ثـــوّار جـــعــلــوا مــن الـكـلــمـة ســلاحــا في وجــه الـــعــدوّ
حمل العديد من الفنّانين الجزائريين على عاتقهم إبّان الثورة التحريرية المجيدة مسؤولية التعريف بالثورة الجزائرية وإيصال صوت شعبهم إلى العالم، على غرار صاحب الصوت الجهوري الذي استغلّ موهبته في الغناء لتكون بمثابة سلاح آخر في وجه المستعمر الفرنسي وتكون كلماته رصاصة حارقة في صدر المحتلّ الغاشم..
أغان ثورية كانت تصدح عاليا، سواء خلال سنوات الثورة التحريرية أو بعد الاستقلال، أبرزت من جهة جشع وهمجية المستعمر الفرنسي، وتغنّت من جهة أخرى ببسالة وشجاعة الثوار والشهداء الذين قدّموا النفس والنفيس من أجل تحرير الجزائر من بطش المستعمر.
أغان..كان لها الصدى العميق في صفوف المحتلّ الفرنسي الذي لم يكن يتوانى عن إسكاتها بالسجن أو القتل، فقد سجّلت الجزائر - خلال الثورة التحريرية - فنّانين دفعوا حياتهم ثمن أغنية اختلج معها وجدان العالم بأسره، لقوّة كلماتها التي أرعبت قوى الاحتلال وأربكت موازينه، لعلمه أنّها تحمل رسائل لا يفكّ شفرتها سوى الثوّار الأحرار.
فــنــّانـــون في مـــراقـــي الـــشـــهــــادة
تشير بعض الدراسات إلى أنّ الأغنية الثورية ظهرت إلى الوجود عقب مجازر الثامن ماي 1945، حيث أطلقت عدد من الأغاني التي تدعو إلى التحلّي بالروح الوطنية، والتسلّح بالصبر لأجل استرجاع السيادة الوطنية، فخطت الأغنية الثورية خطوات حاسمة نحو التوثيق لمرحلة هامة من تاريخ الجزائر، امتزجت فيها الوطنية بالحماس الذي ألهب نفوس الجزائريين للانتقام من المستعمر ودفعت بهم إلى ساحة المعارك.
لم يكن المستعمر الفرنسي يتوقّع أنّه سيواجه يوما ثوّارا من نوع مختلف..ثوار جعلوا من الكلمة سلاحا في وجه العدوّ الذي حاربها بكل ما أوتي من قوّة، وجعل ميدان الوغى يرتوي بدماء شهداء فنّانين كانت الجزائر قضيتهم الأولى، على غرار الفنّان علي معاشي الذي ارتبط اسمه بالأغاني الوطنية، وكانت رسائله تشحذ الهمم وتؤثر على الرأي العام، وهو ما جعل فرنسا تتنبّه إلى تأثير أغاني علي معاشي، فما كان عليها سوى إسكاته إلى الأبد، فاختطفته في 8 جوان 1958 مع اثنين من رفقائه، واقتادتهم إلى “ساحة كارنو” (ساحة الشهداء حاليا) بمدينة تيارت، حيث قتلتهم ونكّلت بجثثهم ولم تكتف بذلك، فجمعت الجزائريين لمشاهدة مصير الثلاثة المشنوقين في الساحة لبثّ الرعب في نفوسهم، وقد استشهد علي معاشي وعمره يناهز 31 سنة، تاركا رصيدا هائلا من الأغاني ذات البعد الوطني، أشهرها “أنغام الجزائر” التي غنّتها الفنانة نورة ولحّنها الفنّان بلاوي الهواري.
ويعتبر “البارا عمر”، واحد من الفنّانين الجزائريين الذي ذاقوا ظلم ومرارة التعذيب في السجون الفرنسية بسبب أغانيه الثورية، منها أغنية “راس بنادم”، والتي استلهمها من التراث الجزائري وبسببها ألقي القبض عليه، ليقضي أربعين يوما في الاستنطاق والتعذيب، بتهمة التحريض على العصيان والثورة ضدّ الاحتلال الفرنسي.
نـــقـــل الـــثـــورة إلى أرض الـــعــــدوّ
قوّة وبسالة الجزائريين خلال حرب التحرير ورغبتهم في طرد المستعمر، خلقت في نفوسهم جرأة لا مثيل لها، ومواجهة العدوّ في عقر دياره وعلى أراضيه دون أدنى خوف من العقاب أو القتل.
أغان وثّقت لهمجية المستعمر على أرض الجزائر، وما تزال تلقى صدى إلى يومنا هذا في نفوس الأجيال الحالية، على غرار الأغنية التي يردّدها الصغير قبل الكبير “الطيارة الصفراء” التي كان يستخدمها العدوّ لإطلاق القنابل على الشعب الجزائري الأعزل، تقول كلماتها: “الطيارة الصفراء احبسي ما تضربيش، نسعى رأس خويا لميمة ما تضنيش.. نطلع للجبل نموت نموت وما نرنديش”، وأيضا أغنية “جينا” التي تصوّر معاناة الثوار في الجبال، وتقول “جينا من عين مليلة، سبع أيام على رجلينا، فرنسا تسركل علينا، الباطوغاز أكل رجلينا، والكرطوش يقطع صدرنا، جات الموت بلا دفينة”.. دون نسيان أغنية “يا المنفي” وهي من أشهر الأغاني الجزائرية التي دوّت كلماتها عاليا خلال حرب التحرير وما تزال إلي يومنا هذا تصنع الحدث كونها تصف معاناة الجزائريين المعتقلين في غياهب سجون فرنسا، ويعود تاريخ كتابتها ـ بحسب الدراسات ـ إلى سنة 1871 من طرف أحد الأسرى المنفيين إلى جزيرة كاليدونيا..
هي أغان قليلة ذكرناها من بين آلاف الأغاني، بعضها كانت تنشد للحرية من ساحة الوغى وترسم معالم الاستقلال بنصر يلوح في الأفق، وأخرى تفضح همجية وعدوان المستعمر، ومعاناة شعب داخل السجون الفرنسية قضبانها زادت من لهيب الثورة الجزائرية وبثّت الروح الثورية في نفوس أبناء بلد المليون ونصف المليون شهيد.