«كان رجلا عادلا، طيبا، إنسانيا، يحب ويحترم إخوانه في السلاح وأب حنون شاهدته مرات عديدة ينزع ألبسة أو أحذية ليسلمها إلى جنود كانوا محرومين منها.غير أنه لم يكن يتسامح عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الثورة فالذين يدّعون بأنه كان دمويا سامحهم الله، فذلك محض افتراء»، هذا ما أكده المجاهد حسين بن معلم في شهادته حول الشهيد العقيد عميروش.
عميروش ضحى بحياته من أجل الوطن بنضاله داخل الحركة الوطنية، ثم إلتحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني، واحد من أبناء الشعب يتيم فقد أباه قبل ولادته وتردد مدة قصيرة جدا على مقاعد الدراسة، إذ كان عليه أن يتحمل في سن مبكرة واجباته العائلية، إعترف له بخصال عظيمة بإعتباره قائدا ثوريا سواء تعلق الأمر بشجاعته أو بحسه التنظيمي في الجبال إبان الكفاح ضد الإستعمار.
يقول بن معلم: «جاورت عميروش طيلة سنة تقريبا، فقد تمكنت من التعرف عليه عن قرب، المؤكد أن الرجل كان يعرف بالتشدد والقسوة لكنه تجاه نفسه أولا، كان يبذل جهده دوما لتذليل الصعوبات التي تبرز في مساره أثناء أداء مهمته».
ويضيف:» أثناء مقامه بالأوراس تصرف عميروش كعادته كقائد مؤهل بحق لتحمل المسؤولية، كان أيضا خطيبا بليغا يحسن أساليب الإقناع، لقد بذل جهودا جسدية ومعنوية مضنية، رأيته ذات يوم وقد أصابته نوبة تعب لمدة زمنية بسبب الإرهاق».
ويشير إلى أن تلك المهمة الحساسة الصعبة التي تولاها بجدية استلزمت منه قدرة على فرض الطاعة، وكذا حضور البداهة والبراعة والشجاعة أيضا التي قد تتعلق بها حياته وحياة رفاقه.
ويذكر بن معلم حادثة وقعت في يوم من الأيام، إذ لاحظ مهدي عبد الحميد حارس عميروش الشخصي بأن مسدسه الرشاش من نوع طومسون كان قد هيئ للرمي دون علم منه، حيث كان يسير دوما خلف عميروش فقد كان يكفيه أن يضع أصبعه على الزناد سهوا حتى يرسل هذا الأخير رشا بالرصاص قد يذهب قائده ضحية له، و لحسن الحظ تفطن للمناورة فأبطل مفعولها في الوقت المناسب.
سلوك مثالي
ويقول المجاهد أن عميروش لم يكن أيضا بالرجل الذي تثنيه الصعوبات عن القيام بالواجب لقد عرف كيف يكسب ثقة جميع مسؤولي الأوراس، الذين أدوا من جهتهم دورا أساسيا في نجاح المهمة، فالبرغم من التمزق الذي شهدته المنطقة فقد ظل هؤلاء في معظمهم أوفياء للشرعية، وطنيين بحق.
كما يشير إلى أنه على العكس مما قيل أو كتب عن جهل أو عن سوء نية لم تحصل في أية لحظة من اللحظات كراهية أو خلاف بين عميروش، ومسؤولي الأوراس الذين رافقوه وساعدوه طيلة المهمة التي كلف بها.
ويقول: «لم اسمع أبدا أي مسؤول مهما كانت رتبته يبدي ملاحظة محرجة أو يرفع صوته بحضرة عميروش، كان هذا الأخير من جهته سلوكه مثالي مع مضيفيه. لقد جرى كل شيء في جو من الأخوة والإحترام المتبادل، كان الجميع مقتنعا بصدقه وبتفانيه للثورة، وكذا بعمق احترامه لتلك المنطقة».
ويؤكد بن معلم أن عميروش، كان يعتبر نفسه في خدمة الثورة في كافة مناطق الوطن التي يضعها على قدم المساواة، مستشهدا بما قاله له أحد مسؤولي الأوراس واصفا الرجل، بأن: «سي عميروش أوراسي أكثر من الأوراسيين أنفسهم».
في هذا الصدد، أورد شهادة مسؤولي الولاية الأولى المؤرخة يوم 6 جانفي1957 جاء فيها: «من واجبنا أن نأتي للتنويه بالعمل المنجز من قبل الملازم عميروش في كنف صعوبات جمة مجتنبا العوائق مفككا الدسائس، واضعا نصب عينيه هدفا واحدا: إعادة تنظيم المناطق وفق الخط المحدد من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ والمجلس الوطني للثورة الجزائرية».
