لا بديـل عن بنـاء علاقات مبنيـة على الاحـترام المتبادل والمسؤولية المشتركة
ما زالت قضية التجارب النووية الفرنسية إبان الاستعمار في الصحراء الجزائرية تُثير جدلاً سياسيًا وقانونيًا، حيث تعكف الجزائر على إعادة هذا الملف إلى الواجهة من أجل تحقيق العدالة التاريخية، وتأتي هذه الجهود في سياق التطورات الأخيرة، حيث ترأّس رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، اجتماعًا تنسيقيًّا لتحضير الملتقى البرلماني حول التفجيرات النووية الفرنسية التي جرت إبان الاستعمار، والذي يعتبر خطوة هامة لتسليط الضوء على أبعاد هذه القضية من الناحية الإنسانية والبيئية والقانونية.
خلّفت التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في مناطق مثل رقان وإن إكر بالصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966، أضرارًا بيئية وصحية لا تزال آثارها مستمرّة حتى اليوم، وقد عانى سكان هذه المناطق من أمراض خطيرة، منها السرطانات والتشوهات الخلقية، إلى جانب التلوث الإشعاعي الذي أثّر على البيئة لعقود.
وفي ظل هذه الأوضاع، تسعى الجزائر إلى إدراج مطالبها ضمن الأطر التشريعية الوطنية، حيث أكّدت وزيرة البيئة، نجيبة جيلالي، أن تحميل فرنسا مسؤولية إزالة المخلفات الإشعاعية سيتم إدراجه بشكل صريح في القوانين البيئية لتعزيز حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية، كما أكّدت الوزيرة على أن هذه المطالب تشمل الاعتراف بالضرر وتعويض الضحايا، بالإضافة إلى إزالة المخلفات الإشعاعية التي لا تزال تشكّل خطرًا على السكان والبيئة.
الأبعـاد السّياسيـة والقانونيـــة
من الناحية القانونية، تعتمد الجزائر على قواعد القانون الدولي، والتي تفرض على الدول المتسبّبة في أضرار بيئية جسيمة تحمّل المسؤولية عن أفعالها، بما في ذلك تعويض الضحايا وإصلاح الأضرار الناجمة، كما أن معاهدة حظر الأسلحة النووية والتي انضمّت إليها الجزائر تعطي زخمًا لهذه المطالب المشروعة، حيث تنص صراحة على ضرورة التزام الدول الأطراف بمساعدة ضحايا التجارب النووية وإعادة تأهيل البيئات المتضررة، أما فيما يتعلق بالقيمة المادية للتعويضات المحتملة، سواء للأفراد المتضررين أو للأضرار البيئية التي لحقت بالأرض والهواء والمياه، فإنّها قد تصل إلى مليارات الدولارات، ذلك لأنّ تلك المساحات الشاسعة أصبحت غير صالحة للحياة، وتستوجب مراقبة مستمرة بسبب التلوث الإشعاعي. وما يترتّب على ذلك من تكاليف تشمل إنشاء أنظمة مراقبة دائمة، وتخصيص موارد بشرية وتقنية للإشراف والتوجيه. وقد تحمّلت الجزائر هذه الأعباء على مدى عقود طويلة، ما يضيف بُعدًا آخر للمسؤولية التي يجب أن تتحمّلها فرنسا.
أمّا سياسيًا، فالجزائر تطرح هذه القضية بشكل مباشر ضمن اللقاءات الثنائية مع فرنسا وفي المحافل الدولية، ما يعكس تصميمها على إيجاد حل شامل لهذه القضية، والملتقى البرلماني المرتقب يُعدّ فرصة لتوحيد الجهود الوطنية والدولية، حيث سيتم تقديم تقارير وشهادات توضح الأضرار التي خلفتها تلك التجارب، إلى جانب المطالبة باعتراف فرنسا بهذه الجرائم وتعويضها للشعب الجزائري.
كما أنّ ما تسعى إليه الجزائر لا يرتبط فقط بإزالة المخلفات الإشعاعية وتعويض المتضرّرين، بل أيضًا بتحقيق عدالة تاريخية تعترف من خلالها فرنسا بما ارتكبته من أخطاء وبشاعة الاستعمار، كما أن هذا الاعتراف ليس مجرد خطوة رمزية، بل يشكّل أساسًا لمعالجة آثار الماضي وبناء علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة، للمضي قدما بالعلاقات الجزائرية الفرنسية.
وتظل قضية التجارب النووية الفرنسية ملفًّا حسّاسًا يفرض نفسه على العلاقات الجزائرية - الفرنسية. ومع استمرار الجهود الجزائرية من أعلى مستوى وعلى المستويين القانوني والسياسي، تبقى المطالب واضحة متمثلة في إزالة المخلفات الإشعاعية، تعويض الضحايا، والاعتراف الرسمي بهذه الجريمة التي لا يمكن محو آثارها دون تحمّل المسؤولية الكاملة.