ترك بصمتـه فـي السياسـة والفكر والتاريخ والترجمـة

الزبيري.. المثقّــف الموسوعــي والمناضل الوطني..

.أسامة إفراح

رحل المثقّف والمؤرّخ والمجاهد محمد العربي الزبيري، بعد مسيرة مليئة بالإنجازات، مسيرة لم تأت من فراغ، وهو الذي استثمر أيامه بأقصى قدر ممكن.. أقبل على العلم فتدرّج في التعليم الفرنسي والمدارس الحرّة معا، فتحكّم في لغتين.. وأقبل على البحث الأكاديمي فدرس الترجمة والتاريخ، فاكتسب تخصّصين علميين.. وأقبل على النّضال السياسي والثقافي، ورافع من أجل مدرسة وطنية للتاريخ، فخدم وطنه بما استطاع.

خسر المشهد الأكاديمي والثقافي علما آخر، برحيل المجاهد والمؤرّخ الدكتور محمد العربي الزبيري هذا الأسبوع.. هي سنّة الحياة، أن ينقضي أجل وترفع أقلام.. وهي سنّة الحياة أيضا، أن نكتب عن فقدائنا ونعدّد خصالهم..

البدايـــات..

ولد المؤرخ محمد العربي الزبیري في 18 أفریل 1941 ببلدیة سیدي عقبة (بسكرة)، وهو ابن الصادق وظریفة مسعودي، وعمه علي الزبيري قيّم وإمام المسجد الكبير بسيدي عقبة، وكان بيت العائلة الذي ترعرع فيه محمد العربي مقابلا للمسجد، حيث مقام الصحابي عقبة بن نافع.
بدأ تعلیمه الأوّل بمسقط رأسه، في الكتّاب لحفظ القرآن الكریم وعمره خمس سنوات، ثم دخل المدرسة الابتدائية الفرنسیة، بالموازاة مع مواصلة التعليم الحرّ، حيث درس على يد الشيخ صالح مسعودي بن عبد الهادي (سقط شهيدا في الثورة) والأستاذ حمزة حوحو (ابن عم الشهيد رضا حوحو). رحلت عائلة الزبيري إلى الحروش (سكيكدة) وعمره 10 سنوات، وهناك تحصّل على شهادة الابتدائية، والتحق بمتوسطة الحروش وأيضا بالمدرسة الحرّة التي كان يسيّرها الشيخ السعيد كربوش، ودرس قواعد اللّغة العربية وآدابها والعلوم الدينية كالفقه والحديث، كما تمكّن من الأجرومية والألفية، وبعد حصوله على شهادة الأهلية، التحق بالثانوية ثم بجامعة الجزائر سنة 1963.

المجاهـد والسياسي

شارك الزبيري في إضراب الطلبة 19 ماي 1956، وشكّل ذلك دفعا للتفكير في حمل السلاح في وجه المستعمر، والتحق الزبيري بجيش التحرير الوطني وهو في سنّ مبكّرة.
في مجال السياسة، عُرف عن الراحل أنّه لم يكن يهادن ولا يجامل، ويجهر برأيه ولا يعرف أنصاف الحلول.
غداة الاستقلال، عين عضوا في ديوان الأمين العام لجبهة التحرير الوطني محمد خيضر، وفي نفس السنة أيّ سنة 1962 عين مفتشا عاما لجبهة التحرير الوطني. وكان انتقال الزبيري من جيش التحرير الوطني لجبهة التحرير من دون سابق تجربة في العمل السياسي، ووفقا لمحمد بوعزارة، فإنّ الراحل محمد خيضر، الأمين العام للأفلان حينذاك، هو الذي اشترط على الزبيري إكمال دراسته مقابل قبوله في الحزب، وقال له: “تأكّد بأنّني لن أحاسبك على العمل، بل سأحاسبك على الدراسة”. كما تطرّق بوعزارة إلى العلاقة الوطيدة بين محمد الشريف مساعدية والزبيري، والتي بدأت في وقت لم يكن عمر هذا الأخير يتجاوز 23 عاما.
بعد جوان 1965، عين أمينا وطنيا للاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين وذلك إلى غاية 1967. ثم عين مرة أخرى مسؤولا عن الأمانة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني ما بين 1973 و1977، وانتخب عام 1984 عضوا باللجنة المركزية للحزب، وأصبح في نفس السنة عضوا بالأمانة الدائمة للجنة المركزية.

