يجمع المؤرّخون والأكاديميون والفاعلون على أنّ ثورة التحرير الجزائرية، من أعظم ثورات القرن العشرين، إلى جانب الثورة الفيتنامية. وبالرغم من ذلك الإجماع ومدى التأثير الذي أحدثته هذه الثورة إقليميا وقاريا، إلاّ أنّ هناك فئة محدودة حاولت تشويه ذلك الحدث وتحجيمه مثلما يذكر الدكتور أحمد جعفري أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة غرداية.
توضّحت هذه المحاولة حسبه، من خلال اللجوء إلى بعض التوصيفات والمصطلحات التي ألصقت بهذه الثورة المباركة، كان الهدف من ورائها محاولة زرع جوانب من التشكيك والتهوين على شاكلة الخوض في توصيف ما حدث في الجزائر أكان ثورة أم حرباً، وهل هي ثورة بالمفهوم الشامل أم ثورة اجتماعية أو سياسية؟ وهل يرقى ذلك إلى حرب تحرير لاستعادة السيادة؟
ولكن الإجابة عن هذه الأسئلة مثلما يشير الأستاذ في حديثه لـ «الشعب»، كانت واضحة لا تحتاج إلى تأويل ودراسة كون ثورة التحرير الجزائرية، حملت مشروع مجتمع لا ينتهي بنهاية الحرب أو إيقافها، والسبيل إلى تبيان ذلك واضح، بالعودة إلى بيان أول نوفمبر وما تضمّنه من توجه للدولة الجزائرية المستقلة في إطار ما تبنته ثورتها التحريرية المباركة والواقع، يثبت أن ما قام به الجزائريون هو ثورة شاملة وعارمة، لم تكن عفوية أو اجتماعية مثلما أرادت فرنسا أن تسوّق لها، ولم تكن حربا محدودة لتحقيق أغراض معينة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، إنما هي حرب في الميدان وثورة في الأبعاد.
وعن الأبعاد الحضارية للثورة التحريرية، يقول محدّثنا، نلمس ذلك في ميادين ومجالات شتى فكرية وإنسانية واجتماعية، داخلية وخارجية، فبعدها الوطني، ظهر في شعبيتها وشموليتها وحرصها على وحدة الوطن والجزائر، فهي لم تكن ثورة أفراد ولم تخضع لزعيم أو قائد، بل كانت ثورة الجميع واستهدفت مختلف الفئات والطوائف، وأكدّ على ذلك بيان أول نوفمبر ومختلف مواثيق الثورة الأخرى، ويستشهد في ذلك مثلاً بعسر المفاوضات وتشبث فرنسا بالتقسيم لأطماع شتى دينية وحضارية واقتصادية، إلا أن قادة الثورة أبانوا عن بعدهم الوطني في أن يكون الاستقلال تاما مكتملا، يشمل الأمة الجزائرية ويضمن وحدتها الترابية.
وعن بعدها الجهوي والمغاربي، يقول الدكتور جعفري إن سعيها كان واضحاً لتوحيد المقاومة وحرب التحرير في بلدان المغرب العربي، وهو ما أكده الوفد المشارك في مؤتمر طنجة سنة 1958م، وقبله أحداث 20 أوت 1955 وانعقاد مؤتمر الصومام 20 أوت 1956م، تضامناً مع الشعب المغربي في ذكرى نفي ملكه، وجسّده أيضا تلاحم الشعبين الجزائري والتونسي في أحداث ساقية سيدي يوسف في 08 فيفري 1958.
ويظهر أيضاً بعد استرجاع السيادة في السعي المحمود لإيجاد أرضية اتفاق لاتحاد مغاربي، من خلال المؤتمر التأسيسي الذي احتضنته الجزائر في زرالدة عام 1989 لذلك الاتحاد المنشود.
وفيما يرتبط بأبعاد الثورة الإقليمية والقارية، فالجزائر وهي تحت الاحتلال، شاركت بفضل جبهة التحرير في مختلف مؤتمرات عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإفريقية، ورافعت دفاعا عن مختلف الشعوب المضطهدة والمحتلة، وبفضل تمرّس وحنكة دبلوماسيتها، أسهمت في القضاء على الكثير من بؤر التوتر والصّراع بين البلدان الإفريقية والعربية والإسلامية.
أما عن البعد الإسلامي، فبيان أول نوفمبر أيضا، تضمن إقامة دولة جزائرية ديمقراطية واجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، ليؤكّد في باب آخر من نفس البيان على البعد المغاربي والعربي والإسلامي للجزائر المنشودة، وبالرغم من النقد الذي عرفه البيان لعدم إجابته عن كثير من النقاط بوضوح مثل الهوية والإسلام والعروبة، فإنّ خيارات بناء الدولة الجزائرية ودساتيرها بعد ذلك، قدمت بما لا يدع مجالا للشك إجابة وافية عن تلكم التساؤلات.
بعد إنساني ورسالة عالمية
قال محدّثنا إنّ الثورة الجزائرية غرست في كثير من الشعوب الإفريقية خاصة، رفض أشكال الخضوع والعبودية والاستعمار، ودافعت بشدة عن مسألة تقرير مصير الشعوب المحتلة إلى اليوم ولا تزال. ويشير إلى أنه يكفي الجزائر فخرا أن تعرفها الأمم والشعوب بفضل ثورتها المجيدة، وتتسلى بها الأمم المكلومة، ويتغنى بها العرب ويُستلهم من ثناياها العبر.
ويضيف أن الحديث عن أبعاد الثورة التحريرية العديدة، يقودنا لمساءلة أنفسنا، عمّا بذلنا من جهود للحفاظ على ذاكرة الأمة الجزائرية في جانبها التاريخي، مع تجدد أبواق التشكيك والأصوات الناعقة حول وجود الأمة الجزائرية، وإن كان الأمر ليس بالجديد، فقد سبق ماكرون في ذلك الكثير من رؤساء تلك البلاد أسوة بما دوّنه مؤرّخوهم في محاولات يائسة لحماية ما بقي من أذنابهم.
ومن أجل قطع دابر تلك الألسن وغيرها، وجب الوقوف مليّاً عمّا تم تأريخه وحفظه من ذاكرة، وتقديمه بشتى اللغات والوسائل، ليعرف العالم مقدار عظمة هذا الشعب الجزائري وهذه الأمة الجزائرية العريقة، ولا مناص من نقد ذلك التراث نقداً ذاتياً، وفق ما يخدم مصلحة الأمة الجزائرية، بعيدا عن التوجيه والأدلجة أو الوصاية لجهة على حساب أخرى، باعتبار أنّ الذاكرة الوطنية، إرث يشترك فيه الجميع، ومن حقّهم أنّ يسهموا في كتابته ويدافعوا عنه.
فذاكرة الأمّة وعاء يحوي ماضيها وتاريخها وعاداتها وسلوكها، وإرثها المادي واللامادي في أي شبر من هذا الوطن الغالي والعزيز، وفي الأخير واستكمالا لمسيرة الأجيال، نستشهد بمقولة الشّهيد ديدوش مراد بقوله «إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا...نحن خلقنا من أجل أن نموت، ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة».