرانه بعلامة مدفع من الفضّة مكتوب فيه قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى» (الأنفال: 17) يجعله على ساعده الأيمن. وتعدّ هذه جلّ العلامات التي ابتكرها الأمير عبد القادر لسائر رؤساء أصناف العسكر المحمّدي.
أنواط الشيعــة المحمّديــة
جاء في لسان العرب: ناط الشَّيْءَ يَنُوطُه نَوْطاً: عَلَّقه. والنَّوْطُ : مَا عُلِّق ، سَمِّي بِالْمَصْدَرِ، وَانْتَاطَ بِهِ تَعَلَّق. وكلُّ مَا عُلِّقَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ نَوْط. والأنواطُ : المَعالِيقُ، أما في المصطلح العسكري، فإنّ الأنواط هي الأوسمة المعلقة بواسطة حاشية، تتدلى على صدر الجندي صاحب الاستحقاق العسكري.
وفي العصر الحديث، جعل للأوسمة الرفيعة والأنساق جوقة (Legion) تضم كلّ من يحملها؛ ويترأس الجوقة رأس السلطة التي تمنحها الملك أو رئيس الدولة؛ وقد يصحب الجوقة عزف للنشيد الوطني أو عزف موسيقى خاصة بالجوقة، مثل «جوقة ربطة الساق 1348 في بريطانيا (The Order of Chivalry)، و«جوقة الشرف 1802 في فرنسا (La Legion d’honneur)، وجوقة وسام أمية الوطني 1934 التي يرأسها رئيس الجمهورية العربية السورية.
أما الأمير عبد القادر، فقد جاء في المسألة الخامسة من وشاح الكتائب: اخترع مولانا علامات من خالص الذهب والفضّة على شكل بديع سماه الشيعة المحمّدية يعني النيشان، ونبّه على سائر الجند أنّ من ظهرت شجاعته أو أبدى مزية وقت الحرب بأن أنقذ أخاه من العدو أو سبق غيره بالهجوم أو الكرّ أو ردّ الهزيمة على العدو وغير ذلك من المزايا التي توجب له العزّ والاحترام عند مولانا، وثبت لديه ذلك فإنّه يمنحه الشيعة (جمعها الشوايع) ويلبسه إياها بيديه الكريمة إن كان بين يديه، ويضرب عليه الطنبور إعلاما بمزيته، وأما إذا كان الذي عمل المزية بعيدا عن السلطان، بأن يكون مع أحد الخلفاء فيثبت الخليفة خصلته التي يستوجب بها حمل الشيعة، ويخبر بها السلطان نصره الله فيأمر له بالشيعة، وعلى حسب الخصلة تكون الشيعة ومراتبها.
إضافة إلى هذا، عديد المزايا التي خصّ بها الأمير متقلّد الشيعة، فإذا فعل العسكري مزية في القتال تجعل له الشيعة المحمّدية على الهيئة المذكورة في المسألة الخامسة من المقدّمة بشروطها، وتكون حرمة لابسها فوق ساير العسكر، وإذا فعل رئيس الصفّ مزية فإنّه يلبس الشيعة المحمّدية، وتكون له حرمة فوق ساير رؤساء الصفوف، وإذا فعل السيّاف مزية، فإنّه يلبس الشيعة المحمّدية، وتكون له حرمة فوق السيّافين، وإذا فعل رئيس العسكر مزية فإنّه يلبس الشيعة المحمّدية وتكون له حرمة أعلى من غيره وكذلك الخيّالة ورؤساؤهم، ومن بين الميزات التي يمكنه الحصول عليها كذلك أن يدخل دون طلب إذن مسبق وبكلّ حرية على جميع رؤسائه بما فيهم الأمير.
وأثناء عمليات الترقية في الرتب العسكرية، جعل الأمير لحامل الشيعة مزايا خاصة عند ترقيته، فلا يكون الرجل سيّافا حتى يتولى رئيس الصفّ، ولا يتولى رئيس الصفّ حتى يتولى كاهية، ولا يكون خليفة حتى يفي له بالخصلات المحمودات، اللّهم إلا إذا كان ممّن حمل الشيعة المحمّدية يستوجب الولاية من غير تدريج إذا توفرت فيه الشروط، ومع ذلك لا تكون ولاية أحد ممّن ذكر إلا بأمر السلطان نصره الله. ومن المزايا كذلك، أنّه اشترط نصره الله ألا يكون الخيّال كبيرا على العسكر (المشاة) إلا إذا كان حمل الشيعة المحمّدية، فإنّه يتولّى كبير العسكر إن احتيج إليه أو اختاره السلطان لمصلحة رآها فيه.