قرار ثلاث وزارات «بصيص أمل» لرفع التّجميد عن قانون تعميم العربية
لم تكن معارك الجزائريّين ضد المستدمر الفرنسي، طيلة 130 قرن من الزمن، قائمة من أجل تحرير البلاد من الاحتلال الغاشم فقط، بل شملت الدّفاع عن الهوية الوطنية، بعد أن حاول المستعمر الفرنسي منذ وطأت أقدامه تراب الجزائر، «مسخ» و»سلخ» لغة ودين وتقاليد وعادات الجزائريّين، حتى تحقّق فرنسا أهدافها في الإدماج، دون أن تتمكّن من القضاء على الهوية الوطنية، نظرا لتمسك الجزائريين بدينهم وأعرافهم وتقاليدهم. وتستمر هذه المعارك إلى غاية اليوم، بتحصين مقوّمات الهويّة الجزائرية وفي مقدّمتها اللغة العربية، حيث أعادت قرارات وزارات الشباب والرياضة والتكوين والتعليم المهنيين والعمل، باستعمال العربية في جميع المراسلات وتدريس المتربّصين، «بصيص أمل» بإعادة رفع التجميد عن قانون تعميم اللغة العربية، الذي جمّد منذ 30 سنة.
يقول الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر الأستاذ لزهر بديدة لـ «الشعب»، «إنّ فرنسا وضعت هدفا أساسيا بعد احتلالها الجزائر، واستغلالها للأرض والانسان لخدمة مصالحها ومشاريعها المتعدّدة والمتنوعة، وحتى تصل إلى هذه الغاية وضعت مخطّطات وبرامج تحول الأرض لخدمة اقتصادها والجزائري قوّة إنتاج مجانية. ومن هذا المنطلق جاءت سياسة محاولة المسخ الثّقافي للجزائريّين، ومن ثمّة محاولة سلخهم عن دينهم ومعتقداتهم وأعرافهم وتقاليدهم، وهذا هو الأهم. هذا كمرحلة أولى، أما المرحلة الثانية العمل على إدماج الجزائريّين الذين يقبلون التنازل عن مقوّماتهم أحوالهم الشخصية في المجتمع والدولة الفرنسيّين، مع إمكانية استفادتهم أو استفادة بعضهم من حق المواطنة المشروطة».
ولكي تحقّق فرنسا أهدافها في المسخ والإدماج، يضيف الباحث بديدة، قامت وبشكل مباشر بعد عدوانها على الجزائر، وتثبيت الاحتلال بإهمال التعليم وعدم رعايته، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعدّاه إلى العمل على ضربه في الصّميم من خلال ضرب أو احتواء مصادره والقائمين عليه، فقد كانت سلطة الاحتلال مثلما ذكر الأستاذ «منذ البداية مدركة لضرورة محاربة التعليم في الجزائر في مفاصله، وكانت فلسفتها تعتمد في البداية على إجراءات بسيطة ولكنها فعّالة في نتيجتها، وهي مصادرة الأوقاف – تهديم المؤسّسات أو تحويلها عن غرضها الأصلي – محاربة ومتابعة ومعاقبة القائمين عليه – الإهمال لما هو قائم من مؤسّسات وعدم الاهتمام بالعلم ومؤسّساته الموجّه للجزائريّين»، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل عملت على تكبيل ومحاصرة التعليم العربي الإسلامي بالقوانين والإجراءات التي كانت يتم تكييفها على الدوام، وبحسب الظروف والمعطيات المستجدة، وشروعها بالمقابل في سياسة فرنسة التعليم في الشكل والمضمون.
