«سماسرة» الأزمات والمناسبات ينهكون جيوب المواطنين
مع اقتراب موعد الدخول المدرسي، يجد المواطن نفسه بين فكي رحى مطبقة مسكتها عليه، فبين أسعار ترتفع بطريقة جنونية وبين راتب فقد 50 بالمائة من قيمته الحقيقية، تحوّلت المستلزمات المدرسية إلى انشغال حقيقي يؤرق يوميات مواطن أنهكه التضخم وجشع مضاربة لا ترحم، يستغل «سماسرتها» الأزمات والمناسبات والمواعيد الاجتماعية بجعلها فرصتهم الذهبية لتحقيق أرباح غير متوقّعة.
واقع عرّض المواطن لضربات موجعة قصمت ظهره، وجعلته يلجأ إلى حلول ظرفية للإبقاء على حظوظ أبنائه في التمدرس على أكمل وجه، نار مستعرة لم تستثن الأدوات المدرسية وكل سلعة تتعلق بالدخول المدرسي سواء كانت ملابس، مآزر أو حتى الكمامة والسائل الكحولي، لتكون سببا كافيا لتوجه المواطن إلى السلع ذات النوعية السيئة ولو كان ذلك على حساب صحة أطفالهم، فالمهم ألا يبقى طفلهم المتمدرس تحت رحمة أستاذ يطرده من القسم في الأيام الأولى من الدخول المدرسي بسبب عدم شرائه لقائمة أدوات المادة التي يدرسها.
الأسواق الشّعبية لكسر المضاربة
هي أم لثلاثة أطفال واحد منهم يدرس في الطور الابتدائي وواحد في الطور المتوسط وآخر في الثانوي، تتحدث عتيقة جلولي عما تعيشه هذه الأيام بسبب تحضيراتها للدخول المدرسي، حيث قالت: «أصبح المواطن طريدة سهلة لكل مضارب وتاجر جشم يتربّح من حاجته الى الطعام والشراب والتعليم، أحكم التجار قبضتهم على المواطن البسيط حتى بلغوا درجة التلاعب بمصير الكثير منهم، فقد تجرّدوا من كل معاني الإنسانية ليتربحوا من استغلال بشع للمواسم والمناسبات وحتى الأيام العادية».
«أصبحت الأدوات المدرسية تتباهى بأسعارها التي أصبحت تنافس الملابس والسلع الغالية دون الحديث عن الماركات العالمية فقط أصبحت خارج نطاق قدرة المواطن البسيط، ليجد نفسه بين إجبارية شرائها واقتنائها وبين ميزانية أنهكتها المصاريف والنفقات تضاعفت بأربع مرات بسبب ارتفاع أسعار مختلف السلع الضرورية».
وأضافت عتيقة قائلة: «وجدت نفسي اليوم مرغمة على إجبار أطفالي شراء أدوات رخيصة الثمن ذات نوعية سيئة، بل أكثر من ذلك بكى ابني كثيرا عندما رفضت شراء حقيبة ظهر اختارها ليبدأ سنته الأولى في الطور الثانوي، أُجبرت على الرفض لأنّ سعرها يتجاوز 6000 دينار، لأنّني مقيّدة بميزانية محدودة...، بكى كثيرا وغضب لدرجة مقاطعته لي، لكن ما في اليد حيلة هم ثلاثة أطفال متمدرسين يجب توفير أدواتهم وكتبهم المدرسية على أكمل وجه».
اتّفق محمد مصطفاي، أب لأربعة أطفال متمدرسين مع عتيقة حيث قال: «اضطررت إلى تغيير كثير من عادات أسرتي المتعلقة بالدخول المدرسي بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني للأدوات المدرسية والملابس، ففي السنوات الماضية كنت أشتري لهم ملابس جديدة وأحذية، إلى جانب الأدوات ذات النوعية الممتازة بالرغم من ارتفاع سعرها، فالمقلمة وحدها كنت اشتريها بـ 2700 دينار، كنت أتوجّه إلى المحلات ذات الماركات العالمية لاقتنائها، لكن اليوم وجدت نفسي مجبرا على شرائها من التجار الموسميين في مختلف الأسواق الشعبية، التي ورغم انخفاض أسعارها، تبقى مرتفعة بالمقارنة لما كانت عليه في السنوات الماضية».
