فرحات عباس من الشخصيات الوطنية التي يغيب الحديث عنها، يقول الكاتب الصحفي حميد عبد القادر في كتابه «فرحات عباس، رجل الجمهورية» أن القراءة المتأنية والواعية لمسار فرحات عباس النضالي تضعنا أمام رجل ذي أفكار أسست حقا لفكر سياسي جزائري ظلّ مغمورا بدوره بعد أن وقع ضحية «تصور حربي» للمجتمع والتاريخ يبعد الفكر وكل ما له علاقة بالثقافة.
ولد فرحات عباس يوم 24 أوت 1899 بالطاهير ولاية جيجل، كان والده سعيد بن أحمد عباس يشغل وظيفة قايد مكنته من توفير حياة لا بأس بها لعائلته، وبالرغم من هذه الوظيفة الإدارية الراقية يقول عباس في كتاباته أنه نشأ وسط العوز والفقر والحرمان: «نعمة أنني من سلالة فلاحية، ولئن كان أبي وإخوتي موظفين فقد وقع ذلك عرضا في حياتهم».
كان متعاطفا مع الفلاحين ويضيف: «لقد ترعرعت وسط أولئك الفلاحين الذين لا ينال الفقر من شجاعتهم ولا من أنفتهم. نشأت في دوار من بلدية مختلطة متوحشة جرداء، وقضيت طفولتي كلها وأنا في نعومة أظافري وسط مجتمع وضيع وساذج وكريم، فتعذرت علي مفارقته فتضامني مع أولئك الفلاحين ليس عاطفيا فحسب بل هو حيوي يجري في دمي وعروقي». حسب ما ورد في كتاب عبد القادر.
غرقت عائلة عباس في أحلك أيامها فقد الجد كل أراضيه على إثر استكمال تطبيق قانون المشيخة سنة 1874، الذي صادر أراضي القبائل التي شاركت في تمرد القبائل الصغرى بقيادة الشيخين المقراني والحداد.
ويبرز المؤلف أن فرحات عباس كان يتحدث عن هذا الوسط العائلي الذي شكلت فيه الجدة حجر الأساس بكثير من الإعتزاز والفخر، بفضل حكايات جدته التي ذكرها في وصيته السياسية قائلا: «هناك في دوار بعيد وفي كوخ من الخشب والديس تغفو جدتي بالقرب من كانون مشتعل، في يدها مسبحة ومائة سنة من الذكريات والعمل الشاق والبؤس كانت تثقل كاهلها المتعب».
ويذكر بالأوضاع المزرية السائدة أنذاك ويستعيد مأساة الناس البسطاء الذين كتب عنهم في وصيته السياسية الشهيرة التي كتبها حينما كان سجينا في سركاجي سنة 1946 مظهرا إرتباطه الكبير بفئة الفلاحين فراح ينادي بتحريرهم.
ويقول: «هؤلاء الناس أحبهم ويبادلونني الحب.. ومنذ وطأت أقدامي عالم السياسة لأول مرة فرضت فكرة ترقية هؤلاء الفلاحين نفسها عليّ، فهي الهدف الأسمى لكل سياسة محترمة.. حلمي الوحيد كان أن أرى الفلاح ينام في سريره بعد أن يأكل جيدا ويقرأ جريدته».
كانت حكايات الجدة التي تستحضر فيها ذكرياتها الماضية بمثابة مكتبة حقيقية للإطلاع على حقيقة الغزو التي لم تبرح مخيلة الطفل فرحات الذي عرف كل شيئ وهو دون العاشرة عن الغزو ومصادرة الأراضي والإبادة والخضوع والبؤس.. وكل الأمور التي رافقت «الرومي» الذي ظل أجنبيا وغازيا في نظر الوالد المتمسك بالتقاليد الإسلامية من جهة، وبوظيفة قايد مدعمة بوسام الشرف الفرنسي من جهة أخرى.
غادر مسقط رأسه عندما بلغ سن العاشرة سنة 1909 وتوجّّّه للدراسة بالطاهير في المدرسة الفرنسية الأهلية، بعدها إنتقل للدراسة في مدينة جيجل فيها إكتشف الثقافة كان يقرأ الكثير من الكتب التي قدمت له فرنسا كنموذج للحرية ومثالا لحقوق الإنسان، ففي المدرسة كان ينسى جروح الشارع وبؤس الحياة في القرى فيغوص في عوالم الثوريين الفرنسيين، وكان يردد: «كنا نتعلّّّم كيفية التفكير والفعل».
وفي المدينة كان يقرأ عن «المهمة الحضارية» لفرنسا في المستعمرات في دليل «لافيس» المقرر آنذاك كتب فيه مثلا: «تريد فرنسا أن يصبح الأطفال العرب أكثر علما من الأطفال الفرنسيين». وهذا ما كان يجعل الطفل يعتقد أن فرنسا لديها نية حسنة وأنها سخية تجاه الشعوب التي خضعت لها.
انتقل عباس للدراسة في مدرسة «فيليب فيل بسكيكدة» فإلتقى هناك بأطفال القياد الحالمين مثله بوظائف إدارية يحققون بها أحلامهم في الرقي الاجتماعي الذي يزيل عنهم الشقاء والبؤس. وفي سنة 1914 انتقل للدراسة في ثانوية قسنطينة وراح يقرأ لكبار المفكرين والأدباء الفرنسيين الكلاسيكيين ولفلاسفة كبار مثل ديديرو وشاتوبريان وأناتول فرانس، كان مهوسا بأفكار العدالة، الحرية والمساواة.