«الدّارجة» و»اللّهجات» للقضاء على الفصحى
يشير الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر، بديدة، إلى أنّ الحكومات الفرنسية المتعاقبة، ومهما اختلف لونها السياسي أو الإيديولوجي، اتّفقت جميعها على إهمال التعليم العربي الإسلامي للجزائريّين، مقتصرة ذلك على المدارس الشرعية التي أسّستها لتخريج الموظّفين فقط، الذين تحتاجهم في تسيير شؤون الشعب الجزائري، وممّا يلاحظ أنّ التعليم في المدارس الابتدائية الموجّهة للجزائريين وعلى قلّتها مقارنة بتعداد الجزائريّين ومقارنة بمدارس المستوطنين، كان يتم باللغة الفرنسية، وقد تستعمل العربية الدارجة معها، وكان القصد من ذلك هو إماتة العربية الفصحى أو لغة الكتابة والمطالعة والثقافة والتراث الإسلامي، مع العلم أنّ الدّراسة في المدارس التي شيّدتها فرنسا في الجزائر كانت تتم في مرحلتها الأولى وفي مجملها باللغة العربية (البسيطة والأقرب إلى اللسان الدارج)، وهو أمر القصد منه التقليل من أهمية اللغة الفصحى كمرحلة أولى، والقضاء عليها في المرحلة الثانية، والقضاء على اللغة العربية الفصيحة مقدّمة أساسية للقضاء على الإسلام، لأنّ هذا الأخير لا يمكن فهمه بشكل سليم وإدراكه حضاريا، إلا باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
كان عدد الجزائريّين الذين تأثّروا بهذه السياسة، قليلا بالنسبة لمجموع السكان حسب الكاتب، وإذا كانت بالمجمل لم تستطع أن تقضي على الهوية الوطنية نظرا لتمسّك الجزائريين بدينهم وأعرافهم وتقاليدهم ولو في الحد الأدنى، إلا أن فرنسا نجحت في الترويج والدعاية الإعلامية لما كانت تحقّقه من نتائج، حتى ظنّ بعض العرب وأغلب دول ومجتمعات العالم، أنّ الجزائر فرنسية أرضا وشعبا وثقافة ولغة، وأنّ الجزائريين لا يمكنهم التواصل مع المغاربة والمشارقة لأنّهم لا يجيدون اللغة العربية، وما قاله الشاعر المصري أحمد شوقي لمّا مرّ بالجزائر وهو متّجه إلى منفاه بإسبانيا، حول اللسان الجزائري معروف...(وجدت عربا ولم أجد عربية.....).
التّكوين العصامي والمدارس الحرّة..نافذة نور
لم يقف الجزائريّون مكتوفي الأيدي، أمام محاولات «المسخ» المنتهجة من قبل فرنسا الاستعمارية، فقد كان هناك رفض مطلق ومقاطعة تامّة ومقاومة شرسة من عموم الجزائريّين من أجل منع إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية، وهذا يندرج حسب الباحث بديدة في إطار المقاومة الثقافية ومقاومة الغزو الثّقافي الفرنسي. وفي مرحلة لاحقة وبعدما أصبح الاحتلال أمرا واقعا وشرا لابد من التعامل معه، تغيرت وجهة نظر الكثير من الجزائريين من التعليم الذي كانت تخصّصه فرنسا لهم، فهم لم يرفضوه بالمطلق، كما لم يعارضوه بالمطلق، بل كانوا يطالبون السّلطات الاستعمارية بتعليم يتماشى مع قيمهم وتقاليدهم ويحفظ لهم تراثهم ومعالمهم، ويحترم شرائع الإسلام، وهو ما لم يكن متاحا أو ممكنا أمام عدوان الاحتلال وعنصريته منع العلم عن أجيال بكاملها.
ولتجاوز هذه الإشكالية كان الكثير من المثقّفين والعلماء والأدباء الذين تكوّنوا بطريقة عصامية أو من عائلات علمية معروفة تمكّنت من الصّمود في الجزائر أو الذين تلقّوا تعليمهم بالمشرق العربي أو مصر أو تونس أو المغرب الأقصى، ومساعدة بعض الميسورين، يعملون على تشييد المدارس الحرّة الخاصة والموجّهة لأبناء الجزائريّين، خاصة مع مطلع القرن العشرين، كما أنّ الكثير من العائلات الجزائرية خاصة الميسورة منها تعمل على إرسال أبنائها لمواصلة التعليم في الخارج (الأزهر بمصر، الأمويين بسوريا، الزيتونة بتونس، القرويين بالمغرب….)، بهذه السّبل والوسائل واجه الجزائريّون السياسة التعليمية والثقافية الفرنسية، التي سعت سلطة الاحتلال للعمل على فرضها على الشّعب الجزائري.
