مِن ساحات الوطن الذي يرقب زفّةَ الكبش المُكحَّل الشهيد، والذي كسرَ بقبضته الهواءَ الفاسدَ، واجترح المعجزة، وقهرَ العنصريةَ والأبارتهايد، ومن تلالِ البلاد، بعد ثلاثمائة يوم ينوء بمجزرته وموته وحريقه وفنائه وفزعه وسجنه وليله وصراخه وقيوده.
بعد ثلاثمائة ألف شهيد ومفقود ومطمور وجريح، وعلى بُعْدِ نبضةٍ من القدسِ العاصمة، وعلى مَرمى وَردةٍ من عسقلان، ومن ساحات غزّةَ هاشم، أُمِّ الأساطيرِ التي لا تموت، نتوجّهُ إلى أسرى الكرامةِ؛ أرواحِ الأرضِ، أنبياءِ الصبر، الذين أرجعوا لنا مرايا الجبّارين وفجرَ العماليق، وزاوجوا بين الوَّتَرِ والعرين، وأعادوا الفحولةَ إلى الأرجوان تحت أقواس الدم والنار، نقول لهم: إذا خُلِق السجنُ لكم فقد خُلِقتُم للحريّة. وسلامٌ على جوعِكم المقاتلِ، وعلى عطشِكم الجليلِ، وعلى لحمكم الذي يذوب، وأنتم تدافعونَ به عن فلسطين، البعيدةِ عن خطوطِ السُّوءِ والهزيمةِ واليأسِ والإبادة المفتوحة، وتواجهونَ الإلغاء والشطب والفاشية، وانغلاقَ السُبُلِ والضُّمورَ والقضبان، وتقفونَ في وجهِ العَبثِ الدمويّ الاحتلاليِ، الذي يسعى إلى تفريغِ الحركةِ الأسيرةِ من مضامينِها ومحتواها الوطنيِ والإنساني. سيأتي البحرُ ليملأ ضلوعَكم، لتظلّوا زَخمَ الرَّعدِ، والبرقَ المُختَزِنَ في غيومِ السماء، حتى تبقى المعتقلاتُ قِلاعاً، إلى أن ينشقَّ البابُ ويدخلُ النهار، ولترجعَ الحركةُ الأسيرةُ إلى سَبيكَتِها الذهبيّة، تحفظُ مُنجزاتِ الشهداءِ والمناضلين، وحتى لا نستمرئ السّكينَ على رقابنا، أو يشحذونَها على عظامِنا.
نقولُ لكم: لستُم وحدَكم! إنَّ شعبَكم يتنفّسُ في ظهورِكم، ومعكُم المآذنُ والأسوارُ والأجراسُ والرُّضّعُ والهتافُ والمعابدُ والأغاني، وقد أصبحت شوارع الدنيا فلسطينية، تهتف للحياة والحرية، في مواجهة المذبحة والتطهير العِرقي وإعدام القوانين والشرائع.. فلنجعل يوم الثالث من أوت يوماً حاسما ننقشه تضامنا وانحيازاً للضحيّة، التي تسعى للخلاص، وللسجين الذي يتغيّا الحرية البسيطة والعميقة. أيّها الأسرى! إنكم تتربّعون الآن على سِدَّةِ الخلود، في كَعْبةِ الأقوياء وكَرْنَكِ الأشدّاء، ترسمون صورةً بالأمعاء اللّاهبةِ، وماءُ الحرية يبحث عن الظمآنين. ستقهرون الفاشيةَ والسّاديّةَ، ففي صوتكُم دماءُ الشهداءِ، وضحايا غزّة وحجارتها، وصراخُ الجرحى، ونداءُ الأُمّهاتِ، وحِراكُ الميادين والمخيمات، وجرأةُ الموسيقى، وطيورُ النار.
