مدينة جنين، مدينة الجنان والماء والينابيع الغزيرة، مدينة كنعانية، تقع في شمال الضفة الغربية المحتلة، تطلّ على غور الأردن من الشرق ومرج ابن عامر من الغرب من جهة الشمال، وظلّت هاجسا لكلّ الغزاة الذين وصلوها، يلتقي فيها السهل والجبل والغور والجامع والكنيسة والثائر والفلاح، مرّ منها السيد المسيح في طريقه إلى الناصرة، عالج المرضى وأقام الصلاة ونجا من المطاردة.
مدينة جنين تواجه الكون، لها أسبابها لكتابة تاريخ من الدم خارج سياق الطبيعة ومعادلات الصراع النمطية، ولا يمكن أن تفهم جنين دون أن تقيم هناك وتقرأ التاريخ في حجارتها وصخورها القديمة، أن تكون حيا أو شهيدا، أو تكون في الذروة أو في الهاوية.
إذهب إلى جنين اليوم أو غدا، لا تنس أن تدخل المخيم، وعندما ترى صور الشهداء تتصدر كلّ الجدران وتشم رائحة الدم والبارود والرصاص، وتصغي إلى النساء وحكاية الغيوم التي تبسط يديها في وجه الشمس، ستدرك حينها أنّ هناك تحوّلا في الزمن الفلسطيني، لأنّ جنين ذاكرة مليئة بالأمكنة والمقدّسات، حيث تمتزج الذكريات بالفاجعة، وبآفاق جديدة من الرؤية الأخرى والمعرفة.
لكي تعرف جنين إصغي إلى حديث في المقبرة، قف على رأس مثلث الشهداء لتجد ذاتك المسلوبة بين الأنقاض تحت حجارة البيوت المدمرة، هناك غضب وفقر ونيران وجثث، هناك كلام لم يقرأه الكثيرون، أحلام نهبها الموت وجنازير السلام المخادع والمواد المتفجرة.
لكي تعرف جنين سر في شوارعها وخريطة جسدها حفرة حفرة، خندقا خندقا، أطفال ينامون في أحضان الغبار، يبدو أنّ الموت اختار جنين هذه السنة، بكاء الحجر وشهيق الجدران، صمت الهواء وصراخ الشجر، هياكل بشرية ممزقة، أشلاء مبعثرة، أجساد محترقة، حينها ستعرف كلّ الدروب التي تقودك إلى الحرية، هذه الحرية التي تقول لك: ربما مت لكنك في جنين لازلت حيا.
اذهب إلى جنين، تدرك كم العالم ضيق، وأنّك الهامشي المنذور للذبح على يد جيش لا يتقن سوى الذبح، محاصر في اللغة، محاصر في كلّ شيء حتى في السجن أو في الموت وكمية الهواء، في البصر والبصيرة، أين الوطن؟ يسأل الشهيد ذلك السياسي وهو يحفر قبر شهيد آخر، عندما يسقط غصن الزيتون الأخضر من يدك اليمنى وقد أسقطوه، ماذا تفعل يدك اليسرى التي تحمل البندقية؟
اقرأوا يوما واحدا من أيام جنين الدامية، يوم 28/9/2022، أكثر من أربع ساعات من القتل، استشهاد 4 مواطنين والعشرات من الجرحى النازفين، جرافات عسكرية، سلاح الهندسة، طائرات الأباتشي، فرق الاغتيال، طائرات مسيرة، كلّ شيء تجمّد في جنين، المواعيد والأعراس والمواليد، الدخول والخروج، النوم واليقظة، دماء في الشوارع وعلى عتبات البيوت، أجسام ممزقة، صراخ في البيوت والمستشفيات وغرف الموتى وكتب المدرسة، وحوش الاحتلال جميعها تحتشد على بوابات جنين، تنتظر خائفة أن تختفي جنين وتحدث معجزة.
