الكفاح المسلح على جدواه و أهمّيته في تحقيق النّصر و استعادة الأرض المغتصبة ،لم يكن كافيا وحده ليقود الجزائر إلى الاستقلال ،فمثلما كانت حرب التحرير بحاجة إلى السلاح و إلى مجاهدين أشاوس لاستعمال هذا السلاح في ساحات الوغى ، كانت أيضا بحاجة لمعركة موازية تخوضها وسيلة مقاومة أخرى ألا و هي الدبلوماسية التي أخذت آلتها تشقّ طريق التدويل الصّعب و تنتزع الاعتراف و التأييد و الدّعم من هذه الدولة و تلك المنظمة و المجموعة ، إلى أن أصبحت القضية الجزائرية حاضرة في كلّ المحافل وصوتها يصدح من على كلّ المنابر و الفضل الكبير في بلوغ هذا النجاح يعود لرجال قادوا النضال السياسي الخارجي بحنكة فكانوا دبلوماسيين بالفطرة لم يتخرّجوا من مدارس و لا معاهد لكنّهم ربحوا رهان تدويل القضية الجزائرية العادلة و أوصلوها إلى الأمم المتحدة ثم إلى الحرية.
باندونغ ..من هنا بدأ التدويل
كثيرون يؤرّخون لانطلاق المعركة الدبلوماسية ، بميلاد الحكومة المؤقتة في 19 سبتمبر 1958 أي بعد ثلاث سنوات من اندلاع ثورة التحرير المظفرة، لكن الحقيقة أن قادة مسيرة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي أدركوا منذ البداية أن الثورة تقوم على دعامتين ،عسكرية و دبلوماسية ،و على معركتين، داخلية و خارجية ،لهذا تمّ التوجه إلى الساحة الدولية بأهداف محدّدة ، لعلّ أهمها ،هو تدويل القضية الجزائرية من خلال ربح أصدقاء و مساندين ، وكسب الرأي العام العالمي من خلال كشف ما يتكبّده الجزائريون على يد السفّاح الفرنسي،و عزل الاستعمار سياسيا و إنهاكه إعلاميا.
وكان مؤتمر باندونغ الآفرو –آسيوي المنعقد ما بين 18- 24 أفريل 1955 أي بعد أقل من سنة عن اندلاع الثورة المجيدة ،أول محفل تدخله القضية الجزائرية ، وتوّج هذا المؤتمر الذّي اعتبره البعض بمثابة نوفمبر جديد على المستوى الدولي، ببيان ختامي شدّد على حقّ الشعب الجزائري في تقرير مصيره ،و من هنا كانت الانطلاقة بدعم من الأشقاء و الأصدقاء لإدخال القضية الجزائرية إلى المنتظم الأممي ،وعلى الرغم من أن مسار التدويل كان شاقا و ملغّما ،و طريق الشرعية مسدود بالمتواطئين مع فرنسا الاستعمارية ، إلاّ أن قضية الجزائر تمكّنت في شهر جويلية 1955 من اختراق أسوار الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الــ 10 بدفع من مجموعة دول أفرو ــ آسياوية ،وبالرغم من عدم قبول تسجيلها رسميا في هذه الدورة بعد انسحاب الوفد الفرنسي غاضبًا ومُحتجًّا بذريعة أنّ “قضية الجزائر هي مسألة داخلية فرنسية”، فإن دبلوماسيي الثورة لم يستسلموا لميزان القوّة الذي لم يكن في صالحهم ،و خاضوا معارك صعبة وشاقة انتهت بانتصار قوّة الحق على حقّ القوة ، وكُلّلت جهودهم بتسجيل القضية رسميا على جدول أعمال الجمعية العامة الأممية، قبل أن تباشر الأمم المتحدة في جوان 1956 مناقشة قضية الجزائر ، لكن وصول المسألة الجزائرية إلى المنتظم الأممي على أهمّيته لم ينصف الجزائريين الذين كان عليهم البحث عن هيكل ينظّم النضال السياسي ويؤطر العمل الدبلوماسي ، فكان الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقّتة في 19 سبتمبر 1958، والذي جاء أيضا ليرفع من معنويات الشعب الجزائري على اعتبار أن تشكيل الحكومة سينظر إليه كمؤشر عن قرب الاستقلال .
