دخلت الثورة الجزائرية في مرحلة الشمولية على إثر هجومات 20 أوت 1955، إذ تعتبر الأخيرة مرحلة هامة من تاريخ ثورة أول نوفمبر 1954، لقد أعطت هذه الهجومات دفعا قويا للثورة الجزائرية من خلال التأكيد على مساندة الشعب لثورته والذي ظهرا للعيان في هذه الهجومات، مؤكدة على أن الثورة، ثورة شعب ضد عنجهية استعمارية فرنسية امتدت لعقود. ولقد امتدت هذه الهجومات على مدار ثلاثة أيام متتالية وألحقت بالعدو الفرنسي خسائر معتبرة..
هجومات 20 أوت.. عملية أملتها الظروف الصعبة والتطورات الخطيرة التي عاشتها الثورة في مرحلتها الأولى داخل وخارج الجزائر، فالصورة ظلّت منحصرة في مناطق محدودة، خاصة الأوراس، ما دفع بالعدو الفرنسي إلى تركيز كل قواه ونشاطه فيها.
ولقد كانت هجومات 20 أوت 1955 عملية مخططة ومدروسة ومنظمة تنظيما محكما، وبخصوص هذه الهجومات يقول الطاهر سعيداني في مذكراته: “لولا إقدام زيغود يوسف على تنظيم هجوم الشمال القسنطيني يوم 20 أوت 1955، لكان العدو توصّل إلى القضاء على الثورة وهي في المهد، وكان الحدث بمثابة المنعرج الحاسم الذي أدى بالفئات الشعبية لاحتضان الثورة ليس فقط في الشمال القسنطيني، بل في الجزائر بأسرها، وبذلك صدقت مقولة بن مهيدي “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”.
ويؤكد المرحوم على كافي أن فكرة هجومات 20 أوت 1955 كانت بمبادرة شخصية من زيغود يوسف، من خلال كلمته الحاسمة التي قالها يوم صمم على القيام بالهجومات، وتحمّل خطورة مسؤولية نتائج العملية إن لم تحقق أهدافها، بالنسبة للعدو الفرنسي، كانت مصالح الاستخبارات الفرنسية تتوقع انفجارا، لكن لا تعرف متى وأين سيقع هذا الانفجار.
امتدت العملية على مدار ثلاثة أيام، ولكل يوم أهدافه، بينها فكّ الحصار على المنطقة الأولى الأوراس، من خلال استهداف جميع المواقع العسكرية من ثكنات ومراكز البوليس والجندرمة والمؤسسات الاقتصادية ومعاقل الأوروبيين، وقد تمّ الهجوم في وضح النهار حتى تشاهد الجماهير الشعبية جنودها تلتحم بهم لرفع المعنويات وتحطيم قوة العدو من جهة، وإقناع المترددين في الالتحاق بالثورة، ما يعني تسليم مشعل الثورة للجماهير حتى تشمل الثورة ربوع الوطن، وکسب انضمام كل تيارات الحركة الوطنية والشخصيات الجزائرية المرتبطة بالأحزاب في صفوف جبهة التحرير الوطني، لتوحيد صفوف وجهود الحركة الوطنية الجزائرية من أجل الاستقلال، إضافة إلى رفع معنويات المجاهدين وتحطيم أسطورة الاستعمار وجيشه الذي لا يقهر، وإعادة الثقة وتعزيز الروح القتالية للمجاهدين والشعب، وبثّ الرعب وعدم الاطمئنان في نفوس المعمرين.
وكانت هجومات 20 أوت تكذيبا صريحا لادعاءات الاستعمار بتبعية الثورة الجزائرية لبعض العواصم الخارجية، فأثبتت وطنية الثورة وشعبيتها، كما حصّنت المبادئ الثورية، واستكملت شمولية الكفاح.
وكان مهما لفت نظر العالم إلى الواقع الجزائري، قبل انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة أن الدول الأفرو آسيوية في مؤتمر باندونغ قررت - لأول مرة - عرض القضية الجزائرية على منظمة الأمم المتحدة.
التحضير للهجومات
لتجسيد فكرة الهجوم ميدانيا، قرّر زيغود يوسف الاجتماع بقادة المنطقة الثانية لأخذ أرائهم وكيفية تنفيذ الفكرة على الأرض، فعقد اجتماعا في جوان 1955 بناحية بوساطور” بلدية سيدي مزغيش حاليا” حضره حوالي 150 مجاهدا، وتمّت دراسة الأوضاع العامة بالمنطقة والقيام بالتدقيق في كل الإمكانات، لكن بعد دراسة وضعية المنطقة وبعد المكوث بها مدة أسبوع، اتضح أنها لا تتوفر على شروط الأمن الكافية لعقد مثل هذا الاجتماع العام وتم اختيار كدية داود بمنطقة الزمان نواحي سيدي مزغيش تم فيها دراسة الوضعية العامة للثورة، وانعقد الاجتماع في دار رمضان يونس، المدعو رابح، في الطريق الجبلي الرابط بين سكيكدة والقل بين مسؤولي الناحية الثانية، ثم تبعه اجتماع موسع لجميع جنود وضباط المنطقة الثانية في دوار المجاجدة، ومن بين الذين حضروا اجتماع دشرة الزمان، عمار بوقلاز رفقة اثنين آخرين عن ناحية سوق أهراس التي كانت تابعة للمنطقة الثانية، وتسلم المجاهدون الأوامر والتعليمات من زيغود استعدادا لليوم المشهود..
أراد زيغود يوسف أن يشرح الظروف الداخلية والخارجية التي تعيشها الثورة بعد مرور عشرة أشهر من اندلاعها، كما حاول إقناع الحاضرين بأهمية الهجومات مبررا الأهداف السياسية والعسكرية التي تعود على الثورة بفوائد كثيرة داخليا وخارجيا.. يقول بن طوبال: هذا الاجتماع أسفر عن ضبط البرنامج على مستوى الولاية، ويخصّ القيام بعملية جريئة، وقررنا دخول أكبر عدد من القرى والمدن وحددت الساعة بمنتصف النهار لبداية العمليات.
وكان المحور الأول للاجتماع متعلقا بتنظيم العمل السياسي وتوعية الجماهير لضمان مشاركتها الفعّالة في العمليات حتى تكتسي هذه الأخيرة طابع الانتفاضة الشعبية المسلحة، وكان مقررا مشاركة 80 بالمائة من الشعب حتى تعطي للثورة طابعها الشعبي وتفنيد الرواية الفرنسية الثورة يقوم بها الخارجون عن القانون وقطاع الطرق ولا دخل للشعب فيها، أما المحور الثاني، فكان متعلقا بتحديد يوم الهجوم، وهي أول نقطة اتفق عليها المشاركون وحددت بـ20 أوت لعدة أسباب، منها نهاية الأسبوع، بداية العطل بالنسبة للجنود ورجال البوليس، والسوق الأسبوعية في سكيكدة وعدد المدن في المنطقة الثانية، ما يسهل الاختفاء والتمويه.
في المحور الثالث، تمّت مناقشة توقيت الهجوم، فقد حدّد بالساعة منتصف النهار كساعة الصفر للانطلاقة عبر كامل تراب المنطقة، وتمّ
ـ في المحور الرابع تحديد مدة الهجوم بـ03 أيام متتالية.
جوانب من سير العمليات
في سكيكدة، لم تدم الهجومات طويلا في مجموعها، لكنها امتدت مع ذلك، أكثر من نصف ساعة في بعض الجهات، غير أن الهجوم الذي وقع في مقبرة” الفرنسيس”، كشف قبل انطلاقه، أما المداخل الأخرى فكانت الهجومات بها ناجحة، وعلى العموم أتت على التجهيزات المادية والبشرية للمستعمر، حيث تمّ الهجوم على الثكنة العسكرية المعروفة باسم مانجا، ومراكز الحرس المتنقل في باب قسنطينة، مركز الجندرمة بالقبة وبالسجن المدني ومقر شرطة الاستعلامات العامة الموجود بجوار الميناء، إضافة إلى مطار سكيكدة، حيث توجد حامية عسكرية وعدد من الطائرات المدنية الحربية، وتمّ الهجوم أيضا على قرية العالية حيث توجد مجموعة من المستوطنين المستعمرين، وكذلك منجم الحديد ومركز تصفية خام الحديد بالعالية. كما كلف القائد الدراجي بلعايب مجموعة من المجاهدين منهم بوراوي عبد الله، قديد حميدة، المكي بوعنينبة، بالهجوم على المحكمة، فلما دخلوا وجدوا الحارس فقط ولم يجدوا العمال، بقوا داخل المحكمة وحوصرت مجموعة المجاهدين إلى غاية الرابعة مساء فاستنجدت قوات العدو بالدبابات، وأضرم المجاهدون النار وأفلتوا عبر نافذة بالقرب من مخزن القمح حاليا.. استشهد في هذه العملية المجاهد حميدة قديد.
وفي قسنطينة، تمّ اقتلاع السكة الحديدة التي تؤدي من بلدية سيدي معروف إلى جيجل، ووقع اشتباك بمكان يدعى المريجة دائرة الميلية وتمّ إحراق الفلين الموجود بمحطة الميلية، ووقع اشتباك بين العدو الفرنسي وجيش التحرير الوطني بجسر بوسيابة كما وقع اشتباك آخر في واد بواد بوالقفش بالسطارة وبحتمة بني هارون، إضافة إلى اشتباك قام به جيش التحرير على مستوى الميلية بالاربعاء، أم الطوب، حيث تمّ تحطيم جسر ومنجم بني زهاني، وتحطيم كل المعدات بمنجم يدعى ديار الهوادف، وشمل التهديم والإتلاف كل ضيعات الأوروبيين على مستوى الدائرة، كما تمّ الهجوم على الدائرة الكائنة بساحة غال الكبرى ومؤسسة برنار لبيع الأسلحة والذخيرة الحربية، والتي استولى فيها المجاهدون على كمية من السلاح والذخيرة كما تمّ الهجوم على مطعم غاميرون الكائن بشارع كارمن، وتحييد عساكر زجرح آخرين.
في مجاز الدشيش، بدأت العمليات بمرتفع بوسطور بنصب كمين لقوات العدو دمرت خلاله سيارة جيب بمن فيها، واستطاعت بواسطة رشاش ستان انجليزي وموسكوطو إيطالي الصنع وكمية هامة من بنادق الصيد أن تواصل الهجوم لمدة خمس ساعات، نفذ فيها جنود جيش التحرير إستراتجية فعالة، ورد العدو الفرنسي بعنف.
في الميلية، فرقة هاجمت عين قشرة بقيادة مزدور صالح، وفرقة أخرى هاجمت السطارة كاطينا سابقا بقيادة الشهيد علي بوزردوم، كما هاجمت فرقة حزوز، بقيادة قرفة عمر المدعو موسطاش، وفرقة بقيادة مسعود بوعلى، استولت على كمية من الأدوات التقليدية، الفؤوس والمذارى، والتحقت بفرقة قرفة عمر التي تصدت لإحدى شاحنات العدو وحيّدت إحد الدركيين وغنمت سلاحه.
وتمّ تدمير قنطرة بواسطة لغم، ووقع اشتباك بين جنود جيش التحرير الوطني في حمادة طريق عصفورة ضواحي القل، حيث واجهت قوة المجاهدين ببسالة عساكر العدو، وأحدثت خسائر هامة في صفوفهم، قدرت بـ45 جنديا تمّ تحييدهم، وغنم قطعتي رشاش . وفي منطقة فلفلة، تمّ تحييد كثير من المعمرين المسلحين المكلفين بالحراسة، بالإضافة إلى إلحاق خسائر معتبرة بمنشآتها، وغنم المهاجمون أسلحة كثيرة ومتفجرات إضافة إلى مبلغ من المال.
بقية النواحي، كان هدفها مدينة واد الزناتي، فناحية تملوكة وعين التراب، تهاجم البلدة من جهتها الجنوبية عبر جبل العنصل، ويقصد المجاهدون رأسا قلب المدينة، ومن ناحية عين مخلوف ريني سابقا ورأي العقبة من جهتها الشرقية، طريق قالمة، تمت مهاجمة مركز الدرك، ومن ناحية السواحلية الشمال والغرب على جبل عين القمح، تمت مهاجمة السجن وحامية المدينة ومراكز الحكومة المحلية، المحكمة ودار البلدية والشرطة، وأمام هذا الزحف، وقع رعب كبير في قلوب قادة الجيش الفرنسي مما أدى بهم إلى إعطاء الأوامر للانسحاب الحامية إلى خارج المدينة، والتمركز للدفاع، أما الجنود السنغاليون، فقد فروا قبل أن يصلهم الأمر، عندما رأوا جموعا لا تحمل سلاحا سوى العصي، تشجعوا وتصدوا للشعب، وكانت المدافع منصوبة فوق سطوح العمارات ترسل حممها على المهاجمين من الشعب دون انقطاع، وفي هذا يذكر المجاهد رباح بن الوصيف قائد العمليات قائلا: “كانت الأناشيد وأصوات المجاهدين تعلو منادية الله اكبر الله أكبر إلى الإمام.. إلى أن سيطر المهاجمون، فارتفعت زغاريد النساء في الشرفات والسطوح والمنازل، لكن لفترة قصيرة”.
معركة حمام بني هارون بميلة
عشية يوم 19 أوت 1955، أعطيت الأوامر للمجاهدين المتمركزين بمنطقة حمام بني هارون بعدم مغادرة المكان، وذلك من أجل مهمة عسكرية وفي يوم 20 أوت، نصّب المجاهدون كمينا لقوات العدو الفرنسي القادمة من الميلية، والمتكونة من 20 جيب على متنها حوالي 40 عسكريا، وراءها عربات صغيرة. أما المجاهدون فقد بلغ عددهم 60 فردا منهم حوالي 20 يمتشقون أسلحة عسكرية، أما البقية فمسبلين مزودين بالأسلحة البيضاء.
بلغت خسائر العدو في هذه المعركة 09 قتلى، وقد غنم المجاهدون العربات الصغيرة المعبأة بالأدوية والألبسة، كما سجّل استشهاد مجاهد واحد.
وعلى العموم، تكونت بالناحية الثانية 9 أفواج لنهجم على مدينة قالمة والقرى التالية: الركنية - الطاية “بوهمدان” حمام المسخوطين - عين احسيانية “وادي الزناتي” عين رقادة عين العربي.
أما بالناحية الثالثة، فقد تشكلت أربع أفواج ليتمّ التوجّه إلى أربعة قرى وهي: بوعاتي، الفوجوج، هيليوبوليس، عين الباردة، عوض عن السبت سابقا الذرعان حاليا، لبعد المسافة.
الأبـعـاد الـداخلية والخارجية لهجومـات 20 أوت
إن أحداث هذا اليوم التاريخي، غيرت مجرى الثورة الجزائرية، فقد أمنتها بغذاء جديد وحياة جديدة، وبإمكانات أخرى، فمن ناحية الجماهير يمكن القول بأنها أمدتهم بطاقة معنوية عامة وبأمل عظيم وإيمان قوي بالثورة، ومن الناحية السياسية الداخلية يمكن القول بأنها أقنعت المترددين والمشككين الذين تمسكوا بالحذر ظنا أن الثورة مغامرة وجنون.
لقد كان لهذه العملية أكثر من معنى وأكثر من صدى على الصعيد الوطني والعالمي ومن بين هذه المعاني التي حققها يوم المجاهد على سبيل العد لا الحصر:
- إظهار الثورة في شعبيتها وشمولياها وتلاحمها الوثيق بمختلف الطبقات الشعبية الجزائرية.
- التخفيف من شدة الضغط العسكري على منطقتي القبائل والاوراس اللتين حشدت لها القوة الاستعمارية في ذلك الوقت كل ما تملك من عتاد وجيش ظنا منها أن القضاء على الثوار بالمنطقتين، هو قضاء مبرم على الثورة كلها.
- قطع الطريق أمام المتمردين والمشككين وإزاحة الستار على المتقاعسين ليتخذ كل واحد منهم موقفه الصريح من الثورة الشعبية الزاحفة
- نسف الادعاءات الاستعمارية التي كانت ترددها أبواقه في الداخل والخارج، بواسطة الإذاعات والجرائد وغيرها من وسائل الإعلام التي تصف الثورة بأنها أعمال إجرامية.
- إظهار الوحدة القوية والكفاح المسلح للشعب الجزائري.
رفعت هذه الهجومات صوت الثورة عاليا، وأشعرت العالم أن ما يجري في الجزائر هو ثورة حقيقة، ومع أن الجمعية العامة للأمم المتحدة رفضت مناقشة القضية الجزائرية في دورة عام 1955، إلا أن هذا الرفض تمّ بأغلبية صوت وحد فقط، وهذا دليل على أن الثورة الجزائرية لقيت صداها في العالم، ودليل آخر على أن الدبلوماسية الفرنسية كانت تخادع الرأي العام الدولي بتصويرها أن ما يجري بالجزائر عبارة عن خروج عن القانون.
إن هذه الهجومات برهنت للعام أن ما يجري بالجزائر ثورة وراءها كل الشعب، ولهذا لم تفز الدبلوماسية الفرنسية في التصويت حول طرح القضية الجزائرية أول مرة إلا بصوت واحد، وهذا يعد انتصارا للثورة الجزائرية. كما أن أعوان الاستعمار عرفوا أن الثورة مستمرة ولا يمكن أن يقضى عليها، فالشعب ملتف حول ثورته.