صعّدت قوات الاحتلال الصهيوني وأجهزتها الأمنية حملات الاعتقال التي تشنّها في الأرض الفلسطينية المحتلة، والتي اتسع نطاقها منذ بدء الحرب الانتقامية على قطاع غزة؛ إذ اعتقل الفلسطينيون رجالا ونساء وأطفالا. وقد رافقت عمليات الاعتقال حملات اقتحام عدوانية وشرسة، تخللتها تحقيقات وإعدامات ميدانية، فضلاً عن الاعتداءات على المعتقلين وأفراد أسرهم بالضرب المبرح، والتنكيل بهم، وإشاعة الرعب بينهم، وتخريب المنازل وتدميرها، ومصادرة الأموال والمركبات.
ونجم عن أعمال القمع الوحشية في حق المعتقلين الفلسطينيين، وإخضاعهم لظروف اعتقال صعبة، وإساءة معاملتهم، وفاة العشرات منهم داخل سجون الاعتقال ومعسكراته في ظروف غامضة. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة هآرتس الصهيونية معطيات تتضمن وفاة 27 معتقلاً من قطاع غزة في المنشآت العسكرية الصهيونية في أثناء احتجازهم في معسكري سدي تيمان بالقرب من بئر السبع، وعناتوت» الواقع شمال غربي القدس، أو في أثناء استجوابهم في مرافق أخرى داخل الكيان الصهيوني. ولم يقدم الجيش الصهيوني بيانات عن ظروف وفاتهم، لكنه ادعى أن بعضهم أصيبوا في القتال، وأن آخرين عانوا حالة طبية معقدة قبل اعتقالهم.
يتعرض المواطنون الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، عرب 48، إلى سياسة تنكيل وقمع، أيضًا، بهدف ترهيبهم وإسكاتهم. فهم يواجهون، منذ 7 أكتوبر، حملة إسكات وقمع شعواء من جانب أجهزة الأمن الصهيونية، ويتعرضون للاعتقال التعسفي والتشهير الممنهج لمجرد التعبير عن آرائهم في الحرب على قطاع غزة، وإدانة الهجمات الصهيونية الوحشية التي تستهدف المدنيين الأبرياء، أو بمجرد إبداء تعاطفهم مع أبناء شعبهم في غزة، أو الحديث عن العقوبات الجماعية وجرائم الحرب، أو تناقل الأخبار حول ما يحدث فيها. وتتهم السلطات كل من يعبر عن رأيه، سواء كان ذلك من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو المشاركة في وقفات احتجاجية، بانتهاك القوانين الصهيونية ودعم تنظيمات مصنفة “إرهابية”!!، وبالتحريض على الإرهاب!!.
تستعرض هذه الورقة سياسة التنكيل والانتقام التي تستهدف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون ومراكز الاعتقال الصهيونية المدنية والعسكرية، في ضوء القانون الدولي الإنساني والمعايير الدولية الحقوق الإنسان، حيث يعانون ظروفا معيشية وصحية صعبة، منذ بدء الحرب الانتقامية ضد الفلسطينيين على قطاع غزة، تتمثل في معاملات وظروف احتجاز غير إنسانية، إضافة إلى أنهم يتعرضون لعنف شديد وإساءة معاملة من أجهزة الأمن وإدارة السجون الصهيونية.
تـنـكيل ممـنهج وظـروف احـتـجـاز قـــاسـيـة
أظهرت المعطيات الرسمية التي نشرتها مصلحة السجون الصهيونية، في نهاية فبراير 2024، ما يلي: 9312 أسيرًا أمنيا في السجون والمعتقلات الصهيونية، منذ بداية أبريل 2024؛ يحتجز الكيان الصهيوني 2071 أسيرا محكومًا و2731 أسيرًا موقوفا و3661 معتقلاً إداريا تحتجز 849 ممن تصنفهم مقاتلين غير شرعيين. وتشير الدلائل كلها إلى أن أوضاع الأسرى والمعتقلين الأمنيين قد تدهورت على نحو مريع منذ اندلاع الحرب الانتقامية على قطاع غزة؛ إذ يعانون ظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية، في حين تعتمد إدارة السجون سياسة أطلقت عليها «القفل» لعزلهم عن العالم الخارجي، وتقييد حركتهم داخل السجون ومراكز الاعتقال، وذلك بموجب أمر مؤقت» جرى تمديده 12 مرة متتالية.
