تجسيد المبادئ إلى آليات ملموسة.. التّحدّي اليوم
يجمع باحثون في التاريخ لـ «الشعب»، على أنّ بيان أول نوفمبر 1954 أرضية مرجعية للدولة الجزائرية لكونها تحمل آليات بناء الدولة وشروط تحقيق الإستقلال، وهي تدل على عبقرية الذين صاغوها واحتضنوها، تحدّثت عن وحدة الجزائر وأظهرت بوضوح معالم المجتمع الجزائري في الماضي والحاضر والمستقبل، ومعالم الدولة الجزائرية التي كانت قبل 1830.
يؤكّد الدكتور قاسيمي زيدين، رئيس قسم التاريخ بجامعة العقيد محمد أولحاج بالبويرة، أنّ بيان أول نوفمبر 1954 هو وثيقة صالحة لكل مكان وزمان، يلتقي فيها كل الجزائريين سواء كانوا أحزابا أو مواطنين، وهي أرضية مرجعية للدولة الجزائرية لكونها تحمل آليات بناء الدولة وشروط تحقيق الإستقلال، وكذا أهداف النضال والنشاط السياسي، وتحمل الدعوة إلى وحدة الشعب الجزائري برمته دون أي اعتبار آخر.
ويشير إلى أن الوثيقة حملت وسائل سواء تعلق الأمر بوسائل تحقيق الأهداف داخليا أو خارجيا، ووضعت فيها شروطا للدولة المحتلة إذا كانت النية تحذوها من أجل التفاوض على قضية واحدة هي استقلال الجزائر، معترفة بالجنسية الجزائرية مسبقا، وبالتالي هي وثيقة تدل على عبقرية الذين وضعوها وصاغوها، والذين احتضنوها.
ويوضّح الباحث أن البيان منقسم لمجموعة من الفقرات، كل واحدة لديها مضمونها وأهدافها، فالوثيقة في حد ذاتها تعكس المشروع الحضاري للثورة التحريرية وتمثل القطيعة مع الماضي، أولا مع ما يحدث في الداخل من صراعات داخلية عقيمة لم تأت بنتائج إلا لفائدة العدو.
وبالتالي الوثيقة تتحدث عن وحدة الجزائر والكف عن الصراعات، والإلتقاء في نقطة واحدة هي مصلحة الجزائر المتمثلة في استقلالها، وثانيا الوثيقة كانت تدعو إلى استعادة إنسانية الإنسان الجزائري أولا، وإخراجه من عبودية الإستغلال والإستدمار الفرنسي، يضيف الدكتور قاسيمي.
ويبرز في هذا السياق، أنه بالرغم من كون الإستعمار دمّر المجتمع الجزائري لقرن و32 سنة، إلا أن الوثيقة حملت أبعادا تعكس لنا إنسانية الثوار وقادة الثورة الأوائل الذين وضعوا الوثيقة، بحيث انهم لم يقولوا بأن الثورة والحرب واستخدام الأسلحة هي الوسيلة الوحيدة، فهذه وسيلة من بين الوسائل فرضها منطق الإستدمار، ولكنهم فتحوا بابا كبيرا للوسائل السياسية المفاوضات حتى في المنابر الدولية، ففتحتها الثورة التحريرية.
ويوضح زيدين أنّ هذه الوثيقة تعكس مدى وعي هؤلاء ومدى عبقريتهم، إذ أنهم صاغوا الوثيقة آخذين بعين الإعتبار الظروف الداخلية والمناخ الدولي الذي كان سائدا آنذاك، ولم يغفلوا عما كان يجري في الساحة الدولية من صراعات في الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فصاغوها في إطار الإنفراج الدولي، وكانوا يتحدثون في الوثيقة عن ذلك.
ويشير إلى أنّ هذه الوثيقة جعلت من المستوطن والأوروبي الذي لم يختر أن يولد في الجزائر، جزائريا شرط أن يقوم ويقبل أن يؤدي واجباته وتعطى له كل حقوقه في الجزائر إذا ما شاء أن يختار الجنسية الجزائرية.