الحكومة المؤقتة..وثبة إلى الأمام
جاء تشكيل الحكومة المؤقتة ليُعطي للقضية الجزائرية زخما ودفعًا قويًّين، حيث قامت الحكومة عبر عشرات المكاتب التي افتتحتها لدى الدول الشقيقة والصديقة ، بنشاطات دبلوماسية مُكثفة في أنحاء العالم توّجت بكسب مزيد من المتعاطفين و الداعمين لتقرير المصير.
وشرع محمّد الأمين دباغين الذي عيّن وزيرا للخارجية في أوّل تشكيلة للحكومة المؤقتة ما بين 1958 و 1960 في جولات خارجية فضحت مناورات المستعمر و مخططاته المخادعة ، بدءا بسلم الشجعان ،وخط شال و موريس و الأسلاك المكهربة ، ثمّ خلفه كريم بلقاسم في التشكيلة الحكومية الثانية ما بين 1960 و 1961 ،و قام بجولات قادته إلى عدد من البلدان على غرار الصين أين استقبل من طرف الزعيم ماوتسي تونغ ،كما زار بلدانا عربية عديدة ،و قد أثمرت هذه الزيارات زيادة حجم المساعدات المالية و العسكرية للثورة التي ارتفع لهيبها و جعلت الاستعمار يخرّ صاغرا منهزما بعد أن انكشفت عورته و انفضّ الكثير من حلفائه.
فرنسا تنهزم وتقبل التفاوض
نتيجة لتناغم الأداء بين الداخل والخارج، تحققت الانتصارات المتتالية التي كان لها آثار موجعة ومؤلمة على فرنسا الاستعمارية سواء بضـربات الكفاح المسلح في الداخل أو على مستوى الأداء المميز لمناضلي دبلوماسية الثورة في الخارج، وأدّى ذلك إلى إسقاط 7 حُكومات فرنسية من نوفمبر 1954 إلى ماي 1958 ،و في الأخير اضطر الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول ،الذي استعمل يائسا كل الوسائل و الطرق لمحاولة إجهاض الثورة ،و ظلّ متمسّكا بحدود فرنسا من بحر الشمال شمالا إلى بحر الرمال جنوبا ،للاعتراف بجبهة التحرير الوطني ممثلًا وحيدًا للشعب الجزائري و قبل التفاوض معها في خطاب ألقاهُ في جوان عام 1960، بعد أن فشل فشلًا ذريعًا في إقحام ما أسماها بالقوة الثالثة في التفاوض وهو ما رفضتهُ جبهة التحرير الوطني رفضًا قاطعا، وكذلك رفضت فكرته المعروفة بسلم الشجعان الذّي كان مضمونه أن يضع جيش التحرير الوطني سلاحهُ ويتم بعد ذلك التفاوض.
طريق المفاوضات شاق لكنه مثمر
في لحظة تاريخية فارقة ،وجّه ديغول نداء لقادة الثورة و طلب منهم الحضور إلى فرنسا بقصد التفاوض ،و كانت البداية ب “محادثات مولان” ،و في 20 ماي 1961 انطلقت “مفاوضات إيفيان” الأولى ،تلتها “إيفيان الثانية “ ما بين 7 و 18 مارس 1962،و عشية 18 مارس وقّعت اتفاقيات إيفيان على الساعة الخامسة و النصف مساء و دخل وقف إطلاق النار حيّز التطبيق في منتصف اليوم الموالي.
وعرفت العملية التفاوضية عدة مراحل كما شهدت عثرات عدة بسبب تعنت الطرف الفرنسي وتمسكه بقضية فصل الصحراء والامتيازات التي حاول فرضها على المتفاوضين، غير أن حنكة الوفد الجزائري الذي كان يرأسه كريم بلقاسم تمكن من ترويض لويس جوكس في مفاوضات إيفيان الأولى و الثانية وانتزع منه توقيعا على وقف القتال.
هذا الاتفاق لم يرض أطرافا فاعلة في الجيش الفرنسي ومنهم السفاحين رؤول سالان، ادموند جوهو، اندري زيلر وموريس شال الذين شكلوا المنظمة العسكرية السرية والتي كان الهدف من إنشائها الوقوف ضد هذه الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة الفرنسية وممثلي الحكومة الجزائرية المؤقتة.