وتمنع إدارة السجون وأجهزة الأمن اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارة السجون ومراكز الاعتقال من أجل التستر على أوضاع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين - الأمنيين والجنائيين - داخل السجون ومعسكرات الاعتقال، بمن فيهم الأطفال والنساء، ومن بينهم آلاف المعتقلين منذ ما قبل أحداث 7 أكتوبر. ففي 18 يناير 2024، نشر وزير الأمن الداخلي الصهيوني إيتمار بن غفير على حسابه في منصة «إكس» نصا قال فيه إنه لا يجوز للصليب الأحمر أن يتلقى معلومات عن مقاتلي حماس المسجونين في الكيان، وتشير كل المعطيات إلى ارتفاع ملحوظ في عدد المعتقلين الأمنيين في السجون ومراكز الاحتجاز الصهيونية منذ 7 أكتوبر، في حين ازدادت معاناتهم من جراء ما يتعرضون له من سياسة تنكيل ممنهج وعنف الشديد وإذلال في إدارة مصلحة السجون، وفي المنشآت العسكرية.
وساءت ظروف الاعتقال كثيرا بسبب الاكتظاظ داخل السجون ومراكز الاعتقال، وفرضت قيوداً جائرة على حركة الأسرى والمعتقلين داخل السجون إذ بات حصولهم على الخدمات الطبية والعلاج محدودًا جدًا، كما أنهم يجبرون على النوم على الأرض. إضافةً إلى ذلك، وبسبب الحرب، أصبح تواصل العائلات مع الأسرى، وخاصة من قطاع غزة، غير ممكن؛ إذ يخشى أهالي المعتقلين والسجناء من التوجه إلى المحكمة نيابة عن أقاربهم خوفا من التعرض للتنكيل والانتقام من سلطة الاحتلال وأجهزتها الأمنية.
بحسب كل الوقائع، لا يمكن إخفاء سياسة الانتقام من المعتقلين الفلسطينيين والتنكيل بهم وقمعهم فقد أظهر تقرير خاص، أعدّه مكتب مراقب الدولة الصهيوني عن حالة الطوارئ في السجون ومراكز الاحتجاز الصهيونية بعد الحرب، أن ظروف حبس الأسرى الأمنيين في منتهى القسوة. وأعد التقرير، استنادا إلى الزيارات الرسمية التي قام بها مكتب مراقب الدولة للسجون؛ إذ تكشفت له صورة قاتمة من الضرر والخطر غير المسبوق الذي يلحق بالمعتقلين والسجناء الأمنيين، والذي يتمثل، من بين أمور أخرى، في الاكتظاظ الذي لا يطاق، والظروف الصحية السيئة، وقلة النظافة، ومشكلة الآفات، وظروف التهوئة غير الكافية، ونقص المعدات الأساسية للسجناء وغير ذلك.
وقد أفاد سجناء التقاهم مراقب الدولة، خلال تفقده السجون، أن قوات الأمن صادرت منهم معداتهم الشخصية، بما في ذلك ملابس وصور لأفراد أسرهم، في حين بقي معتقلون بالملابس نفسها طوال 24 يوما. ومما ورد في التقرير، أيضًا، أنه يجري في مركز الاحتجاز في القدس (المسكوبية) قطع التيار الكهربائي عن الزنازين يوميا من الساعة الخامسة صباحًا إلى الساعة التاسعة مساءً، وهكذا، يمكث الأسرى طوال النهار في الظلمة ويتناولون وجباتهم في الظلام أيضًا، وتنتزع منهم الفرش والبطانيات خلال النهار، ويمنعون من الخروج إلى باحة السجن، وقد قال بعض السجناء إنهم “لم يروا النور طوال أيام اعتقالهم”.