المثقّف والأكاديمـي

كما سبق القول، كانت مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي شرطا لنشاط الزبيري السياسي.. ولم يكن ذلك قرارا خاطئا، بدليل مسار الراحل العلمي المتفرّد، وهو الذي تحصّل على العديد من الشهادات العليا: ليسانس في الآداب من (جامعة الجزائر 1965 ــــ 1966)، شهادة الكفاءة في التعليم الثانوي في اللغة العربية وآدابها (1967 بالجزائر)، ليسانس في التاريخ (1968 بالجزائر)، ليسانس في الترجمة (1969 بالجزائر)، دبلوم الدراسات العليا في التاريخ (1970 بالجزائر)، دكتوراه الطور الثالث (1972) وهو أول خريجي جامعة الجزائر بهذه الشهادة، وكان المشرف عليه أبو القاسم سعد الله، ثم دكتوراه دولة في فلسفة التاريخ (1994 ــــ 1995 جامعة بغداد، العراق).
ولم ينقطع الزبيري عن عالم الثقافة والفكر، وقد كان أول جزائري يشارك في مؤتمر الكتاب الأفرو-آسيوي ببكين في جوان 1966 بصفته رئيس وفد. انتخب رئيسا لاتحاد الكتاب الجزائريين لعهدتين متتاليتين (من 1981 إلى 1987)، كما أصبح عضوا بارزا في اتّحاد الكتاب العرب.
وكان الزبيري عضوا في اتحاد المؤرخين العرب، ويعتبر أحد مؤسّسي المجلس القومي للثقافة العربية، كما أنّه عضو في العديد من هيئات التحرير لمجلات متخصّصة منها مجلة “الوحدة”، كما كان مديرا لمجلة “الرؤيا”، لسان حال اتحاد الكتاب الجزائريين.
أسّس الزبيري منتدى الفكر والثقافة في 1991 بالعاصمة، كما سعى في تأسيس المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر.

الزبــــيري مؤرّخـــا

رافع الزبيري من أجل التأسيس لمدرسة وطنية للتاريخ والنظر في المفاهيم والمصطلحات.. وعن الإرث التاريخي، يشير الباحث سعيد جلاوي (جامعة البويرة) بأنّ الزبيري أكّد واجب البحث والدراسة والتأريخ له، وتأسّف لكون الجزائريين يكتبون ويدرسون تاريخهم اعتمادا على ما كتبه ويكتبه المؤرّخون الفرنسيون، رغم ما في ذلك من تزييف واضح للحقائق التاريخية المتعلّقة بالتاريخ المعاصر للجزائر الذي تعرّض لاعتداء من قبل مدرسة التاريخ الفرنسية. كما انتقد الزبيري المغالطات في ضبط المفاهيم والمصطلحات التاريخية التي وردت في المؤلّفات الفرنسية، التي تخدم الإيديولوجيا الفرنسية، وقال إنّ من نتائج ذلك الخلط بين مصطلحي الثورة والحرب على اختلافهما، والاحتفال بالاستقلال والأصحّ هو الاحتفال باسترجاع الاستقلال.
من جهته، يرى أنس مباركي (جامعة بسكرة) أنّ لمنهج الزبيري في كتابة التاريخ مميّزات هي: أولا، المرحلية أو التدرّج في كتابة تاريخ الأمة الجزائرية، إذ لا يقف عند الحدث التاريخي إلا بعد وضعه في سياقه المرحلي. وثانيا، نقد ورفض التناقضات المتعلقة بالواقعة والشخصية التاريخية. وثالثا، ربط ومقارنة الحدث المحلي مع الأحداث العالمية. ورابعا، نقد مصادر الرواية التاريخية والترجمة قبل استقاء الحدث التاريخي منها. وخامسا، إخضاع المعلومة التاريخية للوثيقة وتحليل الوثيقة لإثبات أو دحض حقيقتها.
وقد تنوّعت إسهامات المؤرخ الدكتور محمد العربي الزبيري بين التأريخ والفكر والمقالات الصحفية، دون أن ننسى إشرافه على العديد من الرسائل والأطروحات الجامعية.
ونذكر من بين مؤلّفاته: “مدخل إلى تاريخ المغرب العربي الحديث”، “دراسة في تاريخ الجزائر المعاصر” (2014، خمسة أجزاء)، “التجارة الخارجية في الشرق الجزائري في الفترة ما بين 1792 – 1830”، “الكفاح المسلح في عهد الأمير عبد القادر” (1982)، “الكفاح المسلح في عهد الحاج أحمد باي”، “حمدان خوجة رائد الكفاح السياسي”، “المثقفون الجزائريون والثورة” (1995)، “مقاومة الجنوب للاحتلال الفرنسي” (2014)، “الثورة الجزائرية في عامها الأول”، “الغزو الثقافي في الجزائر 1962 ــــ 1982” (1986)، “مقاومة الحاج أحمد باي واستمرارية الدولة الجزائرية” (2015)، “مقاومة الجنوب للاحتلال الفرنسي”، “المؤامرة الكبرى أو إجهاض ثورة” (ط1: 1989، ط2: 1991)، “المقاومة العربية” (2017)، “عبد الناصر وثورة الجزائر” (2007).

