العالم العـلامـة والحـبر الفهامة الدكتـور يوسـف سلامة

شهيــدا إلى رحاب رحمة الله

بقلم: د. حمزة ذيب مصطفى عضو الهيئة الإسلامية العليا في القدس عضو مجلس الإفتاء الأعلى

في الثامن من جمادى الآخرة لسنة ألف وأربعمائة وخمس وأربعين للهجرة الشريفة الموافق للحادي والثلاثين من شهر ديسمبر لعام ألفين وثلاث وعشرين للميلاد، تلقينا وتلقى شعبنا الفلسطيني النبأ الفاجع الأليم كسابقته من الأنباء الفاجعة والتي من بعده ممّا ألمّ ولا يزال يلمّ بشعبنا وأهلنا في قطاع غزّة هاشم الصمود والتصدّي.

هكذا أراد الله تعالى لها أن تكون.. اختيار واصطفاء من الله تعالى، وما اختاره الله واصطفاه هو المفضّل وهو الكائن إلى حيث يشاء الله الإرادة الإلهية تكسر كلّ إرادة والمشيئة الإلهية فوق كلّ مشيئة، إرادة الله تعالى ومشيئته هي النافذة وهي الباقية وهي التي لها العاقبة رغم كلّ الظروف القاسية والمحن الشديدة والكروب التي تتطأطئ لها الجبال رؤوسها انحناء ضعفً، وانكسار شوكة وفتّ إرادة..
يقول صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّ أَفْضَلَ جَهَادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رَباطِكُمْ عَسْقَلانُ”.
إنَّ غزّة وما حولها هي خير وأفضل وأبرك الرباطات. نسأله سبحانه أن يشملنا بهذا الفضل والتميّز الجليل والمكان الأرفع. إنَّ النبأ الفاجع الذي تلقيناه في صبيحة ذاك التاريخ هو نبأ استشهاد العالم الجليل والعلامة المفضال والمثقف البارع والأديب التحرير سماحة الشيخ الأستاذ الدكتور يوسف جمعة سلامة وحرمه المصون، رحمهما الله تعالى الرحمة الواسعة وأسكنهما فسيح جناته، ألا وإنَّ الأكباد لتتقطع أسى وحسرة وتعتصر القلوب حزنًا وكآبة وتمتلئ النفوس دكانة وسوادا، وتعتري الأرواح صفرة وشحابة وتبكي العيون دما لا ماء على ما يجري لأهلنا وأشقائنا في هذا الرباط العظيم، والأفضل على الإطلاق من كلّ مواقع الأرض- عدا الحرمين الشريفين - صمودًا ورباطا.
كان مشوار حياتي الطويل في هذا الأرض المباركة منذ عدت إلى الديار وقررت الاستقرار والعيش على ثراها، ثرى الآباء والأجداد، هذا الثرى الطهور المقدّس، كان مشوار حياتي في طوله مع سماحة الشيخ الفقيه، والأديب النحرير يوسف سلامة، حيث كان وكيلا لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وأنا عميد لكلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس، وكان ما بين هاتين المؤسّستين الرائدتين والعملاقتين الكبيرتين تعاون كبير ورباط وثيق، واتحاد في الرؤى الناضجة والانفتاح العقلي والنظرة المستقبلية الواعدة لهذا الوطن الجريح النازف.. ثم غدا وزيرًا للأوقاف والشؤون الدينية، وتسلّمت أنا ملف العلاقات الخارجية لجامعة القدس في الوطن العربي والإسلامي، كما أصبحت مستشارا للجامعة.. في هذه الأثناء، توطّدت العلاقة بيننا وزادت اللحمة بحكم طبيعة عملي وعمله، ولطالما التقينا في مناسبات عديدة بقيادات سياسية في الداخل والخارج، وكنت أحمد فعاله كلّها، وممّا أحمده عليه حين لقاءاتنا بقيادات سياسية من الصف الأول، وأحيانًا من الصف الثاني، ما كان يجامل أحدًا على حسابات دينه وتقواه الله رب العالمين، بل كان يقول الحقّ ويقدّم النصح بطريقة فيها الحكمة والكياسة وبعد النظر.
ولطالما حضرت له خُطبًا بين يدي الرئيس الراحل ياسر عرفات، فما كان يومًا مداهنا أو يعرف النفاق والتزلف لمسؤول، أو يسئ لأحد من الشرفاء أو الأحرار أو يذكر أحدًا من الخيار بسوء.. كان رجلا يعرف ماذا يخرج من رأسه، كان متوازنا جدّا، قوّالا للحقّ، ناصحًا بحكمة، جريئًا شجاعًا غير هياب.
لقد تسلّم الشهيد الجليل الشيخ يوسف سلامة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فأدارها على أكمل وجه وأحسن جدًا الإدارة فيها، وعمل على تطويرها وتثبيت رسالتها وتوسيع رقعة نشاطاتها، وتعدّد وجوه نفعها وخيرها، وقد سبق أن أهدى إليَّ وقدّم لي كتابًا يضمّ في ثناياه منجزات وزارة الأوقاف تحت عنوان: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية: خمس سنوات إنجازات وتطلّعات.. كان ذلك سنة 1420 هـ – 2000 م، كانت وزارة الأوقاف قبله شيئا وغدت وأصبحت في عهده شيئا آخر مختلفا.
مجالات تطوير وزارة الأوقاف في عهده أكبر وأكثر من أن نأتي عليها في عجالة عبر مقالة قصيرة في صحيفة أو مجلة، ومن أراد معرفة تفاصيل هذا التطوير، فليرجع إلى المصدر الذي أشرت وألمحت إليه.
ومن مآثره وحسناته على عيدان المنابر، أنّه هو الذي رفع مكافأة الخطباء إلى مبلغ مائة دينار، وهو الذي أمدّ لجان الزكاة بكلّ الدعم وحافظ عليها وحماها من سلطات الاحتلال تحت الغطاء الرسمي الذي جعله لها.. لقد احتضن هذه اللّجان خير احتضان، وأمدّها بكلّ ما يلزمها نشاطا وقوّة وصلابة، ولم يُفتت عناصرها الخيرة الفاضلة العاملة، لا بل زادهم إحسانًا ومكرمة ومنزلة.
ذهب الكرسي وذهبت السلطة الفردية، وبقيت المآثر والأعمال الجليلة والعظيمة.. ذهب السلطان وذهب النفوذ، وبقيت العطاءات الخيّرة في ميزان صاحبها إلى يوم الدين.. ذهبت الحياة الدنيا بِعُجَرِها وبُجَرِها وبقيت الآخرة وبقي الحساب والجزاء. كما من مآثره الجليلة - على كثرتها رحمه الله تعالى - أن قام على فكرة طباعة مصحف المسجد الأقصى وتنفيذها.
وندلف بشيء إلى سيرته الذاتية، لنقول بأنّه ولد في معسكر المغازي بقطاع غزّة سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد (1954م)، وهو ينحدر من بلدة بيت طيما، حيث هاجر والداه منها بعد نكبة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف (1948م)، تلقى تعلّمه الأولي في قطاع غزّة فحصل على الليسانس الشهادة الجامعية الأولى في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر . كما حصل على إجازة المحاماة الشرعية.. ونظرًا لنهمه العلمي، فقد واصل المسيرة التعليمية حتى حاز على درجة الماجستير، وكانت رسالته في الوقف الإسلامي في فلسطين.. ثم واصل المسار العلمي حتى ناقش الدكتوراه وحاز عليها، وكانت في التكافل الاجتماعي في الوقف الإسلامي وآثاره في فلسطين.
شغل إلى جانب منصبه في وزارة الأوقاف، منصب نائب رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، فهو زميلنا في هذا الموقع، حيث عضويتي في هذه الهيئة الشرعية العليا، وهي أعلى هيئة شرعية تُعنى بالقدس الشريف في فلسطين، وقد شغَلْتُ هذه العضوية سنة تسعين وتسعمائة وألف (1990م) ولغاية اللحظة بفضل الله تعالى.. كما كان عضوا استشاريا بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، فهو أيضًا زميل كريم هنا، حيث تسلّمت عمادة هذه الكلية لسنين عديدة وذلك ما بين 2012 م – 2016 م . كما زاملنا لدورة أو دورتين في مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين، وكان أحد خطباء المسجد الأقصى المبارك، وشغل في غزّة هاشم نائبًا لرئيس مجلس الأمناء لجامعة الأزهر السابق، ورئيسًا لجمعية دار البر للأعمال الخيرية في فلسطين.