جنين تخترق الحدود المكانية والسياسية وتقلب اللغة السائدة، حكم ذاتي صهيوني أملي علينا ثقافة وفكرا لا يتخطى السياج والمسامير التي دقت في هياكلنا وعقولنا، سقف حديدي فوقنا وحولنا، لا بحر ولا شاطئ للدولة الفلسطينية القادمة، لا بساتين ولا تنمية ولا يقين ولا سيادة، لا قصائد تذكّرنا بحيفا والناصرة، تحويل البشر إلى مجرد أشكال متحركة، يلطمها هذا الحاجز أو تبتلعها تلك المستوطنة.
جنين تقاتل وتقول ما قاله الله سبحانه “فذكّر إنّما أنت مذكّر”، إذا سقطت جنين، سقطت كلّ المدن والمعاني، أين العلاقة بين جنين وسائر المدن الأخرى والعالم؟ هي التي توزّع إرادة جسمها إلى الجسوم الكثيرة، الشرف والكبرياء والكرامة، لماذا لا تتداعى سائر الأعضاء بالسهر والحمى حول جسد جنين المذبوح؟ الوطن ليس مجرد ألفاظ وما علينا سوى تنظيم طقوس الجنازة.
«فذكّر إنّما أنت مذكّر”، حرب وعدوان على مدينة جنين، هدوء في المدن الأخرى، القنّاص يتنقل من نافذة إلى نافذة، القنّاص على الأرض وفي الجو وفي كلّ الأمكنة، هل حولونا إلى ممالك منفصلة؟ سياسة العصا والجزرة، لا حاضنة ولا مرجعية، أسماء غير متشابهة للصمود والمقاومة، الهلامية، اللامعقولية، المختار والشيخ والقبيلة والجهوية، سوق مفتوحة للقتل أحيانا وللذلّ والعبودية.
جنين.. دم دم.. اقتحامات ومداهمات، اعتقالات وإعدامات، البلاد صارت ساحات للتدريب العسكري، مختبر واسع لكلّ الأسلحة الفتّاكة، المطلوب أن تموت جنين، أن تموت جنين الإنسان، أو أن يصبح مجرد وظيفة بيولوجية، لا وطنية ولا حقوق سياسية وحق تقرير مصير، وإذا أردت الشرعية الدولية أو الحماية فاذهب إلى ذلك الوهم الذي يسمى الأمم المتحدة.
جنين تقسم “والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب”.. شهداء يطرقون بوابات الليل الثقيل، فدائيون نجوم مضيئة ثاقبة تخترق الظلام والقهر، توصل الأرض بالسماء، كلّ شهيد يضيء، يدقّ الأبواب الموصدة، نور على نور، وشجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، كوكب دريّ، زلزلة فلسطينية كأنّه وعد الآخرة.
جنين، والسماء والطارق.. عمّموا جنين على القلب والمشاعر والعقل والساعدين حتى تصير أغنية، عمّموا جنين على الأفق السياسي المغلق حتى يستيقظ الغافلون على صوت دبابة وجنود وكلاب تقتحم أحلاما مخدرة ونائمة.
جنين، والسماء والطارق، والذي خلق البرق والرعد والزلازل، والذي أعطانا هذه الأرض مباركة كلّها منذ أول الخليقة: الحجارة والزراعة والصناعة والعبادات والشرائع والجمال والحب والأنبياء والنساء والمقاومة، شرعية التاريخ والوجود والحرية والكرامة، الحضور العالي لا يعرف التنازل أو المساومة.
جنين، والسماء والطارق، هذا قسم من أجل فضاء وصل إليه ستة أسرى بعد أن حفروا ذلك النفق، من أجل مخيم يبحث عن ظلاله في أشباح قراه المدمرة القريبة والبعيدة، جنين وحدها ولكن من أجلنا جميعا، لازالت ترفع صور ياسر عرفات وعز الدين القسام وأبو جندل، الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة تطلّ علينا من تحت تلك الزيتونة، الرصاصة الغادرة كانت في الرأس، لكنّ الأعاصير قادمة من رأس السماء ونجومها الثاقبة.