دفعت ظروف احتجاز الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين المهينة والقاسية منظمات حقوق إنسان عديدة إلى تقديم التماسات إلى محكمة العدل العليا الصهيونية للطعن في سياسات الاعتقال والاحتجاز التي تنتهجها سلطة الاحتلال وأجهزتها الأمنية، مطالبة بالكشف عن مصير المعتقلين والأسرى من سكان غزة تحديدًا، وظروف اعتقالهم. ومن ضمن ذلك التماسات أربعة تتعلق بإحضار محتجزين أمام القضاء للنظر في مشروعية سجنهم أو احتجازهم. إلا أن المحكمة رفضت كل هذه الالتماسات غير آبهة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان؛ ما يعزّز المخاوف الناجمة عن احتجاز الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في ظروف غير إنسانية، ويعرضهم للانتقام والعقاب الجماعي على نحو يهدّد سلامتهم وحياتهم. وقد قدمت العديد من منظمات حقوق الإنسان الصهيونية التماسًا إلى محكمة العدل العليا، طالبت بموجبه السلطات تزويد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمعلومات عن الأسرى والمعتقلين، وزيارتهم للتحقق من ظروف احتجازهم وإبلاغ عائلاتهم عن الأماكن التي يوجدون فيها وظروف احتجازهم، ولم تنظر المحكمة في هذا الالتماس حتى الوقت الحالي.
منذ اندلاع الحرب، جرى عزل عدد كبير من المعتقلين الأمنيين، وفصلهم كليا عن العالم الخارجي، وهم ممنوعون من التقاء محاميهم. وتتوافر لدى جمعية حقوق المواطن شهادات دالة على انتهاكات لحقوق الأسرى والمعتقلين الأمنيين، بما فيها تعرضهم للضرب المبرح والإذلال والازدراء.
وتوجد تقارير تفيد أن جهاز الأمن الصهيوني «الشاباك» يحتجز معتقلي حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في الظلام منذ 7 أكتوبر، في وقت يظلون يسمعون فيه، طوال النهار، النشيد الصهيوني، ويتعرضون لوابل من الإهانات والشتائم من السجانين.
وقد جاء في الالتماس الذي قدمته جمعية حقوق المواطن إلى جانب أطباء ينتمون إلى منظمات حقوق الإنسان، وآخرين، إلى محكمة العدل العليا الصهيونية، في 24 فبراير 2024، أنه توفي - على سبيل المثال - ستة سجناء لدى مصلحة السجون، وتوفي آخر يبلغ من العمر 38 عاما في سجن «كتسيعوت» في النقب من جراء تعرضه للضرب المبرج على أيدي السجانين، وذلك بحسب شهادات شركائه في الزنزانة. وتفيد التقارير أنه ظهرت علامات المرض والعنف على الأسرى والمعتقلين بسبب ظروف الاعتقال اللاإنسانية والتعذيب وإساءة المعاملة، إضافةً إلى حرمانهم من تلقي الرعاية الطبية الكافية على أثر تقليص العلاجات الطبية المتاحة للأسرى، ورفض بعض المستشفيات في الكيان الصهيوني علاج الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين بتوجيه من وزارة الصحة.