ودعا الجنرال سالان في 5 جانفي 1962 الأقدام السوداء للانتفاضة والمحافظة على أملاكهم المكتسبة بالقيام بعصيان مدني ليدخل البلاد في حرب لا نهاية لها، كما دعا كل العسكريين الموالين له للقيام بعمليات تخريبية وتصفيات جسدية لكل من يدافع عن رحيل القوات الفرنسية من الجزائر، فعاشت المدن الكبرى للجزائر ولاسيما العاصمة ووهران عمليات تخريبية عديدة.
و مع هذه الأجواء جرى استفتاء تقرير المصير بالجزائر في الفاتح جويلية 1962 وأعلنت النتائج في اليوم الموالي وبينت أنّ 97.5 % من المشاركين أيّدوا الاستقلال، ويوم 3 جويلية 1962 أعلن الرئيس الفرنسـي الجنرال ديغول الاعتراف رسميًا باستقلال الجزائر واختار قادة الثورة وقتها يوم 5 جويلية 1962 تاريخا رسميا لإعلان الاستقلال لأنّهُ يُصادف ذكرى الاحتلال الفرنسي للجزائر يوم 5 جويلية 1830 لمحو هذه الذكرى الأليمة وتكريس استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية.
يوم النّصر
ليل الاستعمار كان طويلا وحالكا بمظالمه و انتهاكاته،لكن النّصر كان قدر الجزائريين الذين لم يتوقّفوا يوما عن مقاومة العدو الغاصب، و استطاعوا أن يصنعوا واحدة من أعظم الثورات في العالم و أنجحها .
إنّ النصر الكبير الذي تحقّق في الخامس جويلية 1962 ، لا يعود فقط إلى الكفاح المسلّح بل كذلك إلى العمل الدبلوماسي ،و إلى ذلك التنسيق و التكامل بين النضال الخارجي و الكفاح العسكري ،فالآلة الدبلوماسية كانت تتحرّك بالتنسيق مع الآلة العسكرية ،و كلّما كان الاستعمار يضيّق الخناق على إحداهما ، كانت الأخرى تسارع إلى نجدتها ، فمثلا ،عندما كان المفاوض الفرنسي يشدد الضغط على المفاوض الجزائري ،كانت الثورة تكثّف ضرباتها لتفكّ هذا الخناق ،و لمّا كانت الثورة تتعرّض للمصاعب، كانت الآلة الدبلوماسية تتحرّك خارجيّا بشنّ حملات إعلامية ضدّ العدو .
النجاح الدبلوماسي بإعلام قويّ
وعلى ضوء الحديث عن الحملات الإعلامية التي اعتمدتها الدبلوماسية الجزائرية لكسب معركة الخارج ، من المنصف التذكير بالدّور الذي لعبته إذاعة “ صوت الجزائر” في التعريف بالقضية الجزائرية و الدفاع عنها.
وراهنت دبلوماسية الثورة منذ البداية على ربح معركة الخارج من خلال التعريف بعدالة المسألة الجزائرية ،و كسب مزيد من المتعاطفين ،ثمّ و هو الأهم ،تدويل القضية و إيصالها إلى الأمم المتحدة .
المهمّة على صعوبتها اضطلعت بها إذاعة “صوت الجزائر” التي كانت تبث برامجها باللغة العربية من مصر، و ظلّت هذه البرامج تذاع حتى بعد إنشاء الإذاعة السرية للثورة في قلب الجزائر عام 1957،كما كانت إذاعات الدول الصديقة تذيع أخبار حرب التحرير بلغات متعددة ،و قد خدمت هذه البرامج الإذاعية الثورة المظفرة و النضال السياسي الخارجي كثيرا ، فكانت أداة فعّالة في غرس روح النضال و رفع معنويات الشعب و إيمانه بالنصر،كما كانت محرّكا أساسيا للعمل الدبلوماسي .
و لإيمانها بأهمّية سلاح الإعلام ،دعمت جبهة التحرير الوطني ترسانتها الإعلامية بإصدار صحيفتين هما “ المجاهد” سنة 1956 و “المقاومة الجزائرية” عام 1955 .
وقد دافعت جريدة “المجاهد” بقوّة عن القضية الجزائرية، حيث أولت اهتماما خاصا بالنشاط الدبلوماسي لقيادة ثورة التحرير، و قامت بتغطية كلّ جوانبه، كما كانت تنقل مختلف النتائج و الانتصارات التي حققتها المعركة الخارجية ،و ساهمت بدورها في كسب مزيد من المؤيدين للقضية الجزائرية و لتقرير مصير الشعب الجزائري حتى تحقّق النصر.