ويضيف: «لقد عرف كيف ينتزع إعجاب الجميع بفضل شجاعته الهادئة ونصاعة رؤياه، نحن مقتنعون بحق بأن الأخ عميروش كان سيسوي كافة الصعوبات التي لا تزال موجودة. كان سيكمل مهمته بالتوجه إلى النمامشة وإلى تونس مثلما كان مبرمجا، لكن من المؤسف بأن صعوبات خارجة عن إرادته قد أجبرته على أن يعود أدراجه خاصة إختطاف بن بلة ورفاقه، والإعلان في الإذاعة الفرنسية عن وفاة العقيد ناصر في ظروف غريبة، الحمد لله أن تبين بعد ذلك بأن هذا الخبر الأخير كان كاذبا».
ويقول أيضا: «تعتبر هذه الرسالة تعبيرا عن إعترافنا بجميل الأخ عميروش وشهادة من المناطق أ.ب شهادة على الإخلاص الذي أبداه ممثلكم، الذي برهن على معرفة للوقائع والأشياء زادته تشريفا وتقديرا».
ويؤكد سكرتير عميروش أنه أثناء جولته التفقدية بالأوراس اكتشف بعض الآفات الملحوظة في غيابه خاصة المحسوبية وضع حدا لهذا ببراعة وحزم، مبطلا بعض القرارات المتعلقة خاصة بالترقية في الرتب والوظائف.
بحسب شهادته، فإن عميروش كان يعيش مثلما يعيش الآخرين ولا يرضى بالإمتياز، كان دائم الحركة ذهابا وإيابا يوميا راجلا ، كان يجتاز مسافات تمتد لعدة كيلومترات.
لم يكن عميروش يقضي في نفس المكان أزيد من يوم واحد، لم تنحصر مهمته في مشاكل الولاية الأولى، لقد تكفل أيضا بتشكيل مجموعات الإمداد بالأسلحة وإرسالها إلى الولاية الثالثة، قام أيضا بزيارات إلى وحدات جيش التحرير الوطني المستقرة في الحدود.
ويؤكد بن معلم أن الشهيد اهتم أثناء مقامه في تونس بوضعية الطلاب الجزائريين المحرومين من الإمكانيات المالية، والذين يصارعون البؤس مقطوعين عن عائلاتهم بفعل الحرب، كانوا متروكين لحالهم، اقتنى لهم ملابس جاهزة من تاجر جزائري، و فتح لهم في وقت لاحق مركزا للإيواء والمأكل.
كان عميروش سخيا في الاستضافة، وكان يبذل نشاطا حثيثا. أغضب بن عودة قائد قاعدة تونس ووجه إليه رسالة يطلب منه أن لا يتدخل في صلاحياته، فرد عميروش بهذه العبارات :»الناس يأتون إلي لكي أساعدهم على حل مشاكلهم التي هي مشاكل الثورة، أنا سأواصل حل تلك المشاكل، عليكم أن تسعوا لحلها حتى لا يأتوا إلي «.
ويذكر بن معلم كيف كان عميروش يعامل الجندي «نوال فافروليير» الذي فرّ من قوات العدو وإلتحق بصفوف جيش التحرير الوطني، حيث وفر له ألبسة وأدوات لممارسة هواية الرسم، خصص له غرفة في الطابق الأول من الفيلا في «سانت أنري»، ظل فافروليير هناك إلى غاية اليوم الذي صار في متناوله الإلتحاق بأخته المتزوجة في الولايات المتحدة.
عندها عمل في بعثة جبهة التحرير الوطني بنيويورك واستفاد فيما بعد من منحة دراسية من قبل إتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين ليواصل دراسته في يوغسلافيا، واصل دراساته في الفنون الجميلة وعاد إلى الجزائر بعد الإستقلال.
ويروي المجاهد بن معلم أنه بعد معركة الجزائر العصيبة أخبره عميروش بأنه يتعين عليهم التوجه في مهمة إلى المغرب بطلب منه، فسلمه صورا له من أجل تحضير جوازات سفر تونسية، حيث تفاجأ المتحدث بشطب الجوازين وقال له: «أعد الجوازين إلى أوعمران قل له لن أذهب إلى المغرب بعد أسبوع سأكون في الجزائر».
ويضيف:» عجبت من رفض عميروش تنفيذ مهمة حددتها الهيئة العليا للثورة، وكان من عادته أنه شديد الإنضباط لم أشك وقتها بأنه كان يضمر أسبابا جادة كانت تدفع به إلى مثل ذلك التصرف، غير أن عميروش قد سكت وكنت من جهتي مصرا على عدم طرحه الأسئلة، أصر على الإكتفاء بالقول ببساطة فيما يخصك ستتوجه إلى الشرق الأوسط لمتابعة الدراسة».
ويقول أيضا:» احتججت مصرا على العودة معه إلى الجبل، مبررا ذلك مرة أخرى بدعوة الطلاب إلى الإضراب لم ينفع ذلك في شيء :»هذا مهم وهذا أمر» تلك هي الكلمات التي تفوّه بها، اتبعت الأمر ونفذته».