المدارس القرآنية
من بين الوسائل التي استخدمها الجزائريّون في معاركهم ضد محاولات «سلخ هويّتهم» الكتاتيب والمدارس القرآنية للحفاظ على دينهم ولغتهم من خطر الزوال، قابلها رجال الدولة الاستعمارية الفرنسية من ساسة وعسكريين وإعلاميين، إضافة إلى منظّري الفكر الاستعماري الفرنسي، سواء كان من كتاب وفلاسفة أو رجال دين وطيلة حقبة الاحتلال، وبعد معاينتهم لأهمية التعليم في الكتاتيب والمدارس القرآنية والزوايا، بحرب في السر والعلن مستعملين شتى الوسائل من تدمير ومصادرة أو ترغيب أو ترهيب، وما يتبع ذلك من تهميش وتضييق وملاحقة، ومعاقبة للقائمين على هذه المؤسسات.
ويقول الأستاذ بديدة إنّه بالرغم من أن السلطات الفرنسية عملت خلال وجودها بالتوصيات والتقارير التي كانت توصي بضرورة الحد من انتشار هذه المؤسسات، من أجل الحد من تأثيرها على الجزائريين سواء في المقاومة العسكرية أو المقاومة الثقافية، وبالرّغم من أن الإدارة الاستعمارية تمكّنت من تقليص وبشكل كبير عدد الكتاتيب والمدارس القرآنية والزوايا، ووضعت البقية تحت المجهر وحدّدت برامجها وحدود عملها، وأصدرت القوانين والمراسيم التي تشدد على الجزائريين في فتح الجديد منها أو ترميم ما يمكن أن يرمّم، وقامت بشن حرب نفسية عليها وعلى من يقومون عليها أو الملتحقين بها بنعتهم بشتى الأوصاف المقزّزة والقبيحة، وبالمقابل الترويج لمدارسها العصرية التي مكّنت بعضها من تدريس بعض سور القرآن الكريم وفقط؟ وبطريقة غير مألوفة عند الجزائريين، إلا أن ما تبقى من تلك المؤسسات واصل مهمّته ولو بصعوبة، وتخرّج منها العديد من حفظة القرآن الكريم، والذين واصل العديد منهم الدراسة مشرقا ومغربا، أو عند بعض المشايخ الصامدين في الجزائر، وسيشكّل هؤلاء جبهة المقاومة الثقافية سواء بشكل فردي أو بشكل جماعي أو بشكل مؤسّسات مع مطلع القرن العشرين، وهو ما يوصل إلى نتيجة وهي أن هذه المؤسّسات على قلتها، وبالرغم من التضييق والترهيب والملاحقة للقائمين عليها، الا أنها أدت ما عليها في تلك الظروف الصعبة والقاسية، وحافظت على الحد الأدنى من مفاهيم الدين واللغة والتضامن والأخوة عند الجزائريين، وبالتالي حافظت على الهوية والشخصية الجزائرية في إطارها العربي الإسلامي، وشكّلت حرجا وقلقا دائمين للسلطات الاستدمارية الفرنسية.
أما بعد استرجاع السيادة الوطنية، فقد بقيت الكتاتيب مستمرة في أداء وظيفتها في تلقين وتحفيظ القرآن الكريم للناشئة، بالرغم من أنها لم تكن تلقى الدعم والرعاية، وكان تمويلها ومصادرها من عموم الشعب الجزائري، في حين غابت المدارس كليا تقريبا عن الساحة، وجُلّ الزّوايا تقلّصت مهامها في هذا الإطار، هذا ولا شك فيه من ثغرات المرحلة الأولى لما بعد استرجاع السيادة ونقصد بها أزيد من عشريتين، وقد يكون لذلك ظروفه وسياقاته الكثيرة.
ومع منتصف الثمانينات من القرن الماضي، بدأ الأمر يختلف وظهر هناك بعض التشجيع للكتاتيب والتفكير في المدارس القرآنية، وحتى فكرة مسجد الجزائر الرمز وليدة تلم المرحلة، ومنذ سنوات تولت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف مهمة بعث المدارس القرآنية، إضافة إلى رجال الزوايا وبعض الخواص، الذين افتتحوا مدارس ومعاهد لغرض تعليم الجزائريين دينهم ولغتهم، وهي مفتوحة حتى للأجانب خاصة من الدول الإفريقية، وهذا مبشّر بالخير مستقبلا بحول الله.
