الـــفــــرقـــة الفـــنـــيـــة لجـــبـــهـــة الـــتـــحـــريـــر مـــارســـت دورهـــا بـــإخـــلاص ونجــــاح
تميّزت ثورة التحرير الجزائرية بأنّها شملت كلّ التراب الوطني، وكلّ التنظيمات السياسية، وكلّ المجالات والنشاطات، بما فيها الفنية والرياضية، حتى أصبح الجميع في خدمة هدف واحد، وهو استرجاع السيادة الوطنية. وفي إطار هذه الفلسفة ظهرت الفرقة الفنية لجبهة التحرير، ووظّفت الإبداع الفني لإيصال صوت الثورة وقضية الشعب الجزائري..كما تحوّلت الكاميرا إلى سلاح فتّاك، وقدّمت السينما الجزائرية شهداء سقطوا في ساحات الشرف.
يؤكّد الدكتور نبيل زاوي (المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة، أستاذ بجامعة المدية) أنّ كلّ المنظمات الشعبية الجزائرية، على اختلاف أشكالها وتعدّد مجالاتها، أسهمت في معركة التحرير الوطني التي تجلّت في ثورة نوفمبر 1954، إذ لم يقتصر الكفاح على حمل السلاح فقط، بل كان للحركة الفنية كذلك إسهام فاعل في تجسيد صورة حقيقية لمعاناة الشعب الجزائري جرّاء سياسية القمع والاستعباد التي مارسها الاستعمار الفرنسي في حقّه، وعليه، فقد واكبت الحركة الفنية، وخاصّة النشاط المسرحي في السجون والمعتقلات، الثورة التحريرية منذ انطلاق شرارتها الأولى، وسعى الفن الجزائري الأصيل إلى بثّ الوعي الوطني الهادف بغية نيل الحرية وتحقيق الاستقلال.
ويضيف زاوي أنّ فرانز فانون أطلق مصطلح “المحو” و«الإلغاء الثقافي” على سياسة القهر التي مارسها الاستعمار تجاه الحركة الفنية الجزائرية، وقابل الفنانون الجزائريون ذلك بكثير من التضحيات، فوظفوا المسرح الهزلي لإيصال رسائل مشفّرة للجمهور، وأحيت منمنمات محمد راسم التراث الجزائري الأصيل المنفصل تماما عن التاريخ الفرنسي. ويقسم زاوي الفنانين الجزائريين بعد اندلاع الثورة إلى ثلاث فئات: فئة أولى بقيت في الجزائر وأوقفت نشاطها بشكل نهائي جرّاء التضييق، وفئة ثانية تعرّضت للاعتقال والتعذيب والاستنطاق، وقائمة هؤلاء الفنانين طويلة (أحمد رضا حوحو، محمد التوري، حسن الحسني...). وفئة ثالثة غادرت الجزائر وواصلت نضالها الفني.
ويرى زاوي أنّ تأخّر تشكّل الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني كان لأسباب موضوعية وميدانية، على رأسها التضييق الكبير على الفنانين والمثقفين المناضلين الذي صاحب اندلاع الثورة وبداياتها.
وقد أسفر تفكير القيادة الثورية بعد نجاح الثورة وشموليتها، إلى تأسيس الفرقة المسرحية الفنية لجبهة التحرير الوطني التي تعود أولى بوادرها إلى مؤتمر الصومام 20 أوت 1956، وعليه أصبح لزاماً على الثورة، لضمان نجاحها، أن تعمل على إدماج كلّ الفئات الشعبية والمنظمات الجماهيرية من طلبة، وعمال، ومثقفين وفنانين، وأدرك القادة أنّه بإمكان الفن أن يوصل صدى الثورة للعالم ويعرّف بالقضية الوطنية.. واستجاب لهذا النداء العديد من رجالات المسرح وفي مقدّمتهم المسرحي العميد مصطفى كاتب. وفي تونس، شهر مارس 1958، عقد أول اجتماع لأعضاء الفرقة (حوالي 35 فنانا ومطربا جزائريا) والتحقت عناصر أخرى فيما بعد استكمالاً لتشكيلة الفرقة.
وجابت الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني عواصم العالم العربي والغربي، وأملها في ذلك إيصال صوت الشعب الجزائري وصوت الثورة للعالم، وإبراز شرعية الكفاح المسلّح في الجزائر، فخرجت إلى النور أعمال مثل مسرحية “نحو النور”، ومسرحية “أبناء القصبة”، ومسرحية “الخالدون”، ومسرحية “دم الأحرار”.
ووفقا لخيري الرزقي (جامعة باتنة1)، فقد مارست الفرقة الفنية لجبهة التحرير دورها وواجبها الثوري الفني بكلّ إخلاص لمبادئ الثورة التحريرية، واستطاعت التعريف بالقضية الوطنية في الداخل والخارج، وكان نشاطها يبين مدى تأثيرها في الجماهير من خلال اعتمادها على مجموعة من الوسائل التعبيرية، ومن بينها المسرح الثوري، الذي يُعتبر إطارًا للكفاح ومترجما لواقع الشعب الجزائري، وقد أدّى المسرح دورًا هاما في التعريف بالقضية الجزائرية.
ويضيف الرزقي أنّ الفرقة الفنية عملت على شحذ الوعي السياسي من خلال جولاتها وأعمالها، وقد كانت كلّ هذه الوسائل تحمل رسائل جوهرية قدّمتها للرأي العام والعالمي.
من جهة أخرى، يؤكّد زاوي أنّ انطلاق الثورة التحريرية صاحبه انطلاق المدارس السينمائية في الجبال لتربية الأجيال على فنون الصورة والصوت، بغية تجسيد الكفاح المستميت الذي خاضه الشعب الجزائري من أجل نيل حريته، كما تكوّن على إثرها مصالح السينما العديدة، سواء التابعة للحكومة المؤقتة أو لجيش التحرير الوطني، والتي أسهمت بشكل فعلي في معركة التحرير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أول مدرسة للتكوين في مجال السينما فتحت عام 1957 بالولاية الأولى، تحت إشراف روني فوتييه، وكان طلبتها جنودا تلقّوا المبادئ الأولى في السينما وتقنيات التصوير، ولكن المدرسة لم تصمد أكثر من أربعة أشهر، فقد استشهد أغلب طلبتها في ميدان الشرف أثناء المعارك.
بعد ذلك، أنشأت الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية في 1959 مصلحة خاصّة بالسينما تابعة لها، ومصلحة أخرى تابعة لجيش التحرير عام 1960، وهي التجربة التي أسهمت، بعد الاستقلال، في ميلاد السينما الجزائرية وإنجازاتها الخالدة. ومن رواد السينما الثورية نذكر جمال الدين شندرلي، روني فوتييه، محمد لخضر حامينة، سمار قدور، ستيفان لابودفيتش. ومن الأفلام التي أنتجت إبان الثورة: “جزائرنا”، “الجزائر الملتهبة”، “اللاجئون”، “ياسمينة”، “صوت الشعب”.
من كلّ ما سبق، يمكن القول إنّ ثورة نوفمبر لم تكن قائمة على قوّة السلاح فحسب، بل وظّفت كلّ الإمكانات المتوفرة، على قلّتها، في خدمة هدف واحد هو تحرير البلاد والعباد، وقد أثبت إسهام الفنانين في حرب التحرير الجانب الإنساني للثورة، وأنّها لم تكن ثورة جياع، بل كانت قضية شعب له تاريخه وهويّته وثقافته.