في كتابه “المراقَبة والمعاقَبة: ولادة السجن”، يفتتح المفكّر الفرنسي “ميشيل فوكو” صفحاته بمشهد تعذيب دمويّ لرجل فرنسي يُدعى روبرت في عام 1757، بتهمة محاولة اغتيال الملك لويس الخامس عشر “1710-1774”، ويؤكّد فوكو أنّ ما بعد إعدام روبرت، تم التنكيل بالجثّة في ساحة عامّة، وأمام حشد من الناس يراقب جسد روبرت في مركز المدينة وهو يتمزّق أمام أعينهم في مشهد يُلخّص انتقام الملك برمزيّته، وأذرعه، ومؤسّساته، وفرض سلطة الملك على جسد من حاول المساس به.
بعد عرض هذا المشهد الوحشي، ينتقل فوكو إلى عرض فكرة اختفاء فكرة العقاب العلنيّ للجسد، حيثُ تناول فوكو السياق التاريخي للعذاب الجسدي على طوال مقدّمة الكتاب، ولكن يؤكّد فوكو أنّ مؤسسة العقاب ذهبت نحو التحكّم والسيطرة على روح السجين بدلًا من الجسد، وذلك من خلال السيطرة لا على الجسد مباشرة، بل على تفاصيل حياة ذلك الجسد اليوميّة، وفرض سلطة المؤسّسة الحاكمة عليه، وإعادة صياغتها وتعرفيها.
يتجلّى معنى التحكّم بروح السجين مقابل التحكّم بجسده، بحسب قراءة عالِم الاجتماع توماس ماثيسيِن لكتاب فوكو، في “خلق أشخاص يسيطرون على أنفسهم عبر ضبط أنفسهم بأنفسهم؛ ليتناسبوا تمامًا مع ما يُدْعى بالمجتمع الرأسماليّ الديمقراطيّ، بكلمات أخرى، ينتقل مفهوم العقاب من المسّ المباشر بجسد السجين عبر التعذيب العلنيّ، إلى المسّ بشخصه، أفكاره، دوافعه، أهدافه، وإعادة إنتاج تلك الروح لاستثمارها بما يعود بالفائدة على السلطة نفسها؛ ليتحوّل الجسد الأصليّ إلى “جسد طيّع”، بحسب تعبير فوكو، يمكن السيطرة عليه، وضبط سلوكه، ومعرفته، وتحسينه بما يخدم السلطة في سبيل تحقيق ذلك، كان لا بدّ من تصميم سجن يمكن من خلاله إنتاج جسد طيّع، وهندسة سلوكيّات السجين وتصرّفاته فيه.
في خضمّ ما سبق، لم تكن رسالة الأسيرة خالدة جرار، من زنزانة العزل الانفرادي إلا دليلًا على السيطرة على الروح التي يحاول الاحتلال ممارستها على أجساد الأسرى الفلسطينيون حتى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، ومن أجل أن نتشرب سياسة الإعدام المعنوي في فكر فوكو، والتي يًمارسها الاحتلال بطبيعة الحال على الأسرى لنقرأ ما تقول جرار، إذ تقول: “أنا أموت يوميًا، فالزنزانة أشبه بعلبة صغيرة مغلقة لا يدخلها الهواء، فقط يوجد مرحاض وأعلاه شباك صغير، الذي تم إغلاقه لاحقا، وحتى ما تسمى بالأشناف في باب الزنزانة أُغلقت، وهناك فقط فتحة صغيرة أجلس بجانبها معظم الوقت لأتنفّس، أنا أختنق وأنتظر أن تمرّ الساعات لعلّي أجد جزيئات أوكسجين لأتنفّس وأبقى على قيد الحياة”.
إذن، تحمل رسالة جرار في عباءتها تحليل فوكو، ولكن في الصندوق الخاص لخالدة رسائل باطنة تتحدّث فيها عن قدرتها على تمزيق أوراق فوكو، والسعي الدؤوب لتفتيت كلّ محاولات الاحتلال لتحطيم روحها، خصوصًا أنّ خالدة في اعتقالها ما قبل الأخير قالت لحظة تحرّرها على قبر ابنتها “سهى” التي فقدتها وهي داخل أسوار السجن: “الأسرى يفقدون الأحبة، لكن لا يفقدون الأمل”، ولكن الأهم أنّها قالت أيضًا: “الاحتلال يحاول السيطرة على الروح من خلال اعتقال الجسد، ولكن الأسرى دائمًا ينتصرون في ذلك”، وفي طيّات هذه الكلمات تُلخّص خالدة التي تقبع الآن في زنزانة العزل الانفرادي، كيفية تحويل السجن إلى مدرسة، وعدم الوقوع في سياسية كي الوعي التي تحدث عنها سابقًا الشهيد “وليد دقة”، إذ يقول دقة في ذات سياق فوكو: “تقف في السجن أمام خيارين، إمّا أن تكفّ عن كونك ذاتك وتتحوّل كليًا إلى موضوع سجّانك، وإمّا أن تّحول ذاتك لموضوع بحث لإعادة تعريف التعذيب وأسبابه”.
تأخذنا تحليلات “وليد دقة “، و«ميشيل فوكو”، والتي انطلقنا إليها من رسالة الأسيرة خالدة جرار، إلى جدلية العبد والسيد التي تحدّث عنها هيجل، إذ يقول هيجل: “إنّ السيد يفرض على العبد الاعتراف به عبر الإنكار، وبهذه الطريقة ينشأ شكل من أشكال الوعي في المهيمن، إذ يدفع هذا الوعي العبد لأن يتعرّف على الآخر على أنّه سيد ويتعرّف على نفسه على أنّه عبد”، وأكثر تأخذنا هذه التحليلات على الفرق بين المُستعمِر، والمُستعمَر التي تحدث عنها “فرانز فانون” في كتابه “معذّبو الأرض”.
حتى لا يتسرّب المعنى من النصّ، يمكن القول أنّ العلاقة ما بين فوكو، ودقة، وهيجل، وغيرهم ممّن تناولوا هذا السياق، تكمن في محاولة الاحتلال فرض سيطرته على سيكولوجية الإنسان، وأكثر تحويل هذا الإنسان إلى تابع عبر تلك السيطرة، وبل قهر الإنسان، وممارسة عليه أبشع أنواع التعذيب السيكولوجي، والجسدي، ولذلك لم تخرج رسالة خالدة جرار من ذات السياق، إذ يسعى الاحتلال تحديدًا مع جرار وغيرها من القيادات السياسة الفلسطينية لعزلهم داخل السجون لإدراك الاحتلال مدى تأثير هؤلاء على الأسرى، ومن جهة زرع حالة من الإحباط واليأس داخل ذواتهم من أيّ محاولة لمواجهة هذا الاحتلال. أخيرًا وليس آخرًا، يمكن لنا التمعّن جيدًا فيما قاله الفيلسوف الفرنسي “ألبير كاموا”، في ورايته الغريب، حتى نتمكّن من فهم سياسة الاحتلال داخل السجون، إذ يقول كاموا على لسان البطل خلال نقاشه مع السجّان:
- السجّان: نضعكم في السجن لهذا الغرض بالذّات.
- البطل: كيف، لهذا الغرض؟
- السجّان: أجل، الحرية، هو ذا المقصود، أنّنا نحرمكم من الحرية.
- البطل: أجل، وإلاّ أين تكمن العقوبة؟
وختامًا الحرية هي العمود الفقري لفكرة السجن، الحرية التي نفسها المقابل كما تحدّث من قبل الشهيد والأديب غسان كنفاني.