يتحدّث أستاذ التاريخ بجامعة طاهري محمد ببشار، الدكتور محمد العيهار، عن الأوضاع التي ورثتها الجزائر عقب الاستقلال، مستعرضا أبرز المحطات التاريخية والإصلاحات التي خاضتها البلاد في سبيل تجاوز الظروف الصّعبة التي خلّفها المستعمر الفرنسي.
أكّد أستاذ التاريخ محمد العيهار أنّ الجزائر عشية الاستقلال “وجدت نفسها أمام وضع اقتصادي واجتماعي وثقافي متدهور إلى حدّ لا يوصف”. وأوضح أنّ الاستعمار الفرنسي ترك البلاد بخزينة فارغة، حيث نقل المستوطنون أموالهم المقدّرة بـ 750 مليون فرنك، وتركوا فراغا في المصانع والمزارع والإدارة، بالإضافة إلى ديون ثقيلة على الدولة الجزائرية الجديدة، وأشار إلى الوضع الاقتصادي الذي كان متأزّما بشدّة، حيث أغلقت العديد من المصانع الصغيرة، والتي بلغ عددها 100 مؤسّسة صناعية و2000 ورشة صغيرة.
وأضاف قائلا: “إلى جانب المشاكل الاقتصادية، كان الوضع الاجتماعي هو الآخر مأساويا، إذ كان 70% من الأيدي العاملة تعاني البطالة، كما كانت نسبة الأمية مرتفعة، مع قلّة الكوادر الطبية والهندسية، ولم يكن للجزائر سوى جامعة واحدة فقط هي جامعة الجزائر”.
وتابع “حتى البثّ الإذاعي الذي كان يدار من قبل الفرنسيين، توقّف، إلاّ أنّ بعض الكوادر الجزائرية تولت زمام المبادرة وأعادت البثّ من جديد، باسترجاع السيادة الوطنية في أكتوبر 1962”.
وأمام هذا الوضع الصّعب كانت الحاجة ملحّة لإصلاحات شاملة. لذلك شرعت الدولة الجزائرية إلى ايجاد حلول لعدّة تناقضات منها إقامة نظام التسيير الذاتي الذي مسّ المزارع الفلاحية والوحدات الصناعية الصغيرة سنة 1963، وإنشاء دواوين وطنية للحبوب والتجارة وإنشاء شركات وطنية، مثل شركة الكهرباء والغاز، وتأميم الأملاك الاستعمارية وإنشاء البنك المركزي 1963، وصكّ الدينار الجزائري في عام 1964، للتحكّم في السياسة المالية والنّقدية”.
ثم جاء الرئيس هواري بومدين لتشهد الجزائر ثورات تنموية على مختلف الأصعدة. “في السادس من ماي عام 1966، تم تأميم المناجم، ثم تأميم المصانع الصغيرة والصناعات الخفيفة. أما في 24 فيفري1971، فقد شهدنا تأميم المحروقات، والذي كان أكبر إنجاز على الإطلاق في استرجاع الثروة الوطنية”، يتابع العيهار.
كما تحدّث عن الثورة الزراعية التي انطلقت بإعادة توزيع الأراضي الزراعية، مشيرا إلى أنّ كثيرا من تلك الأراضي التي كانت بحوزة المعمّرين تم تأميمها أيضا في إطار هذه الثورة التي كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، إضافة إلى بناء قرى اشتراكية وتدريس الأجيال الجديدة. “هذه المشاريع ساهمت في تحسين الظروف التعليمية والاجتماعية بشكل كبير، وكانت جزءا من رؤية شاملة لبناء المجتمع الجزائري على أسس متينة”، يقول العيهار.
ويضيف “في العام 1976، صدرت تعليمات جديدة أدّت إلى تحسين نظام التعليم، وتم تعريف ما يعرف بالمدرسة الأساسية، كان التعليم آنذاك قد عرف قفزة نوعية كبيرة، وكانت هذه المرحلة بداية التحوّل الحقيقي في بناء الهوية الجزائرية وإعادة التخلّص من الإرث الاستعماري الذي حاول الفرنسيون تركه وراءهم”.
وفي السبعينات، يوضّح دكتور التاريخ أنّ التنمية في الجزائر أخذت منحى تصاعديا، “ظهرت بنوك جديدة، والمدارس والجامعات استأنفت نشاطها. صادرات البترول شهدت ازدهارا ملحوظا، وكان لهذا أثر كبير على الاقتصاد الجزائري”، مشيرا إلى أنّ هذه الفترة شهدت تطبيق المخطّطات الثلاثية والرباعية والخماسية التي ساهمت في إخراج البلاد من التخلّف وبناء البنية التحتية الضرورية للتنمية الشاملة وتحسين معيشة المواطنين بفضل التعليم المجّاني والطب المجّاني “.
وفيما يخصّ الجانب الثقافي، قال العيهار: “السينما الجزائرية شهدت تطوّرا كبيرا خلال السبعينات، وحصلت الجزائر على السعفة الذهبية عن فيلم “وقائع سنوات الجمر” في عام 1974. هذا الفيلم، الذي يعدّ توثيقا لمرحلة هامة من تاريخ الجزائر، وضع السينما الجزائرية في مكانة عالمية متقدّمة، ولعبت السينما الجزائرية دورا كبيرا في توثيق المرحلة الاستعمارية”.
وظهرت مجلات علمية وثقافية مثل مجلة “الثقافة” ومجلة “أصالة”، التي كان يكتب فيها كبار المؤرّخين والمثقّفين. يقول “كانت السبعينات حقبة غنية ثقافيا”.
أما على المستوى الإعلامي، فقد شهدت الجزائر في فترة الستينات والسبعينات بروز عدد من الصحف الوطنية التي لعبت دورا بارزا في تقديم محتوى إعلامي وإشهاري متميّز، من أبرزها جريدة “الشعب”، و«الجمهورية”، و«النصر”. وقد ساهمت هذه الصحف في نقل صورة حيّة عن واقع المجتمع الجزائري وإبراز قضاياه، إضافة إلى تقديمها مساحات واسعة للتثقيف والنقاش العام، ممّا ساعد في بناء وعي جماهيري متنام خلال تلك المرحلة.
وخلال السنوات القليلة الماضية شهدت الجزائر قفزة اقتصادية واجتماعية كبيرة مع الإنجازات الاستراتيجية الكثيرة التي تحقّقت في عهد الرئيس عبد المجيد تبّون، وفي هذا الصدد يقول محدّثنا، إنّ ذلك تمّ “بفضل التنمية المستدامة والاستقرار، مع وجود طاقات شبابية كبيرة يمكن استثمارها لمواصلة البناء والتقدّم”.