أيّها الأسيرُ، يا ابنَ الناياتِ والشَّجنِ، ويا زهرتَنا الزجاجيةَ وشمعتَنا البابليةَ، يا ابنَ البدايةِ التي لا تنتهي، يا سيّدَ الأعراس، ونشيدَ المتراس، يا انفجارَ الربيعِ وعاصفةَ السنبلةِ، يا بُخارَ جراحِنا ويا خُبزَنا الجَمريّ! سيقرأ أسير، يقبع منذ أربعة عقود في رطوبة العَزْل، حروفَه المأنوسةَ، وسيرفعُ النَّرجِسةَ إلى المُلصقِ، وسيسعى إلى الضوءِ المُشِّعّ والكتابِ القويم وإلى النسَغِ المخبّأ في الجذور، وسيرمي الماسةَ بين الرّحى، حتى يرتجَّ المعدنُ وتتوالى فيه البراكين، ليبلغَ الكَشْفَ..
ومع جُوعِه سيبدأ يومٌ جديد، وهو على صوابٍ إذ يقدِّمُ كلَّ شىءٍ من أجل الحرية، ويمهِّدُ لمنظرٍ ورديٍّ للزمنِ الآتي على سواحل المدن المستباحة. أيّها الأسيرُ! يا أيقونتَنا المخبّأة مثل شمسِ دير البلح في أسوار زهرة المدائن. إنّ إرادَتكم هي إرادةُ النّصر الأكيد. فإن أوغل السجّان في دمكم، وإنْ رفَضَ السجّانُ مطالبَكم الإنسانية العادلة، فهذا يؤكّد زيفِ احتكاره لصورةِ الضحيّة، لأنه الجلاد بامتياز.
وليرى العالمُ جرائمَ هذا المحتلّ، حتى لا يظلّ البعض خاضعاً لابتزازه، أو مصدّقا لدعاويه الملفّقة التي تحارب كلّ ما هو بريء، وتحرق كلّ ما هو طفل وجميل، وتمنع كلَّ لقاء بين الإنسان وأخيه. فهل آن الأوان للعالم لأن يُعيد هذا القاتلَ إلى أقفاص المحاكمة، لما يقترفه من إرهاب منَظَّم، يطال الحياةَ ويلوّثُ المعايير البشرية والمواثيق الدولية.
أيُّها الأسرى! سيشربُ قَرنُ الغزالِ من رِيقِ فولاذكم، ويطلعُ الزَّعترُ من ملحِ نارِكم، وسيأتي الفجرُ من رَنَّةِ الصحونِ الفارغةِ على رفوفِ الصدى.
إنّ شرارةَ ثباتكم الفذِّ المتواصلِ ستقودُنا إلى السَّرْجِ من جديدٍ، وستؤَصِّلُ لمرحلةِ الحُريّةِ المُشرعةِ، ولن نصعدَ، ثانيةً، إلى الجُلجلةِ، وسنفرشُ دربَ آلامِكم بالشقائقِ والحَبَقِ، وسترفعُ الشرفاتُ مناديلَها في زفّاتِ القمرِ الطليق. أنتم لَحمُ الشمسِ ونبضُ البركانِ ورجّةُ الغناءِ الذي سيلدُ البقاءَ. نقول لجلّادِكم، الذي يغتصب ويجوّع ويشقق الشفاه عطشا، ويدبّغ الأجساد قيداً وحرقاً، ويَسجِنُ حتى الجثثَ، في مُدنِ أسواره الجهنميّةِ وباستيلّاتِه النازيّة: كِلانا، أيّها المُحتلُّ يعرف الموتَ، لكنَّ واحداً منّا يعرف الحياة. إنّه الأسيرُ، الذي لن يسمحَ لِزَمَنِكُم لأنْ يقدَّ أثوابَه السوداءَ من أعمارنا، فهو على يقينٍ بأنّ كلَّ هذه الآلامَ ستصبحُ حريةً، وإنْ اقترفتم ألفَ مذبحةٍ في اليوم والساعة.
