أسّس المكتبة الوطنية الجزائرية الأولى وحرص على التعليم..

الأمير عبـد الـقادر في مـعترك المقاومة الثقـافـية

د. سعيدي أمين - أ.د. سعيدي مزيان المدرسة العليا للأساتذة – بوزريعة

الأمير عبد القادر رجل سيف في مقاومته المسلّحة ضدّ الاستعمار الفرنسي لأكثر من خمسة عشر عاما، وهو صاحب قلم أيضا، واصل مقاومته إلى أن وافاه الأجل.. كان الأمير عبد القادر رجل علم وقلم، وقد حرص، حتى وهو في خضم معترك الكفاح على تنظيم التعليم وإنشاء مكتبة لعبت دورا تربويا كبيرا في الدولة الوطنية، كما أنّ مقاومته لم تنته يوم 23 ديسمبر 1847م، بل تواصلت سواء عندما كان في الأسر بقصر “أمبواز” أو في بورصة بتركيا أو في دمشق بسوريا، فقد فتح الأمير العارف المعلم جبهة جديدة للكفاح ضدّ الاستعمار الفرنسي وحقّق انتصارات فكرية ومعرفية كبرى، وأصبح نموذجا للعالم والمثقف المسلم القادر على استيعاب حقائق عصره، والتعايش مع مختلف الديانات والثقافات في إطار التسامح الديني.

اهتم الأمير بالتعليم فأنشأ الزوايا في مختلف أنحاء البلاد، وجعل منها العمود الفقري لنظام التعليم، فكان يزوّدها بالمعلّمين، ويمدّها بالمساعدة المالية والمواد الغذائية، وفي المقابل، فإنّ هذه الزوايا كانت تساند نظامه باعتبارها مركزا للتربية والتعليم ومنابر بثّ الدعوة إلى الجهاد بالمناطق التي تقع فيها.
وضع الأمير أسس نظام تعليمي هدفه المحافظة على وحدة الثقافة العربية الإسلامية، وتماسكها بالمحافظة على تراث الجزائريين، وتغذيتها لحركة الكفاح ضدّ الاستعمار، فكان من بين اهتماماته إنشاء نظام للتعليم العام بين القبائل جميعا، وأصبح التعليم - لأول مرة - مهمة دولة، فقد رتب الأمير في سائر المدن والقرى علماء لتدريس فنون العلوم المختلفة، وأمر بطلب العلم واحترام أهله. وأصبحت الدولة تجري النفقات للطلبة القائمين بالتعليم وتعيين مرتبات للعلماء، وبذلت أقصى الجهود للمحافظة على الكتب والمخطوطات من الضياع ومعاقبة من يتلفها.
خلال فترة السلام (1837-1839م)، أصبح التعليم موكلا لفقهاء القبائل والزوايا في مراحله الابتدائية الثانوية والعالية، بعدما كان من مهام الدولة، واستغل هذه الفترة (الهدنة) لإرسال بعثات طلابية من 30 شابًا إلى مرسيليا للتأهيل في مختلف الفنون والحرف والصنائع.

وعرف التعليم على عهد الأمير مراحل ثلاثة هي:
الطور الأول، مرحلة 4 سنوات يتعلّم الطفل خلالها القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ثم الطور الثاني: يواصل تعلّمه في الجامع أو مدرسة ملحقة بالأوقاف يدرس النحو والصرف والتفسير والقرآن خاصّة، أما الطور الثالث، فهو يسمى “التعليم العالي”، يواصل تعلّمه في الزوايا وأهم الجوامع يدرس النحو، الفقه، الحساب، الفلك، التاريخ.
لقد شهد عصر الأمير عبد القادر بداية نهضة تعليمية لو كتب لها الاستمرار، لكانت صفحة مشرقة، حيث كان بتلمسان وحدها على عهده، خمسون مدرسة ابتدائية تصبّ في معهدين كبيرين للتعليم العالي.

مــكــتبــة الأمـير..