وعن معاناة المواطن المستمرة مع الارتفاع الأسعار المتواصل والمستمر، قال محمد لـ «الشعب»: «تحول الدخول المدرسي إلى عبء إضافي للأسرة الجزائرية التي أنهكها الوباء وتداعياته على الاقتصاد الوطني، فحتى أنا الذي أتقاضى أجرًا محترما وزوجتي محامية أصبحت أبحث عن الأسواق التي تبيع السلع بأثمان أقل من التي كانت وجهتي الأولى، أفكّر دائما في أولئك الذي يتقاضون أجرا زهيدا لا يتجاوز الـ 20 ألف أو 30 دينارا، كيف يقسّمون هذا المبلغ الزهيد على حاجياتهم اليومية ومصاريف الدخول المدرسي، أصبحت «المعيشة» صعبة على أغلب فئات المجتمع، فحتى أولئك الذين يعيشون في بحبوحة أصبحوا يشعرون بضيق الحياة وصعوبتها».
فقر، حاجة ودخول ملغّم
لا يتجاوز راتبه الـ 25 ألف دينار، متقاعد وأب لطفلتين متمدرستين بالطور الثالث، يرى في الدخول المدرسي بمثابة «جحيم» تاريخه معلوم، يقول جمال براني عن تحضيراته: «بالنسبة لراتبي فلا يكفي حتى مصاريفي اليومية من سلع غذائية وخضراوات، لذلك أعتبر الدخول المدرسي موعدا «لسلخ» الجلد عن العظم، وهو السبب وراء اختيار سوق ساحة الشهداء أو باش جراح لاقتناء مختلف المستلزمات المدرسية لكنها مع ذلك ارتفعت بـ 30 بالمائة مقارنة مع السنوات الماضية».
وعن حلوله التي اختارها للخروج من الضربات المتعاقبة للأسعار، شرح جمال: «تحاول زوجتي الماكثة بالبيت العمل من أجل مساعدتي في المصاريف، فهي مربية أطفال منزلية حددت السعر الشهري للطفل الواحد بـ 7000 دينار، لذلك وفي الموسم الدراسي تتلقى مبلغا محترما كل شهر، أما في العطلة المدرسية فهي تقوم بتحضير «المحاجب» لتوزّعها على مختلف محلات الأكل السريع، ولولا ذلك لكان المستقبل مجهولا، فحتى الاستدانة أصبحت صعبة في وقت تزداد فيه رقعة الفقر اتساعا».
وبينما خفّف عمل زوجة جمال من الأعباء المالية للدخول المدرسي، وضعت أسعار الأدوات المدرسية نجيب في وضع لا يحسد عليه، فبعد أن أصبح بطّالا بسبب طرده من العمل، أصبح الفقر والعوز الصفة المميزة ليومياته، لذلك غالبا ما يكون الدخول المدرسي بالنسبة له امتحانا صعبا أمام أبوته الرافضة للتضحية بمستقبل أبنائه الثلاثة بوقفهم عن الدراسة ليتوجهوا إلى العمل لمساعدته في المصاريف المنزلية، وفي وضع صعب لا يمكن تحمله، وصف ما يعيشه هذه الأيام بسبب الدخول المدرسي قائلا: «أول ما فعلته لتخفيف أعباء الدخول المدرسي رفضت إعادة ابنتي للسنة بعد فشلها في الحصول على شهادة البكالوريا السنة الماضية، بل قبلت بأول شاب طرق بابنا طالبا يدها، ليبقى أخويها المتمدرسين في الطورين الثاني والثالث في انتظار المساعدات التي تقدّمها بعض الجمعيات، وكذا المشرفون على مسجد الحي، بالإضافة إلى منحة التمدرس التي تقدمها الدولة للعائلات المعوزة، فبالرغم من عدم استلامها في الوقت المناسب تبقى غير كافية لتغطية المستلزمات المدرسية، أما الكتب المدرسية فيعطيها لنا جارنا كل سنة بعد انتقال أبنائه إلى القسم الأعلى».
