فرنسا تمجّد جرائمها في الجزائر باسم التّحضّر
لم يتغيّر شيء بين 1830 و2021، ففي الأولى احتلّت فرنسا الجزائر بدعوى مشروع حضاري، وفي الثانية ادّعت فرنسا أنّها من أوجدت أمة لم يكن لها وجود - حسبها - قبل أن تدنّس أقدام جنودها أرض الاحرار، الجزائر.
بالرغم من جرائمها الفظيعة «المصنّفة» ضد الإنسانية، إلاّ أنّ ما صرّح به ماكرون أبان عن فرنسا «عميقة» تمجّد ما ارتكبته ضد الشعب الجزائري طوال 132 سنة، بل وتعتبره مشروعا حضاريا أوجد أمة اسمها «ألجيري».
بعيدا عن الضّمير الإنساني استطاع المستعمر الفرنسي بلوغ مرتبة الوحشية بجرائمه ضد الجزائريّين العزل، ومنذ أن دنست أقدام جنوده أرضهم لم يتوان قادة جيشه في ممارسة كل ما جادت به مخيلتهم «الإجرامية» لسلب ثروات وخيرات الجزائر باسم بهتان تاريخي اسمه «التّحضّر»، هي جرائم «تفنّن» الفرنسيّون في صياغة أساليبها لدرجة «التلذذ» بهدر دم من كانوا يطعمونهم لقرون طويلة قمحا.
«مهمّة» بيجو
من حرب إبادة لوجود مادي هو الأرض والشعب إلى إبادة لوجود معنوي هو الهويّة الجزائرية، لم تستثن فرنسا أيّا من الأساليب الشّيطانية لجعل «الأحرار» يستسلمون لمصيرٍ، قرّر قادة جيوشهم أن يكون خيارا بين اثنين إما موت أو تحول إلى مسخ بلا هوية، لا أرض ولا عرض، لكن «الحر» يأبى الاستعباد حتى وإن دفع روحه ثمنا رخيصا أمام بقاء أمّته، فأمّة تحمل في بطنها الأحرار لن تموت حتى وإن أبيدت عن بكرة أبيها.
وشتّان بين شعار «الحريّة، الإخاء والمساواة»، وشعار «الموت لكل جزائري مسلم»، فبالرغم من أن واضعه واحد إلا أن الاول ما هو إلا الشجرة التي غطّت الغابة (الشعار الثاني)، فهو من أعطى قادة الجيش الفرنسي من أمثال الجنرال توماس روبير بيجو، الجنرال لويري داربوفيل، العقيد ماكسيميليان جوزيف شوينبيرغ، العقيد جرمان نيكولاس براهو واخرون الضوء الأخضر للقيام بجرائم ضد الإنسانية في حق الجزائريّين.
اليوم لا بد من استحضار التاريخ لاستجلاء ما كان غامضا في صورة حيّة لإجرام فرنسا، فقد راسل الجينرال بيجو القائد بيليسييه قائلا له بالحرف الواحد: «إذا انسحب هؤلاء الأوغاد إلى كهوفهم دخّنوا المداخل، عاملوهم كالثّعالب»، هكذا كانت فرنسا تبيد الجزائريّين باسم الحضارة؟ ليتلقّى بيليسييه بعد تنفيذه لجريمته البشعة (محرقة أولاد رياح 1845) رسائل التّهنئة تناشده المزيد من «الانتصارات»، بل الجرائم المماثلة، حيث كتب له حاكم سطيف الجنرال لويري داربوفيل «كل مسؤولياتك العسكرية التي أدّيتها في مغارات أولاد رياح تزيدك شرفا، وإنّي شخصيا لأباركها جملة وتفصيلا، ولطالما خجلت من نفسي لأنّ الحظ لم يحالفني مثلك في هذه المهام».
أما العقيد جرمان نيكولاس براهو رئيس مكتب الدراسات التاريخية بوزارة الحربية، فكتب «…إن حرق البرابرة العرب بالنسبة إلينا لهو من الضّرورة بمكان، فهم لا يستحقون منا سوى الانتقام»، وبعد مرور اثنتي عشرة سنة على محرقة أولاد رياح بالتحديد عام 1857 كتب بيليسييه رسالة تحمل بوضوح توجه هذا الرجل فيما فعله حيث قال باستفزاز: «إن جلد أحد طبولنا، هو أثمن من جلود كل هؤلاء البؤساء».
أمّا محرقة الأغواط 1852، فهي أشد فتكا من سابقاتها، حيث استعمل فيها الجنرال وجوسيف برسينانتي مواد كيماوية محرمة دوليا في ديسمبر من سنة 1852، خلّفت وراءها استشهاد ثلثي سكان المدينة، بما يقارب 2500 شهيد من أصل 3500 ساكن، من ضحاياها أطفال ورضع تمّ وضعهم في أكياس وحرقهم أحياءً وهم مخدّرين بمادة «الكلوروفورم» الغازية السّامة.