نشاطاتــه وإسهاماتــه

ثم هو كان على جانب كبير من النشاطات الكثيرة والمتعدّدة والتي لها علاقة وطيدة بالدعوة إلى الله تعالى، وله في ذلك إسهامات واضحة كجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، والمدارس الشرعية وكلية الدعوة الإسلامية، ومسابقة الأقصى الدولية والمحلية في حفظ القرآن الكريم وتفسيره، وإذاعة القرآن الكريم، ومؤتمر الوعظ والإرشاد السنوي، وغير ذلك كثير من النشاطات والإسهامات المتعدّدة.

مؤلفاتـه

ترك العلامة الحبر مؤلّفات ومصنّفات عديدة وكثيرة أربت على العشرين مصنّفًا منها على سبيل المثال لا الحصر :
. إرشادات دينية في بدع المآتم.
. إرشادات دينية في الطريق إلى الزواج الإسلامي السعيدة.
. مناسك الحجّ والعمرة.
. دليل النجاة في أحكام الطهارة والصلاة.
. المعجزات والحقائق الكونية في القرآن الكريم.
. الحوار في الإسلام.
. الوسطية في الإسلام.
. حقوق الإنسان في الإسلام.
. البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية.
. مكانة فلسطين في الكتاب والسنة.
. دور المسجد ورسالته ومكانته.
. حقوق المرأة في الإسلام.
. دور جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم والنور.
. دليل الأئمة والخطباء.
. إسلامية فلسطين.
. دليل المسجد الأقصى المبارك.

وغير ذلك من المصنّفات المتعدّدة.. هذا هو الانسجام التام ما بين الوظيفة والرسالة، لقد تجسّدت بحقّ لدى هذا الفقيه الجليل. حيث جمع ما بين الإخلاص في العمل والوظيفة وما بين رسالة الداعية في الحياة، ولذا كانت نهايته شهادة في سبيل الله تعالى. (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء).
 هو بهذا الشرف جدير، وبهذه المكانة والمنزلة عند الله أهل، فقضى شهيدًا جرّاء القصف الظالم لبيته وأسرته في العدوان الكبير على غزّة هاشم، أرض الآباء والشرف والفخار.. رحمه الله تعالى وحرمه المصون رحمة واسعة وأسكنهم فسيح الجنان.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024