لا تقتصر ظروف الاحتجاز الصعبة واللاإنسانية على المعتقلين الفلسطينيين الذكور، بل تشمل النساء والأطفال، إذ تحرم عشرات الأمهات الفلسطينيات المحتجزات من البقاء مع أبنائهن الصغار. فالاحتلال يعتقل نحو 80 أسيرة في سجونه حتى يومنا هذا في ظروف صعبة جدا، ولا يشمل ذلك أسيرات غزة المعتقلات في المعسكرات. وتتعرض الأسيرات والمعتقلات الفلسطينيات، بعد 7 أكتوبر، لاعتداءات كثيرة كالقمع، والعزل الانفرادي، والتجويع والتعطيش، إضافة إلى التحرش، والتفتيش العاري، والشتم ومصادرة المقتنيات. والحرمان من كل الحقوق”. ويتعرض الأسرى والأسيرات من قطاع غزة للإخفاء القسري، ولا تتوافر معطيات دقيقة عن أعداد المعتقلين والمعتقلات من قطاع غزة حتى الآن، في حين أدلت عشرات النساء، بعد الإفراج عنهن، بشهادات مرعبة بشأن ما تعرضن له من عمليات إذلال وتنكيل وحرمان من حقوقهن، خلال عمليات اعتقالهن ونقلهن إلى المعسكرات؛ فقد تعرضن للتهديد بالاغتصاب، وتعرضن كذلك للتفتيش العاري المذل والتحرش، فضلاً عن الألفاظ النابية والشتائم من جنود الاحتلال، وإجبارهن على خلع الحجاب طوال فترة الاحتجاز.
لا تقتصر سياسة الاعتقال والقمع والترهيب التي تنتهجها السلطات الصهيونية وأجهزتها الأمنية على سكان الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بل إنها تشمل أيضًا عرب 48، بهدف إسكاتهم ومنعهم من الاحتجاج على الحرب الانتقامية ضد قطاع غزة وجرائم الإبادة في حق سكانه المدنيين، أو منعهم حتى من إبداء أي نوع من التضامن مع أبناء شعبهم. وقد رصد المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في الكيان الصهيوني «عدالة» بالتعاون مع لجنة الطوارئ المنبثقة من لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، في الفترة 7 أكتوبر - 13 نوفمبر 2023، نحو 251 حالة اعتقال وتحقيق وتحذير من جانب أجهزة الأمن، من بينها 68 حالة خاصة بالنساء. والواضح أن هذه الممارسات تستهدف ردع الفلسطينيين في الداخل لمنعهم من تنظيم أي مظاهرة أو اعتصام ضد الحرب على قطاع غزة، أو المشاركة في ذلك، أو استخدام شبكات التواصل الاجتماعي للتعبير عن إدانتها.
ووفقًا للمعطيات التي توافرت لدى مركز عدالة، جرى تقديم 76 لائحة اتهام ضد فلسطينيين وفلسطينيات من داخل الخط الأخضر بتهمة دعم منظمات إرهابية» بموجب المادة 24 (1) والتحريض على الإرهاب بموجب المادة 24 (ب) من قانون مكافحة الإرهاب!!.
من يحمي الأسرى والمــعتـقلين الفلسطينيين؟!
يوفر القانون الدولي الحماية للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني: إذ تكفل المعايير الدولية لحقوق الإنسان معاملة لائقة تحترم الكرامة الإنسانية لجميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي نوع من أنواع الاحتجاز أو السجن.
ومن غير الجائز تقييد أي حق من حقوق المحتجزين تحت أي ظرف إلا بموجب أمر صادر عن سلطة قضائية، مع مراعاة أوضاع النساء واحترام حقوقهن، ولا سيما الحوامل والأمهات والمرضعات، ومراعاة الأطفال والأحداث، والمسنين، والمرضى، والمعوقين أيضا. وتسري هذه المعايير على الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الموجودين في السجون ومراكز الاحتجاز الصهيونية بالنظر إلى أن الكيان الصهيوني دولة احتلال، يقع عليها التزام بتطبيق المعايير المنصوص عليها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويكفل القانون الدولي الإنساني بشقيه التعاقدي والعرفي الحماية للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين المحتجزين في السجون ومعسكرات الاعتقال الصهيونية ما يحتم على دولة الاحتلال احتجازهم في ظروف إنسانية لائقة، وتوفير كل الخدمات الصحية لهم، وكميات كافية من الغذاء، والسماح لهم بالتقاء محاميهم وتزويد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتفاصيل حول اعتقالهم، وتمكين ممثليها من زيارة السجون ومراكز الاعتقال للتحقق من أوضاع الأسرى والسجناء وظروف احتجازهم.