وصولا إلى مجازر قالمة وخراطة في 1945 ثم 20 أوت 1955، 12 ماي 1956، إلى قمع مظاهرات 11 ديسمبر 1960، إلى 17 أكتوبر 1961 وأخيرا التجارب النووية التي حوّلت الجزائريّين الى فئران تجارب.
تبجّح «الدّيكة»
الرّئيس الفرنسي الحالي يجد في هذه الجرائم ما عجز الفكر عن تخيّله، «سبيل» الجزائريّين للوجود كأمّة، نعم هذا الرّجل قالها وبصوت عال ودون خجل إنّنا لم نكن أمّة قبل 1830 بل لم يكن لنا وجود أصلا، بالرّغم من أنّ أجداده كانوا يستدينون من الجزائر قمحا، حتى برجه الذي يتفاخر برمزيته حديده جزائري حرّ من مدينة مليانة الشماء.
الأدهى والأمر أنّه سنّ قانونا لتمجيد «الحركى»، الذين خانوا الوطن والأرض والعرض، وقبلوا أن يكونوا مجرّد «مسخ» لا هو فرنسي ولا جزائري، والبقاء «بين-بين»، الأسوأ أنه برّر ما لا يبرر ضاربا عرض الحائط كل «ما يدّعيه» من علاقة «طيبة» يحاول من خلالها تجاوز «عقدة التاريخ» بين الشعبين.
«عقدة» التاريخ أو ما يصطلح على تسميته بـ «الذاكرة المشتركة» بين البلدين هي المحرِّك الذي نفِد وقوده فأحرق زيته ماكرون في حركة «دورانية» «هجينة»، أوصلته الى نقطة ما «قبل» الصفر، لتطبع «إشارة» ناقص العلاقات بين البلدين ويكون الدرس قاسيا وواضحا لمن تبجّح بمحو تاريخ الجزائر قبل 1830، ربما كان يبحث عن أمجاد «كريستوفر كولومبوس» في الامريكيتين، وربما هي سقطة «الولد الغر»، الذي مازال مبتدئا في عالم السياسة، لكن الأكيد ان ماكرون لا يفقه في التاريخ شيئا.
المثير أنّ ما قاله ماكرون هو نفسه ما برّر اغتصاب وحرق الأرض منذ ما يقارب القرنين من الزمن، فنفس شعار «الحرية، الإخاء والمساواة» الذي استباح دم الجزائريين واعتبرهم أقل شأنا من «طبولهم»، هو نفسه الذي جعله يتبجّح بالقول بـ «ألا» وجود للجزائر قبل تدنيس جنود الجيش الفرنسي أرضها في 1830، ما لا يدع مجالا للشك أو الغموض في أن الإدارة الفرنسية «نفسها» تتعامل مع جزائر تراها مجرد «غنيمة حرب»، لكن هيهات.
دس السم
قد يظن البعض أنّ ما قاله ماكرون لا يعدو أن يكون «شو» إعلاميا لكسب أصوات إضافية من اليمين المتطرف، لكنه في الحقيقة ليس أقل إجراما من المحارق والمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي منذ احتلاله الجزائر، فعندما أبيدت قبيلة أولاد رياح بجبال الظهرة، كانت محرقة لمحو أثر أصحاب الأرض الحقيقيين، وعندما هجّرت السّلطات الاستعمارية الجزائريّين الى كاليدونيا الجديدة حاولت قطع الحبل السري بين الأرض وأصحابها.
والقول بألاّ أمة قبل الاستدمار هي محاولة يائسة لقطع «الحبل» الرابط بين الجزائريين وتاريخهم الممتد إلى الانسان الأول صانع ثامن المعجزات السبع رسومات «طاسيلي ناجر»، ليربطه مرة أخرى بأم «هجينة» هي فرنسا، لكنه في «سقطة» غير مبررة تناسى أن من كانت جذوره متغلغلة في عمق «التاريخ» لن تستطيع زوبعة في «فنجان» اقتلاعه من أرضه وهويته.
الظاهر أنّ أسلحة الحرب تغيّرت فوضعت القنابل والرشاشات والدبابات جانبا ليحل محلها حرب «الهوية»، سلاحها الفتّاك معلومة تُصنع في مخابر سرية تعتمد التاريخ كمادة أولية تتعرّض في مراحل مختلفة لخلطة سحرية هي التزييف لتضع تفاصيل جريمة اكتسبت طريقتها من دس السم في العسل، بدس الأكاذيب في عقول من يرون في عدو الامس صديق اليوم.