كان الأمير عبد القادر مولعا بالمطالعة وجمع الكتب واقتنائها مهما كان ثمنها ومكان وجودها، ولهذا، كانت مطالعتها من أهم الأنشطة التي يتفرغ لها بعد أداء الصلاة والذكر، وكان يطالع - بالدرجة الأولى - الكتب ذات الطابع الديني، وكانت خيمته لا تخلو من الكتب أو المخطوطات النفيسة، وهو ما أشار إليه أدريان بيربروجير عند زيارته للأمير في برج حمزة، فهو يروي أنه عندما دخل خيمة الأمير المسماة (الوطاق)، وجده “متكئا على بعض الوسائد وعلى يساره حوالي 30 مجلّدا من الكتب، وأما على يمينه فقد وضعت أسلحة فاخرة ومرصّعة.. وكان كبير الكتّاب أو (الخوجات) على يمين الأمير وأحد الشواش عن يساره”.
وقد كانت فرحة الأمير كبيرة عندما أهداه أدريان بيربروجير أحد الكتب النفيسة، وقال بيربروجير يصف فرح الأمير قائلا: “فيما يخصّني، قدّمت إلى الأمير هدية منذ أول لقاء معه، وهي نسخة عربية خطية وجميلة جدّا من كتاب دلائل الخيرات كانت موجودة في قسنطينة، وهي تتضمّن صلوات وأدعية وغيرها من مواضيع العبادة، وقد ظهر أنّ الأمير عبد القادر قبلها بغبطة شديدة نظرا للموضوعات التي عالجتها، ونظرا أيضا إلى كونها آتية من مكتبة بني عيسى، مساعد الباي أحمد”.
ولتوفير الكتاب وتسهيل عمل المعلمين والطلبة، حرص الأمير على جمع الكتب واقتنائها حيثما وجدت، وحثّ على المحافظة عليها ومكافأة كلّ من يأتيه بكتاب أو مخطوط، كما أنّه كان يدعو جنوده أثناء المعارك إلى تسليمه ما يقع بين أيديهم منها، ويعاقب كلّ من يمسكه متلبسا بإتلافها أو تمزيقها، أو لم يحترم تعليمات الأمير في طرق التعامل مع الكتب والمخطوطات التي يعثر عليها أثناء المعارك.
ومن شدّة تعلق الأمير بالكتب واهتمامه بها، أرسل بعض تلاميذه إلى الأناضول وقونية لنسخ مخطوطات ابن عربي، وكان الأمير يضع الكتب والمخطوطات التي يجمعها في المساجد والزوايا تحت تصرف العلماء والطلبة في انتظار إنهاء بناء مكتبته بتاقدامت (عاصمته الجديدة)، والتي شرع في بنائها سنة 1836م بمكان له رمزيته التاريخية؛ إذ كان الأمير يهدف من وراء اختيار الموقع إلى إحياء العاصمة السياسية والفكرية والدينية القديمة للجزائر، لكن تجدّد القتال مع الفرنسيين، بعد إقدامهم على خرق معاهدة التافنة عام 1839، جعل أشغال البناء تتوقّف ويتوقّف معها مشروع المكتبة.
اضطر الأمير عبد القادر أمام تحرّشات الفرنسيين وعدم شعوره بالأمن والطمأنينة في إقامته الرسمية إلى بناء عاصمة متنقلة وهي “الزمالة”، يمكن تفكيكها ونقلها إلى أيّ مكان وإعادة تركيبها، وبذلك أصبحت المكتبة متنقلة مع الزمالة إلى غاية 15 ماي 1843م عندما هاجمها الجيش الفرنسي بقيادة الدوق دومال، فقضى عليها واستولى على مكتبتها التي تم نهب كتبها ومخطوطاتها وإتلاف قسم منها، وقد قدّر عددها آنذاك بحوالي 5000 كتاب ومخطوط.
تألّم الأمير عبد القادر كثيرا لذلك، وهو يقتفي أثر الجيش الفرنسي، ويجمع البقايا المتناثرة للكتب الممزّقة، إنّ قراءة متمعّنة في اهتمامه بعالم الكتاب والمكتبات تقدّم صورة مثالية عن الوعي العميق بأهمية تأسيس مكتبة عمومية بالنسبة لدولة من الدول، باعتبارها تشكّل الأداة الكفيلة بالمحافظة على الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري وتراثه، لهذا اعتبر عبد الحميد بن أشنهو أنّ الجزائر لم تفقد استقلالها يوم 5 جويلية 1830م عند احتلال مدينة الجزائر، ولا يوم 23 ديسمبر 1847م، ولكن يوم 5 ماي 1843م عند سقوط آخر عاصمة للبلاد، واستيلاء الفرنسيين للمرة الثانية على الخزينة العامة والأرشيف الوطني، وأمام خسارة بهذا الحجم لم يتردّد يحيى بوعزيز في تشبيه ما فعله جنود الدوق دومال بمكتبة الأمير بما فعله المغول بمكتبة بغداد سنة 1258م، وما فعله الإسبان بالمكتبات الإسلامية بالأندلس بعد سقوط غرناطة، آخر إمارة إسلامية، ولا يختلف ما فعل الفرنسيون في 1843 عما واصلته منظمة الجيش السري “OAS” بمكتبة جامعة الجزائر في جوان 1962م حين أقدمت على إضرام النيران فيها!!.

الــنـشـاط التعـلـيـمي للأمـير عبـد الـقـادر

داوم الأمير عبد القادر على تدريس العلم ومواصلة مجهوده التعليمي وإفادة الطلبة من حتى وهو في الأسر بقصر أمبواز، إذ قرأ على من كانوا معه، “الصغرى” للسنوسي في علم الكلام ورسالة محمد بن أبي زيد القيرواني في الفقه، على مذهب الإمام مالك وغيرها من المصنّفات المفيدة، وقد تأثر بذلك أخواه محمد السعيد ومصطفى، وشرعا بدورهما في تقديم بعض الدروس، إذ قاما في حلقاتهما الدراسية بقراءة صحيح البخاري وكتاب الشفاء للإمام عياض.
إنّ هذا النشاط التعليمي الواسع للأمير وهو في الأسر، كان يعكس معنوياته العالية وقوّة إرادته رغم الظروف الصعبة التي كان يجتازها وهو محروم من حريته، كما أنّ ذلك يؤكّد تصوّر وإيمان الأمير بأنّ المقاومة ليست بالسلاح وحده، بل هناك أشكال أخرى للصمود والمقاومة، ومجالات وساحات أخرى لمواجهة الاستعمار من بينها المجال الثقافي والتعليمي، ولهذا أثر عنه أنه بعد الانتهاء من تعليم أحد أبنائه، قال: “هذه آخر بندقية بقيت لي”.
لكن، رغم اشتغال الأمير بتقديم الدروس وتنشيط حلقات لهذا الغرض، فإنّه كان يشعر بالضجر والعزلة، واختار الشيخ محمد الشاذلي القسنطيني لمؤانسته ومجالسته، فانتقل هذا الأخير إلى أمبواز أين استأنس الأمير بالشيخ وبعلمه.
واصل الأمير نشاطه الثقافي والفكري بعد مغادرة أمبواز، حيث أنه أثناء زيارته لمدينة باريس، اجتمع بالعلماء الفرنسيين وناظرهم وناقش معهم مختلف المسائل العلمية والفكرية وعبر عن روح تسامح عالية وإيمان قوي بإمكانية تعايش الديانات والعقائد المختلفة،
ثم زار دار الطباعة الأميرية الفرنسية، واطّلع على مختلف مراحل عملها، وعبر عن إعجابه الكبير بهذا الإنجاز الحضاري؛ لهذا، سأله بعض الأعيان عمّا رآه في باريس، أجاب قائلا: “بالأمس رأيت صناعة المدافع التي تهدم بها الحصون والقلاع، وفي هذا اليوم، رأيت الحروف التي تُغلب بها أسر الملوك وتخرب دولهم”..

في بـورصـة التركـيــة..