الزبـيري مترجمــا

استفاد الزبيري من تكوينه العلمي في مجالي الترجمة والتاريخ، حين وظّف الأولى في خدمة الثانية، ومن أهم ترجماته نذكر: كتاب “المرآة” لحمدان بن عثمان خوجة (تقديما وتعريبا وتحقيقا)، “مذكرات أحمد باي وحمدان خوجة وبوضربة”، و«مذكرات الريس حميدو”.
وللتعرّف على ملكة الزبيري اللغوية والترجمية، نستأنس بآراء الباحثة بديعة بومزبر (جامعة الجزائر 2)، وقد وجدت المتخصّصة في الترجمة، وهي التي خصّصت الماجستير والدكتوراه للمقارنة بين ترجمتي الزبيري ومحمد عبد الكريم لكتاب “المرآة”، أنّ ترجمة محمد العربي الزبيري هذا الكتاب “إنتاج موجّه للمتخصّصين في التاريخ، تتميّز بأسلوب نفعي موضوعي منحت فيه الأولوية للدقّة في النقل، باعتبار التاريخ علما لا يقبل الخطأ ولا التأويل. لذلك حاول المترجم الاقتراب قدر المستطاع من المعلومة تحرّيا للأمانة العلمية. فهو ممّن يعتبر الترجمة علما من العلوم”.
ورأت الباحثة أنّ ترجمة “المرآة” تعتبر نصّا يتميّز بالنظرة الموضوعية، حيث قام الزبيري بعملية نقل حرفي للمعاني الموجودة في النصّ الأصلي (La traduction littérale)، معطيا الأولوية لنقل الوقائع أيّ المعلومات التاريخية التي يتضمّنها النصّ الأصلي بكلّ موضوعية، فجاءت ترجمته في شكل نصّ نفعي يتسم بالموضوعية التاريخية. وقد تحرّى الدقّة والموضوعية في إعطاء نصّ تاريخي جديد، “ووفق في مهمّته كلّ التوفيق حتى أنّ ترجمته يمكن أن يعتمدها الباحثون في علم التاريخ باعتبار ترجمته وثيقة تاريخية تضاهي شكلا ومضمونا النصّ الأصلي أعطيت فيها الأولوية لنقل المعنى حرفيا”.
وأضافت الباحثة أنّ تكوين الزبيري في مجال الترجمة وإتقانه لأساليبها بدا جليّا من خلال الترجمة التي قدّمها لكتاب “المرآة”. وبحكم تكوينه في الترجمة، فهو لا ينسى - في أيّ لحظة من اللحظات - بأنّه بصدد ترجمة أفكار غيره والتعبير عمّا يختلج في أذهانهم.
وبالتالي، فإنّه يكتفي بنقل الفكرة نقلا وفيّا قدر المستطاع وفي الحدود الدلالية للغة المنقول إليها، ويظهر تحكّمه في اللغتين الفرنسية والعربية (المنقول منها والمنقول إليها)، حيث أنّ ترجمته تخلو من الأخطاء أو ممّا يسمى بترجمة المعنى المعاكس (Le contresens) أو الترجمة بالمعنى المغاير (Faux-sens).
كما أنّه يبدأ الجملة العربية مع احترام خصائص اللغة العربية وعدم نسخها على اللغة الفرنسية، لأنّ لكلّ لغة طريقتها في كيفية بداية الجمل فالجملة الإسمية في اللغة الفرنسية والجملة الفعلية في اللغة العربية.
وتضيف: “تركيبه سليم وأسلوبه بسيط، فضلا عن كونه يتقن أساليب الترجمة الأمينة الدقيقة التي لا تقتصر على النقل الحرفي، بل تستلزم البحث والتحقيق والتعليق بالملاحظات والحواشي؛ لذلك استعمل الهوامش من أجل إعطاء إضافات مفيدة مثل التعريف ببعض الشخصيات التاريخية، وهو الأمر الذي ليس موجودا في النص الأصلي، وهي عموما إضافات قيّمة قام بها بكلّ تلقائية. كما يتميّز أسلوبه بالأناقة في التعبير عن أفكار الكاتب الأصلي، مع أنّ اهتمامه الأساسي كان منصبّا على تبليغ الفكرة أو المعلومة”.
وتتميّز ترجمة الزبيري بالاختصار الشديد والاختزال والاقتصاد، مع إعادة الصياغة أحيانا، فأثبت براعته ومهارته في الترجمة بتقديم نفس المضمون من المعلومات بطريقة اقتصادية، بحيث جاء نصّ ترجمته أقلّ طولا من النصّ الأصلي، فتبين من ذلك أنّه متحكّم في اللغتين العربية والفرنسية، وأنّه ملمّ بتقنيات الترجمة.
وتوصّلت الباحثة إلى أنّ ترجمة الزبيري مباشرة، وهي ترجمة بمعنى الكلمة للنصّ الأصلي (Une traduction véritable) أيّ ترجمة طبيعية تجعلنا ننسى أحيانا أنّنا بصدد قراءة نصّ ترجمة وليس الأصل.. فقدّم عملا جديرا بالتقدير والإشادة، ومرجعا يجد فيه الباحثون والمؤرّخون ضالّتهم.