حماية اللّسان الجزائري الفصيح
تحمل قرارات وزارات الشباب والرياضة، التكوين والتعليم المهنيين، والعمل المتعلقة بإلزامية استعمال اللغة العربية في مراسلات القطاع وتكوين المتربصين، «بصيص أمل» لرفع التجميد عن قانون تعميم اللغة العربية الذي أعدّ منذ 30 سنة، وأعيد إلى رفوف المكاتب، أكثر من مرة، وهي معارك أخرى لتحصين اللغة الرسمية للبلاد، وأحد مكونات الهوية الوطنية، من محاولات «المسخ» المنتهج من إدارة الاحتلال، لتغريبهم عن دينهم ولغتهم.
ويقول الباحث بديدة، إنّ «الإرادة والرغبة سلطة وشعبا تتوفر لحماية اللسان الجزائري العربي الفصيح، ويظهر ذلك فيما اتخذته وزارات الشباب والرياضة، التكوين والتعليم المهنيين والعمل، في هذه الأيام، وهي مقدمة ودليل على أن يتعدى الأمر إلى مؤسسات أخرى، ولن يكون الأمر صعبا مثلما ذكر لأنّ الأرضية مهيّأة، ولدينا من الإمكانيات المادية والبشرية والمعنوية ما يمكن أن نتجاوز به العراقيل والتحديات في هذا المضمار.
وبالرغم من أنّه أكّد أنّ اللغة العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم، وهي اليوم تنتشر وبشكل لافت وسط مجتمعات ودول كانت بعيدة إلى حد ما عن تأثيرات الحضارة العربية الإسلامية، ومن ثمة فلا خوف على لغة الضاد بالمفهوم الشامل، إلا أن الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر، ربط المحافظة عليها في الجزائر، باتخاذ جملة من الخطوات والقرارات، ومنها إعطاء مكانة مهمة للغة العربية والتربية الإسلامية، إلى جانب التاريخ في المناهج التربوية من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية، والعمل على تعريب المؤسّسات العلمية والإدارية، فلا يعقل مثلما قال «أن يدرس الطالب حتى المرحلة الثانوية بالغة العربية ثم يجد نفسه في بعض التّخصّصات يدرس باللغة الفرنسية، ولا يوجد في هذه التّخصّصات ولا مقياس باللغة العربية، وهذا تناقض يجب التذكير الدائم به والعمل على تداركه عاجلا، كذلك الكثير من المؤسّسات ما تزال مراسلاتها وحتى اجتماعاتها أو خطابات بعض مسؤوليها في الشاشات أو التدشينات تتم باللغة الفرنسية، والأمر نفسه ينطبق على الفواتير الصادرة عن العديد من المؤسسات والاقتصادية والتجارية، إلى جانب ذلك ضرورة العمل على تعريب المحيط، فأغلب لافتات المحلات ومؤسّسات الخواص مكتوبة باللغة الفرنسية فقط، وهذا ملاحظ وظاهر في أغلب مدننا. والأمر نفسه ينطبق على الكثير من إنتاجنا الفني، ففي جينريك بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات التاريخية اللغة العربية غائبة أو تكاد تكون كذلك عندما تظهر باحتشام، بينما اللغة الأكثر بروزا ووضوحا وسيطرة هي اللغة الفرنسية؟».
ومن الخطوات التي يجب العمل عليها حسب الأستاذ، ضرورة رفع التجميد عن قانون استعمال اللغة العربية، وهذا المطلب يجب التعبير عنه من خلال مؤسسات الدولة ومنها البرلمان بغرفتيه، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني، لأن شعار الحركة الوطنية بمختلف أطيافها والثورة التحريرية المباركة، هي: (الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا) وهذه أمانة الشّهداء كل الشّهداء، يجب أن نوفي بها ونحافظ عليها ونؤدّيها على أحسن وأتم وجه، وتعبّر عن شخصيتنا ومقوّماتنا توجّهنا الحضاري العربي الإسلامي، الذي عملت فرنسا الاستعمارية طيلة قرن اثنين وثلاثين سنة على طمسه ومحاربته، ولكنها وبفضل الله والتضحيات الجسام للجزائريين لم تبلغ منتهاها ولا أمانيها، ولم تحقّق ما كانت تصبو إليه.