ويقول: «هذه الإنسانية وهذا المشروع الحضاري لبناء دولة جزائرية حديثة يعكس لنا مدى أهمية هذه الوثيقة ومكانة ما جاء في الوثيقة في إطار البيانات الدولية»، ويضيف أنّ الوثيقة ليست فقط بداية لصحافة الثورة بل هي تندرج في إطار صحافة الثورة كإعلانها، وأن كل إعلان يدخل من الباب الصحفي.
ويؤكّد الباحث أنّ هذه الوثيقة تمثل الرمز الأساس بالنسبة للثورة التحريرية ومرجعية الجزائر اليوم لكونها تجمع كل التيارات والأطياف، حدّدت مشروع الجزائر في إطار مبادئ الدولة الديمقراطية الإجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. وصاغت خطة طريق تحقيق الإستقلال والأهداف الموضوعة من خلال ما ذكر في كل فقرات البيان.
وبحسب محدّثنا فإنّنا لم نجعل من الوثيقة مرجعية، وأنه لابد علينا أن نعمل لتحقيق ما بقي من الوثيقة والتحديات كثيرة داخليا وخارجيا إقليميا ودوليا، والمحتل كان يرى في الجزائر منطقة نفوذ فوضع كل إمكانياته من أجل عرقلتنا.
ودعا الدكتور قاسيمي إلى رص الصفوف وتحقيق وحدة المجتمع الجزائري، والسهر على دور المجتمع الجزائري خارج الوطن من أجل بناء هذه الدولة ليس فقط في الداخل، وإنما دور الجالية في الخارج بحكم التحديات والصراعات الإقليمية والدولية.
ويبرز محدثنا أنّ الوثيقة تحدّثت على أنّ الجزائريين كانوا أول الداعين إلى الوحدة في العمل، بمعنى يحمل إشارة إلى حزب نجم شمال إفريقيا الداعي إلى وحدة شمال إفريقيا، فنحن أول الداعين إلى هذه الوحدة، وبالتالي الجزائر اليوم هي أيضا تدعو إلى هذه الوحدة في إطار المبادئ المشتركة لترسيخ القيم المشتركة في شمال إفريقيا في إطار مقارعة هذه التحديات.
ويضيف: «لهذا اليوم نحن نتعرّض فعلا إلى هذه التحديات الإقليمية بمحاولة دول أجنبية عالمية استغلال واستخدام نقاط النفوذ في بعض هذه الدول الإقليمية، فنحن لابد علينا أن نجيب عليهم بالسعي إلى ضمان ما جاء في بيان أول نوفمبر، نسعى لوحدة شمال إفريقيا دون أن نكون نحن نقطة نفوذ أو ارتكاز العدو لتقسيم شمال إفريقيا داخليا أو خارجيا».
ويقول أيضا: «هذا المشروع الذي جاء في البيان لازلنا نسعى لتحقيقه كجزائريين على المستوى الإقليمي والدولي».
الدّولة الجزائرية كانت موجودة قبل 1830
يكشف المؤرخ أنّ البيان تناول السعي إلى إعادة إحياء الدولة الجزائرية التي كانت موجودة قبل 1830 وليس بناؤها، بالتالي الذين يتبجّحون بتصريحاتهم على أساس أن الدولة الجزائرية كانت عبارة عن فسيفساء من الأمم أو الدول أو الشعوب، فهذا ضرب من الخيال لأنّ وحدتنا وحدودنا تحققت قبل 1830.
ويشير إلى أن الأمير عبد القادر في معركته الأخيرة كان قد قادها عند الحدود التي هي مرسومة اليوم، وكذلك مقاومة الحاج أحمد باي تدل على أن الحدود تلك المرسومة اليوم، ولا رجوع في هذه الحدود الجغرافية التي حددها بيان أول نوفمبر بكلمة معبرة قائلا: «إعادة إحياء الدولة الجزائرية بشعبها وبحدودها وبتراثها كاملا».
وهذا ما نسعى إلى تجسيده خمسين أو ستين سنة بعد الإستقلال في عمر الأجيال والمجتمع ضئيلة جدا، إذا ما ضربنا مثالا على أيّة دولة من الدول نجدها مرت بقرون من الزمن على الأقل قرنين من الزمن حتى تبني دولتها، وتقوم بوضع أركانها كدولة حديثة، يقول قاسيمي.
ويوضّح أنّ الجزائر وضعت اليوم أركانا، وطويت صفحات من الإستدمار ومخلفاته، الذي عمل على وضع مشروع نسميه بناء التخلف في الجزائر مدة اكثر من قرن وهو يبني في التخلف وتخلف مستقبلي وزرع غرسا لكي يعطي ثمارا أراده المستدمر لجزائر المستقبل.
هذا ما جعله يمنح الإستقلال أثناء الثورة التحريرية لعشرين دولة، ويبقي على الجزائر معتقدا أنه سيبقى في نقطة الارتكاز.
ويؤكّد أنّ بيان أول نوفمبر أظهر وأوضح جليا معالم المجتمع الجزائري في الماضي والحاضر والمستقبل، ومعالم الدولة الجزائرية التي كانت قبل 1830 والنضال الموجود في الجزائر قبل 1954، والنضال والكفاح المطلوب، وهو الذي حذاه القادة في الثورة التحريرية من 1954 إلى 1962.
رابح لونيسي: الثّورة الجزائرية نموذج للعالم
من جهته، يقول المؤرخ رابح لونيسي من جامعة وهران، أن ما يلاحظ في بيان أول نوفمبر 1954 أنه وثيقة لا تتجاوز صفحة واحدة، لكنها تتناول الكثير من المبادئ الأساسية للدولة المستقبلية أي الدولة الوطنية، بغض النظر عن الحديث عن شروط التفاوض مع الإستعمار وغيرها.
وأهم ما فيه هو طبيعة الدولة الوطنية بعد استرجاع الإستقلال، ويلاحظ إعادة السيادة الوطنية بدولة ديمقراطية واجتماعية ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
ثانيا إحترام الحريات الأساسية دون أي تمييز في العرق أو الدين، ثم تحقيق وحدة الشمال الإفريقي في إطارها الحضاري الإسلامي، هذه هي النقاط الثلاث مهمة جدا. ويبدي الباحث أسفه لأنّنا لم نحسن تحويل هذه المبادئ إلى آليات وميكانيزمات نطبّقها، وهو التحدي الراهن.
ويضيف أنّ الثورة الجزائرية جاءت بفكرة جديدة تماما آنذاك، وهي الجمع بين دولة ديمقراطية بحرياتها والعدالة الإجتماعية، أي دولة ديمقراطية وإجتماعية، يعني لا للحريات تطغى بشكل تفقد الحقوق الاجتماعية، ولا الحقوق الاجتماعية تطغى بشكل يفقد الحريات والتوازن.
ويوضّح محدّثنا أنّه عندما تكون ضمن إطار المبادئ الإسلامية، هذا نموذج آخر ورؤية جزائرية معناه أنّنا نعيش في إطار المبادئ الكبرى للإسلام، أي أن الفرد يعيش حياته عاديا لكن في إطار احترام المبادئ العامة، وهذا يعود إلى الفكر الظاهري وهو الفكرة التي قام بها ابن حزم الأندلسي بقوله كل شيء حلال فقط ما نص عليه في القرآن.
ويبرز محدّثنا أنّ المبدأ الأساسي الموجود في بيان أول نوفمبر للأسف الشديد لا يتحدثون عنه هو إحترام الحريات الأساسية دون أي تمييز عرقي أو ديني، وهو مبدأ المواطنة اليوم معناه المواطن هو جزائري يرتبط بالأرض والوطن وخدمة الجزائر والولاء لها، لكن دون تمييز عرقي أو ديني يعني لا يهمني معتقدك ما يهمني هو الولاء، وهو ما يسمى بدولة المواطنة فكل الناس سواسية مهما كانت أصولهم وألسنتهم لهم نفس الحقوق والواجبات.
ويشير إلى أنّ الدولة الجزائرية طبقتها في إطار المبادئ الإسلامية منذ 1962، ويذكر بما قاله بلعيد عبد السلام في يوم من الأيام: «أتحدّاكم أن تأتوني بقانون يناقض للمبادئ الكبرى والعامة للإسلام».
أما المبدأ الثالث فهو تحقيق وحدة الشمال الإفريقي، وهو ما نسميه اليوم الإتحاد المغاربي في إطاره الحضاري، نحن ننتمي حضاريا إلى الحضارة الإسلامية. هذا مهم جدا لكن للأسف الشديد المثقفون والمفكّرون لم يستطيعوا أن يقيموا آليات وميكانزمات لتطبيق هذا المبدأ، خاصة الجمع بين الحريات الديمقراطية والعدالة الإجتماعية التي كانت مفقودة آنذاك.
ويرى لونيسي أنّه لو تمكنا من إعطاء نموذج للعالم انطلاقا من هذه الثورة يمكن أن تعيش الثورة الجزائرية لقرون، معناه أن الذين حاولوا تطوير الفكر الموجود في بيان أول نوفمبر فيما بعد في أرضية الصومام وطرابلس وفي ميثاق 1964 و1976 و1986 وغيرها، ويقول: «بقينا نستند لنماذج بدل إعطاء نموذج جزائري سياسي واقتصادي وديني أيضا».
ويشير إلى أن البيان وقع تحريفه من النسخة الفرنسية، ويوضح أن التحريف عند ترجمة النسخة إلى العربية من بين العوائق التي تحول دون تجسيد الفكر الذي جاء في بيان أول نوفمبر 1954، ويوضح: «بدل ما يقول ديمقراطية واجتماعية قالوا ديمقراطية اجتماعية وقع تحريف لأن البيان أصلا مكتوب بالفرنسية الذين كتبوه بالفرنسية بن مهيدي، بوضياف، ديدوش مراد بمساعدة بن بولعيد وكريم بلقاسم ورابح بيطاط وهم لا يتقنون اللغة العربية الفصحى».
ويضيف أنّه عندما ذهب البيان إلى مصر، وقعت عدة ترجمات من الفرنسية إلى العربية، وكل ترجمة أعطته دلالات أخرى أفسدته، وبالتالي الأصل يقول ديمقراطية واجتماعية Democratique et Social حرف العطف نزع، ويشير إلى أنه لو نعود إلى النص الفرنسي تعطينا دلالة أخرى هو الجمع بين الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ويؤكّد أنّه توجد أكثر من 73 ترجمة لبيان أول نوفمبر، ويشدد في هذا الصدد على العودة للنسخة المكتوبة باللغة الفرنسية. واعتماد ترجمة صريحة وفية للبيان الذي صدر في أول نوفمبر 1954 والمدون بالفرنسية.
أما السبب الثاني وقوع أزمة سنة 1962 سميت بفتنة صيف 1962، والتي لم تعطينا الفرصة لتطوير البيان، كما أن المثقفين والمفكرين وغيرهم لم يؤدوا دورهم، بإنشاء آليات وميكانيزمات وغيرها.
ويبرز الباحث عبقرية الذين صاغوا بيان أول نوفمبر، فبالرغم من بساطتهم ومستواهم الإبتدائي، إلا أنهم كانوا أصحاب ثقافة واسعة وعالية، يضيف: «دعوت في كثير من المقالات إلى أن يفكّر المثقّف في إبداع آليات التي تجمع بين العدالة الإجتماعية والحريات الديمقراطية».
ويؤكّد محدثنا أنّ أهم ما هو موجود في البيان هو البعد الاجتماعي للدولة، والذي أصبح اليوم من ثوابتنا والتي كانوا يسمونها الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية أو البعد الاجتماعي.