امتد نشاط الأمير التعليمي إلى بورصة التي دخلها سنة 1853م، والتقى بها السلطان عبد المجيد والصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا، شيخ الإسلام عارف حكمت بك، ثم أدّى زيارة مجاملة للسفير الفرنسي الماركينز دولا فابيت، وكان الناس يزدحمون لرؤية الأمير حيثما ذهب، فكانوا يقدّمون له التحايا في الطرقات أو في رحاب منازل الوزراء والأعيان، كما تنقل كثير من المهاجرين الجزائريين من تونس ومصر والحجاز والشام، إلى بورصة لرؤيته، ومن بينهم الشيخ يوسف بدر الدين المغربي المقيم في دمشق.
عندما استقر ببورصة، واصل الأمير نشاطه التعليمي والتربوي، إذ كان يقضي أيامه هناك، - حسب تشرشل - في تربية وتعليم أبنائه وفي الدروس التي كان يقدّمها بالمسجد، وفي دراساته ومطالعاته الشخصية والعبادة، وهذا ما يؤكّده ابنه محمد، حيث يقول: “وكان يصلي الصلوات الخمس، في الجامع القريب من الدار المعروف بجامع العرب، ويقرأ فيه الدروس، فقرأنا عليه ألفية ابن مالك بشرح المكودي والسنوسية، شرح المصنف، والإسياغوجي”، إضافة إلى ذلك كان الأمير يواصل التربية مع أبنائه حتى في المنزل العائلي، وذلك بانتقاء مجموعة من الكتب التي يقرأها عليهم، مثل كتاب الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز الدباغ.

في دمـشـق..

واصل الأمير نشاطه التعليمي في دمشق فبعد استئذانه السلطان العثماني، غادر الأمير عبد القادر بورصة سنة 1855م متوجّها إلى سوريا حيث استقر بمدينة دمشق، فشرع في تقديم الدروس بالمسجد الأموي وبالمدرسة الأشرفية المعروفة بدار الحديث النووية، وذلك بعد تسوية النزاع الذي كان بين الشيخ يوسف بدر الدين مسير المدرسة وبين أحد الرعايا الأوروبيين استولى على الدار التابعة للمدرسة، وجزءا من مسجدها، بغرض تحويلهما إلى خمارة، لكن بعد تدخل الأمير عبد القادر بطلب من الشيخ يوسف بدر الدين، استدعى الرعية الأوروبي إلى منزله واشترى منه الدار وأوقفها على الشيخ يوسف وورثته من بعده سنة 1872م، ثم تكفّل بترميم المسجد والمدرسة على نفقته.
بعد الانتهاء من أعمال الترميم والإصلاح، التحق الأمير بالمدرسة وشرع في تقديم دروسه بها وذلك بحضور الشيخ يوسف بدر الدين، وتم تحديد موعد الدرس بين صلاتي الظهر والعصر، ولقد نالت هذه الدروس شهرة كبيرة في سوريا، ما جعل كثيرا من العلماء والطلبة يحضرونها.
لم يبق نشاط الأمير التعليمي منحصرا في المدرسة الأشرفية، بل وسّع مجاله ليشمل المدرسة الجقمقية التي درس بها كتاب الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي، وكتاب الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز للسيد احمد المبارك، ثم كتاب “الشفاء” للقاضي عياض، و«صحيح مسلم”.
لقد كان الإقبال على دروس الأمير المسجدية كبيرا لدرجة أنّه بعد رجوعه من رحلته إلى الحجاز قام بفتح منزله لطلبة العلم، وخصّص لهم وقتا محدّدا يقدّم فيه الدروس.

خــتـامـا

شهد عصر الأمير عبد القادر نهضة تعليمية غير مسبوقة، ولقد قدّم خلال القرن التاسع عشر، صورة متكاملة عن الجزائري المثقّف، فحمل خصالا أبهرت أعداءه، وهذا ما عبّرت عنه الصحف الفرنسية، حين قالت إنّ الأمير “رجل مفكّر ومثقّف ومتفتّح” وإنّه “رجل أدب”.
وضع الأمير أسس الدولة الوطنية الجزائرية الحديثة؛ لأنّه لم يكن رجل حرب فقط بل صاحب فكر نيّر وقلم سيّال، وليس أدلّ على ذلك من مكتبته، وهي أول مكتبة وطنية بالجزائر، ضمّت كثيرا من المؤلّفات في الفلسفة والمنطق والتاريخ والفكر.
يمكن القول إنّ الجانب الثقافي لعب دورا مهما في مقاومة الأمير عبد القادر، لكنّه لا يزال في حاجة إلى دراسة وبحث.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024