لأنّهم رأوا كل شيء، الاجتياح والقتل العمد، والمداهمات والاعتقالات والضرب والتنكيل والدم المقذوف مع الشهقات في تلك الليالي الفولاذية، ولأنّهم خرجوا عن المألوف في الدفاع عن زهرة عباد الشمس في الروح والجسد والأرض، وأشرقوا يضيئون الدرب وعيا وتضحية ورجولة، وانتصروا على الصمت والجوع والقذيفة.
لأنّ في عيونهم أملا وبلدا ومستقبلا، كان لا بد أن تطفأ هذه العيون، وأن تقلع من الواقع حتى لا تظل صور القتلة واضحة تلاحقها الضحايا والنظرات الجريحة.
كتب لي محمد براش من سجن “أيشل” الصهيوني لا تقل لأمي بأني صرت أعمى، هي تراني وأنا لا أراها، ابتسم وأتحايل عليها على شبك الزيارة عندما تريد أن تريني صور إخوتي وأصدقائي وجيران الحارة، فهي لا تعرف أني أصبحت كفيفا بعد أن دبّ المرض في عينيّ حتى غزت العتمة كل جسدي.
لا تقل لها بأنّي أنتظر عملية جراحية لزراعة القرنية منذ سنوات، ولكن إدارة السجن تماطل ثم تماطل، وتستدعي الى عيني كل أسباب الرحيل عن النهار.
لا تقل لها بأن شظايا الرصاص والقذائف التي أصبت بها لا زالت تطرز جسدي، وأن قدمي اليسرى قد بترت واستبدلت بقدم بلاستيكية، أما اليمنى فقد تعفّنت وجفت من الماء والحياة.
لا تقل لأمّي عن تحرر إحساس الأسير من عناصر التكوين الأولى، محكوما برؤيا الحديد والرماد، فلا أبيض يشع، ولا فرسا تسرج الصمت أملا يطيل الرجاء.
قل لها: بأنّي حيّ وسليم، أرى وأمشي وأركض وألعب وأقفز وأكتب وأقرأ، حاملا وجعي على عكازتي، وأرى شقيقي الشهيد قمرا يفرش السماء ويناديني بقوة البرق والرعد والسحاب.
لا تقل لها بأنّي لا أعرف النوم، أعيش على المسكنات حتى تخدر جسمي، أتحسّس حاجياتي فأرتطم بالبرش الحديدي، وبزميل ينام قربي، فينهض ليساعدني في الوصول الى الحمام، اليقظة تؤلمي والنوم لا يأتيني.
لا تقل لأمّي بأن بارودا دخل الى مقلتي في ذلك اليوم الدامي في شوارع المخيم، قنصوني حتى طارت قدمي وسال الدم من بصري، وقبل أن أفقد الوعي رأيت طفلا يجري نحوي حاملا علما وهو يصيح: شهيد شهيد.
قل لها: إن كان حلمي لا يكفي، لك حنين بطولي لا يغادرني، ولي منك لغتي وحليبي ورموزي على الجدران اكشط بها وجعي كلما غاب الضوء من حولي.
قل لها بأنّي اتبع دعاءك الرمضاني الى غيمة في يدي لأصل معيدي بعد أن ضاق بي جسدي، وربما أعود او لا أعود، ولكني تركت الباب مفتوحا، واخترت الوقوف قرب قلبك كأني اخترت غدي.
لا تقل لأمّي أنّ سلطة الصهاينة في القرن الواحد والعشرين حولت السجون الى أماكن لزرع الأمراض، وإذابة الأجساد رويدا رويدا، حتى صارت السجون حقول تجارب على الأحياء الذين سيموتون بعد قليل.
لا تقل لها بأنّي أصبحت أحفظ كل أسماء العلل العجيبة والأدوية الغريبة وأنواع المسكنات أبلعها، وأنا أرى صديقي زكريا عيسى يدخل في غيبوبة طويلة في اللازمان قبلي.
لا تقل لأمّي عن الأسرى المرضى الذين فاض الداء في أجسامهم جنونا وحربا: أحمد أبو الرُب، وخالد الشاويش، أحمد النجار، منصور موقدة، أكرم منصور، احمد سمارة، وفاء البس، ريما ضراغمة، طارق عاصي، معتصم رداد، رياض العمور، ياسر نزال، أشرف أبو ذريع، جهاد أبو هنية، يذبحهم السجن والمرض واستهتار دولة تجيد تصدير الموت والجنازات للآخرين.
قل لها: لا زلت على بعد ثلاثين بابا من البيت، أدنو منه كلما طار طائر واشتعلت النار في عيني ولسعتني الأسلاك بين أضلاعك والصلوات الخمس.