مـليون إنــسان مرّوا أمامي

بقلم: د. أحمد لطفي شاهين

أحترفُ الحزن والانتظارْ
أرتقبُ الآتي ولا يأتي
تبدّدتْ زنابق الوقت
(سبعين) عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظارْ
عبرتُ من بوّابة الدموعْ
إلى صقيع الشمس والبرد
لا أهلَ لي في خيمتي وحدي
(سبعين) عاماً وأنا يسكنني الحنين والرجوعْ
كبرتُ في الخارج
بنيتُ أهلاً آخرينْ
كالشجر استنبتُّهم
فنبتوا أمامي
صار لهم ظلّ على الأرضِ
ومن جديد ضرَبَتنا موجة البُغضِ
وها أنا أستوطن الفراغْ
شُرّدتُ عن أهلِيَ مرتينْ
سكنتُ في الغيابِ مرتينْ
أرضي ببالي ..
وأنا أحترفُ الحزنَ والانتظارْ

هكذا غنت السيدة فيروز واصفة حال الشعب الفلسطيني في السبعينات الذي كان وقتها مضى على نكبته الاولى سنة 1948 أكثر من عشرين سنة حيث تكررت النكبات وموجات النزوح والهجرة والتشريد وهدم وتجريف المساجد والبيوت والمدارس والأراضي الزراعية، ولا يزال التاريخ يعيد نفسه مع شعبنا المنكوب بعد أكثر من سبعين عاما فكل عدّة سنوات يتم قتلنا وقصفنا بسبب أودون سبب ..
وتشير الإحصائيات أنه تم اعتقال أكثر من مليون إنسان في اكبر عملية اعتقال عبر التاريخ خلال سنوات الاحتلال.. وتم تهجير الفلسطينيين عشرات المرات بداية من عام النكبة 1948 ثم العدوان الثلاثي 1952 ثم نكسة حزيران 1967 ثم تهجير قسري إلى الأردن بعد سنوات النكسة وقتما غنت فيروز تلك الأغنية الحزينة .. وفشل من مشروع (جونسون) للتهجير وكان كل تهجير يترافق مع قتل وهدم وتخريب وقصف ..
واستمرت الاعتقالات والاغتيالات والمؤامرات الاستيطانية لسرقة ارض فلسطين وثرواتها وتهويد القدس وهدم المعالم الأثرية الإسلامية والمسيحية ومنع السكان الفلسطينيين من تعمير بيوتهم وزراعة أرضهم وصولا إلى تهجيرهم عن طريق هذا التضييق المستمر والمتواصل وبدأت انتفاضة 1987 نتيجة كل ماسبق وقادها اطفال الحجارة ...
وتعرضنا ونحن اطفال للقنص والاعتقال وسياسة تكسير العظام وسياسة الترهيب بالكلاب وهذا الجيل نفسه تخرج من المدارس من عام 1990 الى عام 1994 تاريخ عودة السلطة وما بعدها من سنوات وكل الأجيال الذين كانوا قبل من قادة العمل الوطني الفلسطيني الشريف أصبحوا ضباط في السلطة الفلسطينية وفي عام 2000 بدأت انتفاضة الأقصى وأصدر الرئيس الشهيد ياسر عرفات أوامر صريحة لضباط وعناصر السلطة بالاشتباك المباشر مع قوات الاحتلال على كل محاور الاشتباك وقتها واستشهد أكثر من 500 من أبناء السلطة الفلسطينية لتشتعل هذه الانتفاضة الثانية بشكل دراماتيكي.
 ثم اغتيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات وأصبح الاحتلال لايريد أي وجود لأي انسان فلسطيني في أي مكان في فلسطين المحتلة وبدأ التضييق على السلطة الفلسطينية من وقتها إلى الآن لتدمير نواة الدولة الفلسطينية واستمرت سلطات الاحتلال الصهيوني في تقطيع أوصال الضفة الغربية بشق الطرق الاستيطانية على مساحات كبيرة وواسعة من أعلى واجمل أراضي الضفة الغربية والقدس وبناء جدار فصل عنصري ومن خلاله تم ضم مئات الآلاف من الدونمات من أراضي الضفة الغربية وصولا إلى احباط إمكانية إقامة حتى دويلة فلسطينية على الأرض المحتلة سنة 1967.
 وللأسف يهاجر الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني إلى خارج فلسطين هربا من مخاطر الاعتقال والقتل والتضييق اليومي على مئات الحواجز بين المدن خصوصا في الضفة الغربية والتي ينتظر فيها السكان كل يوم ساعات وساعات حتى يمروا من مدينة إلى مدينة ولا يهتم جنود الاحتلال لوقت الفلسطيني ومعاناته ..
ولكنه شعب يحترف الحزن والانتظار ويتحدى المحتل في كل وقت ومكان. وعندما بدأت الحرب الأخيرة على قطاع غزة اكتوبر2023 بدأ الاحتلال الصهيوني تنفيذ مخطط قديم لإفراغ قطاع غزة من سكانه وتدمير قطاع غزة حتى لا يصلح للحياة وصولا إلى التهجير القسري الجماعي إلى أي مكان في العالم..
لكن كل ما سبق لن ينجح لأن مليون إنسان مروا من أمامي مشيا على الاقدام عائدين إلى شمال قطاع غزة بعد نزوح قسري إلى الجنوب أثر التهجير الاجباري نتيجة القصف والمجازر في غزة وشمالها.
مليون إنسان مروا أمامي من على شارع البحر... عائدين بقوة منهم عشرات الشباب المبتورة أطرافهم ( نتيجة الحرب ) على عكازات وكراسي متحركة .. والأطفال الحفاة الأيتام الذين استشهد معيلهم في الجنوب ويعودون إلى الشمال لأرضهم وأقاربهم ليتربوا في حضن العائلة الكبيرة.
مليون إنسان مروا أمامي خلال يومين على مدار الساعة منهم العجوز وزوجته العجوزة ومعهم اطفال صغار والذين استشهد كل ابنائهم وزوجاتهم ومعظم احفادهم ولم يتبق منهم إلا هؤلاء الأطفال وبقايا بيت في غزة حيث يريدون تربية الاحفاد في بيت الأجداد..
مليون إنسان مروا أمامي منهم الاعمى الذي فقد بصره نتيجة انفجار صاروخ وزنه طن سقط في بيته واخرجوه من تحت الركام حيا لكنه فقد أسرته كلها وفقد عينيه وربما لو لم يفقد عينيه من القصف لكانت ( ابيضت عيناه من الحزن) فالنتيجة واحدة والسبب هو قصف العدو ..
مليون إنسان مروا أمامي كثير منهم من يحمل والده أو والدته على كرسي متحرك أو على كتفيه ليقطع مسافة 12 كيلومترا على الأقل ماشيا وصولا إلى ركام أو اطلال بيتهم المقصوف في جباليا أو بيت حانون أو بيت لاهيا أو مدينة غزة .. قمة البر بالوالدة أو الوالد الذي يريد أن يموت هناك ليدفن بجوار منزله وقمة الوفاء للأرض التي عاش فيها كل ذكرياته.. مشهد لم أره إلا في مكة المكرمة ويتكرّر أمامي في فلسطين ارض الأنبياء والشهداء.
مليون إنسان مروا عائدين مع جيران جدد تصاحبوا معهم في خيام النزوح واصبحوا إخوة وأهل وانسباء وأصهار .. منهم ازواج جدد تزوجوا في خيمة في صمت دون فرح وقت الحرب لكنهم على يقين أن الفرح قادم وان الفرج من الله قادم فنحن شعب يؤمن بنفسه وقدراته ويثق في وعد الله جل جلاله ويؤمن بحتمية الانتصار في نهاية الزمان على كل قوى الكفر والظلم والعدوان في هذا العالم المزدوج المعايير الظالم الذي يغمض عينيه على إبادة شعب بأكمله وتدمير بلاد بأكملها ويفتح عينيه على قصص تافهة لامجال لأن اذكرها من باب الترفع عن الصغائر فأنا انتمي الى شعب راقي عريق يتحدى كل الظروف .. يحترف الحزن والصبر والانتظار.

