بادئ ذي بدء، أعود بالذاكرة ليوم الاثنين الموافق 10/09/1973، الحصة الثالثة من ذلك اليوم الأول في مهنة حياتي، التدريس لمبحث التربية وعلم النفس، خلفًا لأستاذي الفاضل محمد طه شاهين. في هذا اليوم المشهود، تسلّمت كتاب التعيين من قسم المستخدمين بمديرية التربية والتعليم زمن الاحتلال الصهيوني لقطاع غزّة وشمال سيناء حينئذ، في منطقة السرايا أبو خضرة بغزّة.
مدرس مبحث التربية وعلم النفس بدار المعلّمين بغزّة آنذاك
الدافع للكتابة لهذه الذكريات هو طلب ابن الشهيد إياد المحترم، الذي كان بصدد الكتابة عن والده، وأنّني أتشرّف أن أشارك بتلك الذكريات الحميدة للعلاقة الوطيدة مع والده الشهيد، والشهداء هم الأكرم منّا جميعًا عند الله.
ومن الأمور الطيبة التي تستحقّ الذكر، أنّ الطالب يتذكّر معلّمه الذي يتحلّى بالأخلاق الحميدة باعتباره قدوة حسنة له وللآخرين. ولكنّني هنا أقوم أنا بتلك المهمة نظرًا لما يمتاز به هذا الطالب اليافع النابغ المتفوّق، بالأخلاق الحميدة والذكاء الخارق وعبقريّته والطموح، ممّا جعله يتبوّأ أعلى الدرجات في سلّم العلم والمجد والوطنية، حتى أصبح وزيرًا للأوقاف والشؤون الدينية في فترة السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة المرحوم أبو عمار.
وكانت الدراسة بدار المعلّمين بعد المرحلة الثانوية بسنتين، القسم العلمي والقسم الأدبي؛ القسم العلمي تخصّص علوم ورياضيات، والأدبي اللّغة العربية والتربية الدينية والمواد الاجتماعية.
مدّة الدراسة عامين ليتأهّل الطالب لمهنة التدريس. المبنى كان يتكوّن من جناحين، الغربي والشمالي، ومختبر للعلوم وقاعة عامة للاجتماعات والتدريب لتخصّصات أخرى كالتربية الرياضية والفنية والموسيقية. الطالب الشهيد الشيخ يوسف سلامة كان يجلس في الفصل الثاني من الصفّ الثاني للمستوى الأدبي.
وبعد تقديمي كتاب التعيين لمدير دار المعلّمين الحاج زهدي أبو شعبان رحمه الله، كلّفني بإشغال ذلك الفصل الذي يتواجد فيه الشهيد. بعد دخول الفصل والتحية، اتجهت مباشرة إلى السبورة لاستغلالها بنجاح، وكتبت اسم المبحث والموضوع أسفل منه: “طرق وأساليب التدريس الحديثة”.
وكان مديرنا طيب السيرة العطرة، له نظرة ثاقبة في الإدارة، وأخذ يتفقّدني من فترة لأخرى للسيطرة على الموقف التعليمي، وكذلك السكرتير السيد فخري الخضري، لأنّ هذه الحصّة هي بمثابة اختبار لي.
ولقد اطمأنّ بنفسه، خاصّة أنّ بعض الطلبة أكبر منّي سنًا وحجمًا. كان يجلس الشهيد في البنك الأول (المقعد) بجوار زميل له، وكان يكثر السؤال باستمرار دون زملائه، وهذا هو مفتاح الفهم والذكاء، ممّا دفعني إلى توجيهه أن يعطي فرصة لزملائه بالمشاركة في الحصّة. لذا، أصبح هذا الطالب مطبوعًا في ذهني، لا أنساه دون غيره من طلبة دار المعلّمين.
ومن المواقف الدينية والكرامات عند الخالق، أنّني حينما أصبت كغيري في سنة 2020 بمرض كورونا القاتل، اتصل لأنّني في فترة الحجر ويُمنع زيارتي، فأخذ يدعو لي أكثر من عشر دقائق حتى أنّني مللت من كثرة الدعاء نظرًا لحالتي الصحّية، فاستجاب الله لدعائه لأنّه من القلب، وشفيت ببركة الصلاة على الرسول.
واستمرّت العلاقات الاجتماعية في كلّ المناسبات. حينما كان وزيرًا للأوقاف، كان يذكرني بكلمة “أستاذي” تكريمًا وعرفانًا بفضلي عليه كمعلّم. وكان شهيدنا يعمل الخير لوجه الله تعالى لكلّ محتاج، حيث حضر لي جماعة من عائلة شعت، الحاج فرحان شعت رحمه الله، لتسديد أجرة أرض الوقف في منطقة معن، والمبلغ عشرة آلاف دينار أردني، فاستجاب لي الشيخ وأصدر أمرًا باسترداد أمر الحبس وإيصال لتسديد المبلغ المذكور.