^^^^^
ونقولُ لأبناء شعبنا الراسخين، في مدن المجزرة الهمجيّة في قطاع غزّة الصابر المقاوِم، إنّنا ننتظر العيد الآتي من مشهد المناجزة المستحيلة. ونقول لأبناء شعبنا وأُمّتنا، ولشعوب العالم في كلّ مكان: إنّ هذا العُرْسَ الصوفيّ والأَلَقَ الخارقَ لا يكتمل إلا بالتحامِكم مع الحقّ والعدل والأحلام، وأنتم تشاهدون فظاعات الاحتلال الصهيوني اليومية، على امتداد فلسطين، وفي أقبية القيود المرعبة، والمذبحة ما زالت في أوجها.. فلنقف مع غزّة حتى لا نخذلها، ومع الأسرى، حتى لا نخذل أنفسنا وقيمنا، فقد اتّسع القيدُ حتى احتلّ مساحة البلاد، في العتمات المقيّدة.
نتمنى أن تُعلنوا انضمامَكم فوراً إلى هذه الملحَمة الفارِقة، ولا تتركوا خاصرةَ الأسرى مبذولةً للطعنات. ونتمنّى على العالَم ومؤسّساته الحقوقية والإنسانية أن يُعيدَ للسيدة العمياء، العدالةِ، بصرَها وبصيرتَها، حتى لا يظلّ القاتلُ دون مساءلةٍ وحساب. من غزّة وُلِدَت الكرامة، ومن المعتقلات جاءَت الحريّة، فكانتِ الأسطورةُ التي مات فيها الغولُ وغابَ السُّكوت. وهنا؛ نشكرُ كلَّ الذين أضربوا وهتفوا وتضامنوا وخرجوا وأعلنوا، وما زالوا يقفون بجسارة وإنسانيّة ورحْمةٍ، في كلِّ الدنيا، مع غزّة والأسرى. ولتتعاظمَ تجلّياتُ المساندةِ في كلّ الجهات.
ونعلن هنا؛ أنّ الأُمّةَ والشعبَ والبيوتَ والقبابَ، والزيتونَ المُستوي على عَرْشِه الأبديِّ، وهي تتماهى مع جُمْوعِ الشّعب، تقبضُ على جَمرةِ الثوابت الوطنية، وتؤكّد على حقوقنا غير القابلة للتصرّف، وكلُّنا ثقةٌ بأنَّ أهلنا في غزّة والقدس ويافا وجنين، سيبقى حارساً أميناً، حتى تنقشعَ المَقْتَلةُ الهوجاءُ، وينأى آخرُ احتلالٍ عن أرضنا، وتنفتحَ أبوابُ القلب، ونعبرَ من رِبْقةِ الحسرات، إلى فضاءِ فلسطين الوهّاجِ بالألوان.. وستكون أيادي المقاومين في خان يونس ونابلس وحيفا وطولكرم ورفح، مع تشابك ذراع الأسير، أقواساً للغارِ وشبابيكَ للحياة، التي سنعبرها، غير منقوصين، بكاملِ الحرية والكرامة.
قد يتعب المدفع، لكنّ غزّة لن تهدأ، وقد يتعب الحديد، لكنَّ الأسرى لا يتعبون ! إنّهم يرسمون السماءَ ثم يهبطون بها إلى الأرض، يُرَوّضون الهواءَ المتوحّش ويحبّون الأرض، وحكمتُهم البالغةُ تقول: إنَّ ما يريده أيُّ دمٍ هو ألّا يُسْفَك، ومن الدمِ يأتي دمٌ جديد.
ستظلّ عيونُ الأسرى تلتمعُ وسط الظلمةِ، سيضربون بالرّعدِ، وستتألّقُ وجوهُهم مثلَ نارٍ تتأجّج، كلماتُهم حيّة، وقد كتبوا شغفَهم على قُمصان السَّحاب، ونقشوا انتصاراتِهم على حيطانِ الهواء، فلتأخذُهم الوردةُ نُسوراً إلى الشمس، ليظلَّ مجراهُم سماوياً، ويبشّرونَنا بالخلاص، وعندها سنطلقُ الحَمامَ وندحرجُ الرّمانَ المصهورَ، وننتحبُ من عطشِ العشقِ السرمدي.
عاشت فلسطين وعاش اسمُها الجديد: غزّة المجد وأسرى الحرية، أيُّها الأسير الحُرُّ الجَسور، فالنصرُ لغزّة، والفضاء لك.