ولابد أن ينتصر

مليون إنسان مروا أمامي مكثوا سنة ونصف في خيام وعاشوا أقسى الظروف ثم عادوا مشيا إلى غزة وشمالها إلى المجهول..
كثير منهم حفاة ومعظمهم ليس معه إلا ملابسه التي عليه وبعضهم ترك خيمته كما هي ليعود ماشيا بسرعة ليثبت للعالم كله بشكل عملي أن الفلسطيني لم يبع أرضه في أي يوم ولم ولن يتخلى عن أرضه ولا حتى عن ركام بيته لأنها ارض معجونة بدماء الشهداء عبر التاريخ وأصبحت الآن معجونة بالدماء والعظام بعد ان تحللت أجساد الشهداء وهياكلهم فوق الارض لأن الاحتلال لم يسمح لذويهم أن يدفنوهم بكرامة وكأنه انتقام من الفلسطينيين حتى وهم شهداء ..

 

رأيك في الموضوع

« فيفري 2025 »
الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد
          1 2
3 4 5 6 7 8 9
10 11 12 13 14 15 16
17 18 19 20 21 22 23
24 25 26 27 28    

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19706

العدد 19706

السبت 22 فيفري 2025
العدد 19705

العدد 19705

الخميس 20 فيفري 2025
العدد 19704

العدد 19704

الأربعاء 19 فيفري 2025
العدد 19703

العدد 19703

الثلاثاء 18 فيفري 2025