ويشير بن معلم إلى أن عميروش رافقه، مساء يوم 8 جوان 1957 إلى المكان الذي كان عليه قضاء ليلة لكي يغادر باكرا في صباح يوم الغد إلى طرابلس، قائلا: «كان الفراق مشحونا بالتوتر، لقد قضينا معا قرابة سنة من غير أن نفترق وقطعنا معا جنبا إلى جنب آلاف الكيلومترات تقاسمنا محنا كثيرة تفارقنا بالدموع لن ألتقي به بعد ذلك أبدا».
بعد أسبوع من ذلك يوم 17 جوان وتنفيذا حرفيا لقراره غادر عميروش بدوره تونس متجها إلى الجزائر. ويؤكد: «لم أر عميروش بعد ذلك أبدا ولا بلغني شيء عن أخباره إلى أن جاء اليوم الذي علمت فيه بأنه سقط شهيدا في ميدان الشرف، يوم 29 مارس 1959 في جبل ثامر بالقرب من بوسعادة بمعية سي الحواس قائد الولاية السادسة، ربطت بينهما صداقة كبيرة منذ لقائهما في موقة نهاية 1956 «.
ويضيف:» شكل لي ذلك صدمة كبيرة واعتبرته خسارة كبيرة لوطننا، كنت أعتقد بأنني سأعود لمواصلة الكفاح معه، بعد أن أكملت دراستي غير أن القدر قرر غير ذلك».
كان الصديق الكبير للمتعلمين
يروي بن معلم أنه بتاريخ 6 مارس 1959، مضى عميروش في الطريق واصطحب معه سي حواس قائد الولاية السادسة، خرجا من بلاد القبائل ومرا نحو الجنوب بين الجلفة وبوسعادة قبل الالتحاق بالحدود التونسية، لكن لسوء حظهما أن مضماره قد تم تبليغه إلى القائد الفرنسي من قبل أحد أعوان الاتصال بالراديو.
ويشيد بشجاعة عميروش الذي واجه بكل فخر كبار الجنرالات الفرنسيين المتخرجين من كبريات الكليات العسكرية، سقط في ميدان الشرف شهيدا والسلاح بين يديه في معركة غير متكافئة جند لها الجيش الفرنسي أزيد من 2500 جندي، وكذا طيرانه ضد أربعين جنديا.
وينفي بن معلم ما نسب ظلما للشهيد عميروش بأنه عدو للمثقفين بالقول:» بعض المغرضين نسبوا إليه ظلما كونه «دموي» و»عدو» المتعلمين، عندما يوصف عميروش بالدموي فإن الواصفين يحيلون فورا إلى الإعدامات التي وقعت أثناء «مكيدة الزرق» أو «التصفية» مثلما كان يقال وقتها».
ويوضح المرحوم بن معلم أن التشكيك الأزرق أو لابلويت مؤامرة ضخمة دبرت من قبل المصالح الخاصة الفرنسية، كان صانعها الرئيسي النقيب ليجي رئيس مجموعة الإستعلام والإستغلال كان تابعا للعقيد غودار قائد قطاع الجزائر الساحل، تلقب الإثنان في دروب مكائد الإستخبار، وقد سبق لهم أن مارسوها في الهند الصينية، وكذا في صفوف المقاومة بالنسبة للعقيد، اقتبست عبارة الزرق من لون اللباس الأزرق الذي جهز به ليجي رجاله. وحسب شهادته فإن عميروش أطلع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على الوضعية.
مدارس في القرى والشباب للتعلم في الخارج
ويقول: «بهتان لا أساس له من الصحة تمثل في تقديم صورة لعميروش يكون فيها عدوا للمثقفين، عكس ذلك هو الصحيح، لقد كان الصديق الكبير للأشخاص المتعلمين، وكان يحترمهم ويحث الناس على التعلم».
ويضيف:» عند تسلم عميروش قيادة الولاية أثناء مرحلة إعادة التنظيم عين في مناصب المسؤولية كافة المحاربين المتعلمين، مع العلم أن ذلك أثار غيرة لدى بعض الإطارات الأكثر أقدمية لكن غير متعلمة، لقد أنشأ في عز الحرب مدارس في القرى وبعث بالعديد من الشباب للتعلم في الخارج».
ويؤكد: «أثناء مقامنا بتونس إهتم بالطلبة كانت يومياتهم مأساوية فأسكنهم وأطعمهم وألبسهم، كان محاطا هناك بمثقفين يأتون للإلتحاق بالثورة، شجعهم وساعدهم ماديا».
ويضيف:» في الأوراس قام بتعيين حيحي مكي أحد المدرسين الذي إلتحق حديثا بصفوف جيش التحرير الوطني كعضو في قيادة المنطقة مقدما إياه على بعض النوفمبريين، تكوين الإطارات وتحضيرها للجزائر المستقلة كان من بين إنشغالاته الأساسية.