الزبــيري.. وجريـدة “الشعـب”

كان المحمد العربي الزبيري من أول الصحافيين الذي عملوا بجريدة “الشعب”.. ويعود الرجل إلى قصة تأسيس الجريدة، وقد كتب على صفحاتها (العام الماضي) بمناسبة ذكرى تأسيسها، إنّ محمد خيضر هو من يقف وراء إصدار جريدة وطنية (سنة 1937) أسماها “الشعب”، واختار الأديب الشاعر مفدي زكرياء رئيس تحرير لها، وبعد العدد الأول، منعها الاستعمار الفرنسي من الصدور. من أجل ذلك، ومباشرة بعد الاستقلال، كلّف المناضل صالح الونشي ببعث الجريدة باللغة الفرنسية، فصدر عددها الأول يوم 19 سبتمبر 1962 (تأخّر إصدارها بالنسخة العربية لعدم توفر الطابعات وآلات الرقن باللغة الوطنية). ثم صدر العدد التجريبي الأول في 16 نوفمبر تحت إشراف محمد الميلي.
يقول الزبيري: “وكان عدد الصحافيين قلّة”، ويذكر منهم بعض الأسماء، ثم يضيف: “وواصلنا إصدار الأعداد التجريبية إلى أن تقرّر بعث العدد الأول يوم الحادي عشر ديسمبر 1962، إحياء لذكرى الانتفاضة الشعبية التي كانت إيذانا بانطلاق المرحلة الثالثة من مراحل ثورة نوفمبر العظيمة”.
ويخلص قائلا: “إذن انطلقنا وصدرت الجريدة في شكلها المعروف اليوم، وكنّا قلّة قليلة لكنّنا كنّا مسكونين بإرادة التحدّي. كنّا نقوم بالتحرير في النهار وعندما تغرب الشمس ننزل إلى حيث المطابع نرقب التقنيين ونتعاون معهم لحلّ ما قد يحدث من مشاكل. ومرّت الأشهر الأولى علينا وكأنّنا في عرس حتى كان ما كان”..
رحم الله المجاهد، والمناضل، والمثقّف، والباحث، والمؤرخ، والمترجم، وأحد الأقلام التي أسّست جريدة “الشعب”، محمد العربي الزبيري، ولقّاه نضرة وسرورا.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19585

العدد 19585

الأربعاء 02 أكتوير 2024
العدد 19584

العدد 19584

الثلاثاء 01 أكتوير 2024
العدد 19583

العدد 19583

الإثنين 30 سبتمبر 2024
العدد 19582

العدد 19582

الأحد 29 سبتمبر 2024