دماء حنان تختلط بزيتون فقوعة وترابها

تقرير: عبد الباسط خلف جنين

لم تكن حنان عبد الرحمن أبو سلامة، 59 عاما، تعلم أنّ أول يوم قطاف للزّيتون في حقل العائلة بقرية فقوعة، شمال شرق جنين، سيكون الأخير بفعل رصاصة ظالمة أصابها بها المحتلّ الغاشم في مقتل.

وبشقّ الأنفس، استطاع الزوج حسام أبو سلامة وصف اللحظات الأخيرة لرفيقة دربه، إذ انطلق الزوجان بجوار ابنهما الوحيد فارس، والعامل طلال جلغوم في الصباح الباكر إلى منطقة أم كردوش المتاخمة لجدار الفصل العنصري لتدشين موسم الزّيتون. وأكّد الزوج، والحزن يسكنه، أنّه وأفراد أسرته ابتعدوا مسافة كبيرة عن الجدار، وشرعوا في جمع ثمارهم، بعد إبلاغهم بوجود تنسيق مع الاحتلال للعمل، لكن دوريات الاحتلال خلف الجدار كرّرت التجوّل في المنطقة، وراح الجنود يطلقون النار في الهواء لتخويف المزارعين.

قـبّـعـة ورصـاص

وقال أبو سلامة إنّه رفع قبّعته البيضاء، نحو التاسعة والنصف، عندما سمع إطلاق نار قريب، بينما كان يسحب فرش الزيتون، لكن جنود الاحتلال أطلقوا النار على زوجته التي احتمت وابنها والشاب جلغوم بالأرض، على مقربة من الجرار الزراعي. واستدرك بحرقة:
«كانت لحظات قاسية، ولم نستوعب ما يحدث، وحينما شاهدت زوجتي تنزف من ظهرها، نقلها ابني بسيارته، واتصلنا بالإسعاف الذي حضر إلى مشارف قرية بيت قاد، وتبعناه إلى مستشفى ابن سينا في جنين، لكنّ زوجتي استشهدت بعد وقت قصير من وصولنا”.
وأضاف، أبلغنا جنود الاحتلال بالابتعاد 100 متر عن الجدار، وتجنّبنا الاقتراب، لكنّ إطلاق النار الذي بدأ في الهواء في وقت مبكّر من النهار انتهى بقتل أم فارس.
وأشار فارس إلى أنّهم احتموا من الرصاص، واستلقوا على الأرض المليئة بالأشواك، وحاولوا الزحف نحو الجرار والمجرورة الزراعية، إلاّ أنّ الرصاص وصل إلى أمّه. وعجز الإبن البكر والوحيد للشهيدة عن تمالك نفسه، وقال إنّ المنطقة التي استهدفهم الاحتلال فيها، كانت تنتشر فيها عائلات أخرى لجمع زيتونها.
وأوضح طلال جلغوم الذي كان يرافق العائلة، إنّ إطلاق النار المتقطّع بدأ بعد نحو ساعة من وصول أهالي القرية إلى حقولهم، لكن بعد قرابة ساعة بادر الجنود بإطلاق الرصاص. ووفق جلغوم، فإنّه قبل لحظات من الحادثة، أخذت العائلة استراحة قهوة قصيرة، وكانت تخطّط لتناول طعام الإفطار، لكنّ رصاص الاحتلال بدّد مخطّطات العائلة، التي تركت زوادتها وأمتعتها وزيتونها المقطوف، وأسرعت إلى إسعاف الأم الجريحة. ووصف اللّحظات الأخيرة قبل إصابة أبو سلامة، إذ اتخذوا قرارا بالنزول إلى الأرض للاحتماء من الرصاص، لكنّهم فجأة شاهدوا الدماء تسيل من ظهر أبو سلامة. ولخّص ما حدث قائلا:
لقد انتهى يومنا الأول بالدم، كنا نخطّط لنهار عمل طويل خاصّة أنّنا منعنا من الوصول إلى المنطقة في المواسم الماضية، وبدلا من نقل الزيتون إلى البيت والمعصرة نقلنا أم فارس إلى المستشفى، وها نحن الآن في المقبرة. والشهيدة أبو سلامة أم لسبعة أبناء: ولد وحيد، وسماح، وسلوى، ويدين، وسلام، وياسمين، وآمنة، ونحو 15 حفيدا.

شهـادة..

واستذكر جمال جالودي اللحظات الأخيرة التي جمعته بشقيقته، إذ أمضوا الليلة الفائتة في السمر، وكانوا يخطّطون للذهاب لبيت عزاء لزوج قريبتهم في برقين، وأخبرتنا بمخطّطاتها لليوم التالي.
وتابع حديثه بصعوبة: ولدت شقيقتي عام 1965، وعملت مزارعة مثابرة، وساعدت زوجها، وقضت أوقاتا طويلا في رعاية الزيتون وجمع ثمار الصبر، لكن جنود الاحتلال أوقفوا أحلامها. وتحمل حنان الترتيب الثاني في عائلتها، فقبلها سهام، وخلفها جمال والمرحوم أنور، وهاشم، وسميح، وسامي، وسامية، وتوفي والدها مطلع عام 2021 بجائحة “كورونا”، وبقيت أمّها نصرة لتبكيها. وقبل انتصاف النهار، حمل المشيّعون نعش أبو سلامة، وساروا بها من مسجد مجاور لبيتها، وسجي الجثمان في ساحة المنزل الذي خرجت منه صباحا إلى حقلها، دون أن تعرف أنّها ستدخله موشّحة بالعلم وفي تابوت.

شهـيدة رابـعـة

واختلط عويل النساء بأصوات نعي أم فارس من مكبّرات المساجد، فيما بدت ياسمينة المنزل، وشجرة زيتون ولوز وفاكهة التنين وكأنّها شريكة في الحزن على اليد التي غرستها ورعتها.
وقال أستاذ التاريخ وابن البلدة مفيد جلغوم، إنّ فقوعة تبكي اليوم رابع شهيدة فيها، إذ سبقتها خضرة أبو سلامة التي ارتقت في أول أيام انتفاضة الأقصى وهي داخل باحاته في القدس، تبعتها أميرة أبو سيف بعد أن قضت على حاجز للاحتلال، بينما لحقت بها في أفريل 2022 الطالبة حنان محمود خضور، التي قتلها المحتلون في جنين، وقطعوا عليها إكمال دراسة “التوجيهي”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024