ويظهر هذا الميل في ما كتبه سنة 1946، في الشاب الجزائري: «إن الجزائري يؤمن بفرنسا تلك التي تأثرت بأفكار فلاسفة القرن 18، فرنسا مبادئ ثورة 1789 فرنسا الفرنسيين الذين وقفوا إلى جانب الأهالي والتي لا يفكر المثقفون المسلمون أبدا في ضربها بالخنجر».
بعد نجاحه في شهادة البكالوريا جند الشاب عباس سنة 1921، لتأدية الخدمة العسكرية. وفي سنة 1923 عاد إلى الحياة المهنية فانتقل إلى العاصمة لدراسة الصيدلة وفي الجامعة كان يتردد أكثر على كلية الأداب لحضور دروس الأستاذ غوتييه، وبعد ثماني سنوات من الدراسة بكلية الصيدلة تحصل على الشهادة الجامعية سنة 1931.
بدأ فرحات عباس نضاله السياسي في صفوف فيديرالية المنتخبين سنة 1927 وانتهى بالانضمام إلى الثورة سنة 1955. ومع مطلع الثلاثينات أقدم تحت اسم مستعار هو «كمال بن سراج» على نشر مجموعة من المقالات المطالبة بالإندماج مع الإحتفاظ بمقومات الشخصية الوطنية.
نادى بالمساواة بين الأهالي والأوروبيين
كان فرحات عباس يسعى للحصول على إعتراف الإدارة الإستعمارية بالأهالي كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع المعمرين الذين ظلوا يرفضون مثل هذه الطروحات الثورية في سياقها التاريخي أنذاك. كان اندماج فرحات عباس يختلف عن اندماج كثير من النخب المثقفة.
تمكّن عباس بفضل مقالاته المنشورة في جريدة «الإقدام» أن يصبح مناضلا ذائع الصيت وسط الشبان الجزائريين المتأثرين بالمد الوطني الذي روج له الأمير خالد، ولما إلتحق بالجامعة في العشرينات أصبح عضوا في جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا وترأسها من سنة 1927 إلى غاية 1931، وفي نفس الوقت انخرط في فيديرالية المنتخبين التي أسسها الدكتور بن جلول سنة 1927.
تميز نضال عباس في الفيديرالية بسعيه الحثيث للحصول على المساواة في التمثيل البرلماني بين المعمرين والأهالي، وكان يسعى لمواجهة الإيديولوجية الكولونيالية العنصرية التي كانت ترفض منح أي حقوق سياسية للأهالي فإعتمد في نضاله على النهج الجمهوري الذي جعل منه شخصية سياسية معتدلة.
كان عباس ينادي بإحداث إصلاحات داخل المنظومة الفكرية الكولونيالية وتطور فكره السياسي، إلى أن وصل إلى مرحلة الثورة عبر القوانين وهو ما دفعه إلى مساندة مشروع بلوم فيوليت الذي جاء سنة 1936 لمنح الحقوق السياسية للأهالي.
أنشأ عباس حزبا جديدا هو الوحدة الشعبية الجزائرية فأنفصل عن طروحات الدكتور بن جلول الذي ظل وفيا لطرحه النخبوي، وأصبح فرحات راديكالي واقترب أكثر من مصالي ليؤسس رفقته «حركة أحباب البيان والحرية» يوم 14 مارس 1945 ويطالب بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.
غداة أحداث 8 ماي 1945 سُجن فرحات عباس بتهمة تدبير أحداث شغب، وفي سجن برباروس كتب وصيته السياسية الشهيرة التي قال فيها أن السياسة مسألة شرف، وعلى من يمارس السياسة أن يعرف كيف يتمسك بإلتزاماته».
وبعد خروجه من السجن أسس «حركة الإتحاد الديمقراطي للبيان» ودافع عن أفكار أحباب البيان، فظهر كمثقف إنساني طالب بوضع قانون جديد للجزائر وإنهاء قانون الأنديجانة العبودي.
بفضل الإتحاد الديمقراطي للبيان خاض عباس تجربة برلمانية في المجلس الوطني الفرنسي، لكنه في كل مرة يشعر بخيبة الأمل بسبب تعنت الإدارة الإستعمارية وعدم قدرتها على التخلص من هيمنة الكولون. هذه الإخفاقات المتتالية دفعته إلى الإقتراب أكثر من طروحات مصالي وفي نهاية الخمسينات صرح قائلا: «إن الجزائريين سئموا من السياسة الفرنسية العنصرية».
وحين اندلعت الثورة في نوفمبر 1954 كان فرحات عباس في أقصى مراحل خيبته، لقد فقد الأمل في إمكانية نجاح الثورة عبر الإصلاح البرلماني، فلم يتردّد في الإلتحاق بالثورة سنة 1955 بعد أن إتصل به عبان رمضان وأوعمران.
وفي 19 سبتمبر 1958، عُين فرحات عباس في منصب أول رئيس للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وعزل من منصبه سنة 1961 وحل محله بن يوسف بن خدة، وبعد الإستقلال قدّم استقالته من الجمعية التأسيسية في أوت 1963.