أحدث التدخل الروسي في سوريا توازنا استراتيجيا... لم تكن الولايات المتحدة وخلفاؤها يتخيلون أو بالأحرى يقدّرون نتائجه في فترة وجيزة من نشاط سلاح الجو الذي أنهك المعارضة المسلحة في العديد من مناطق البلاد بفعل الغارات المكثفة لتقليص أذى هؤلاء علما أن الطيران لم يحسم في يوم من الأيام معركة... والأمثلة كثيرة لاتعد ولاتحصى في النزاعات العسكرية.
ومنذ اللحظة الأولى نسجل بأن القيادة الروسية السياسية والعسكرية أدارت بامتياز هذا الملف الى درجة تغييب الطروحات المناوئة لها التي فشلت في ايجاد المبررات في كيفية النظر الى هذا الاشكال من الآن فصاعدا بعد أن تيقنت بأن المهمة في الميدان أصبحت صعبة ولابد من البديل السياسي وهذا ما نحن فيه الآن.
وفي هذا السياق، لابد من الاشارة الى أن هذا العمل كان قائما على توجهين: الأول سياسي والذي سعى من أجل شرح بالتفصيل الأهداف الكامنة وراء هذا التدخل، والثاني عسكري فسّر بشكل دقيق عمليات القصف وهذا التطابق في الأداء الجيد والمتحكم فيه مما أفرز تلك القدرة في استكمال المهمات القتالية دون أي احراج من أمريكا ومن تبعها في ذلك.
هذا المشهد السياسي ـ العسكري أكسب روسيا حضورا قويا على الصعيد الدولي وهذا عندما شدّد بوتين على أن مكافحة الارهاب حتمية لامفر منها وهذا باضعاف قدراته في الميدان، تلى ذلك تصريحات مسؤولين روس حول حماية الأمن القومي” لبلادهم أي إبعاد الارهاب الى أماكن لاتسمح له بالتفكير في إلحاق الضرر بآرضيهم وتدمير ترسانته الحربية بشكل نهائي.
وحاول القادة الروس منهم السياسيون والعسكريون إعطاء قراءة صحيحة لمسار تدخلهم في هذا النزاع المأساوي عندما أعلنوا بأن عدوهم رقم واحد هو “ داعش” وهذا ما أدخل نوعا من الارتياح لدى البعض خاصة فرنسا وألمانيا ويكون هذا الالتزام الروسي هو الذي قلّص من تداعيات التوتر بين الفرقاء وفضّل الجميع أن تكون المعركة القادمة سياسية أكثر منها عسكرية وهذا مانقف عليه اليوم وفي اجتماع فيينا.
وترك هؤلاء المبادرة في يد روسيا بخصوص كيفية رسم الخريطة الاقليمية، هل تكون بعناصرها الحالية أم باضافات جديدة؟ الغرب يرى بأنه لا يكمن السير في خيارات مستقبلية في المنطقة باشراك الرئيس السوري الحالي بشار الأسد.. روسيا تلتزم الصمت في الوقت الراهن لأنهالا تبقى طول الدهر وهي تغيرُ على المدن في هذا البلد أما السوريون فيقولون إن مصير رئيسهم يقرره أهل البلد. نحن الآن أمام هذه التجاذبات السياسية المعقدة وهذا بمحاولة دفع روسيا الى الحسم النهائي في المرحلة القادمة لذلك نلاحظ هذه المهادنة من قبل الولايات المتحدة وغيرها.
النزاع مفتوح على كل الاحتمالات المرنة والمتشددة مقترنة أساسا بالتطورات خلال الأيام القادمة، لأن الحسابات لا تبنى مع روسيا فقط وإنما هناك ايران وحزب الله، نظرتهما تختلف اختلافا جذريا عما هو موجود عند روسيا التي تفاوض لوحدها الغرب دون طرف آخر وهذا ما قد يزعج إيران وحزب الله، الطرفان الأساسيان في النزاع عملا على بلورة وضع أقلق الكثير ممن لهم ضلع مباشر في الحالة السورية وصرفا أموالا باهضة من أجل فرض أمر واقع في المنطقة، هذه الحالة المفروضة يرفضان أن تغير بجرة قلم وبين عشية وضحاها وهذا الاحتواء المخيف قد يؤدي الى مواقف متصلبة كونهما يبديان تمسكها بالأسد.. حتى ولو بالعودة الى ماقبل التدخل الروسي كي لا يسقط ذلك التحالف الاقليمي الذي يواجه البعض من الأطراف.. لمنع تمددها عبر بلدان أخرى وخاصة لبنان.. هذا هوالاشكال اليوم.
ومهما تكن النتيجة في الميدان، أي مايتعلق بالجانب العسكري، فإن ذلك يمهد للفعل السياسي، إن آجلا أو عاجلا، لأن نفقات هذه الحرب أنهكت قوى الجميع فلا يعقل مواصلة ذلك دون مردود مقابل.. قادر على استخلاف مايصرف .. لذلك فإن هناك نقاشا معمقا بين كل الأطراف المعنية بالمسألة من أجل إيجاد الحل اللائق والتسوية المطلوبة.. وتخشى ايران وحزب الله ان يتم ذلك على حسابهما.
ولا يسمح بمنح أو إعطاء الغلبة السياسية لأطراف إقليمية أخرى هي محل قلق من قبل ايران وحزب الله، منعتها من فرض رأيها في لبنان، فكيف لها أن تتركها تسقط النظام في سوريا!؟ هذه هي المعادلة المعقدة في المنطقة وقد تؤدي الى تشنجات غير متحكم فيها نظرا لحساسيتها.
هذه ليست بجزئيات منبثقة عن هذه الأزمة وإنما ظهر وأن التحالف الروسي، الروسي، الايراني وحزب الله يعاين من محاولة التصدّع والاضعاف لتمرير الفعل السياسي.
لذلك فإن التوازن الاستراتيجي الذي صنعته روسيا في الوقت الراهن أعاد الى الأذهان أن العلاقات الدولية أو بالأحرى بؤر التوتر والنزاعات لاتسير بالمنطق الأحادي الجانب الذي أهلك بلدانا بأكملها مثلما حدث في ليبيا.
هذا الغرب دمّر وطنا ثم انسحب الى قواعده ليتفرج اليوم على ما يجري من تناحر على السلطة، سببه هؤلاء الذين اعتقدوا بأن أكذوبة “الربيع العربي” ستكون بردا وسلاما على الشعوب... انظروا مايحدث اليوم.. من يتحمل مسؤولية ذلك؟ نقول هذا من باب تفادي تكرار ذلك في سوريا وقد تكون تصوّرات أخرى غير التي شوهدت هنا وهناك وبامكان روسيا أن تكون البلد القادر على إحداث التوازن المطلوب في المستقبل وادراك مغزى مقاربات مكافحة الارهاب والتغيير السلس.