إجراءات الوقاية..عبء إضافي
يرى أغلب الأولياء في البروتوكول الصحي المتعلق بالمدارس عبئا إضافيا على الميزانية، خاصة وأنهم مجبرون على شراء القناع الواقي بصفة يومية والسائل المطهر بالإضافة إلى المناديل، وهو ما زاد من أرق العائلة الجزائرية التي تحاول بكل الطرق الممكنة توفير كل المستلزمات لأطفالها، وقالت في هذا الشأن سميرة، أمّ لثلاثة أطفال أنّها مجبرة على شراء علبة 100 كمامة ثمنها 1500 دينار حتى يستطيع أطفالها ارتداءها دون خوف من انتقال العدوى اليهم بسبب عدم تغيير الكمامة لأسابيع، لذلك اقترحت أنّ توفّر المؤسّسات المدرسية القناع الواقي كل صباح من أجل إبعاد الأطفال عن خطر فيروس كورونا أو سلالاته المتحورة، أو إلغاء إجبارية ارتدائه لأنّ الأسر تعاني بسبب انهيار القدرة الشرائية، فلا يمكن قبول تحايل بعض الأولياء بشراء كمامة واحدة لشهر، وفي بعض الأحيان يرتدي أطفالهم كمامات مستعملة، ما يجعل من ارتدائها مجرّد إجراء لا يؤتي ثماره لأنّه لا يؤدي الدور الصحي المنوط به في منع انتقال العدوى الى التلميذ».
حرزلي: المواطن يتخبّط في «نار» أسعار
وصف رئيس رئيس الاتحاد الوطني لحماية المستهلك، محفوظ حرزلي، في اتصال مع «الشعب» ما تعيشه العائلة الجزائرية أياما فقط قبل الدخول المدرسي بالكارثة، فمافيا الأسواق أصبحت تتحكم عن طريق المضاربة بالأسعار، ورغم الإنتاج الوفير بقيت الأسعار في ارتفاع مستمر ما أنهك جيوب المواطنين وارق يومياتهم، وأكّد وجود احتيال من طرف التجار، الذين يفضّل بعضهم رمي السلع كالخضر من أجل الإبقاء على غلاء الأسعار، وقال إن المواطن أصبح اليوم يتخبط بسبب غلاء مختلف السلع من مواد غذائية وملابس وأدوات مدرسية. ولاحظ المتحدّث أنّ أسعار الأدوات المدرسية عرف ارتفاعا جنونيا في الأسابيع الأخيرة قبل الدخول المدرسي، فلم يستثن المضاربون المدرسة من معادلة الاستثمار في الازمات، والمواسم والمواعيد الاجتماعية، ما اعتبره سلسلة من الممارسات اللاأخلاقية من طرف التجار اتجاه المواطن المغلوب على امره، فهو لا يستطيع التخلي عن واجبه تجاه أبنائه في توفير كل الظروف من أجل دخول مدرسي عادي.
وأكّد أنّ المواطن لن يرهن مستقبل اطفاله وسيفعل كل ما يستطيعه من أجلهم، دون أن ننسى المساعدة التي تقدمها الدولة للعائلات المعوزة للتخفيف من وطأة هذا الموعد المهم في حياة الأطفال، الى جانب ما تقدمه الجمعيات من مساعدات، حيث سيقدم الاتحاد الوطني لحماية المستهلك مجموعة من المحافظ للعائلات المعوزة، وهو تقليد تعودت عليه الجمعية في مختلف المناسبات كالشهر المبارك، الأعياد والحرائق، خاصة وأن العائلة الجزائرية أصبحت تتخبط في مشاكل اجتماعية محضة بعد اتساع دائرة الفقر بسبب الغلاء وانهيار القدرة الشرائية للمواطن.
وأكّد المتحدّث أنّ الأزمة مسّت حتى المتعاملين الاقتصاديين بسبب تداعيات الوباء التي استمرت لما يقارب السنتين، فانهيار قيمة العملة الوطنية خلق هوة بين القيمة الحقيقية للراتب وما تعرفه الأسعار من ارتفاع، فاليوم حتى الموظف الذي يتقاضى راتبا محترما أصبح يجد صعوبة في تأمين احتياجاته اليومية بسبب المضاربة.
وعن الذي يمكن أن تقوم به الجمعيات في هذا الظرف، قال حرزلي إن دور الجمعيات ليس رقابيا بل يقتصر على تحسيس وتوعية المواطن، ولاحظ ان الجمعيات حتى وإن أطلقت حملات مقاطعة لن تلقى تجاوبا من المواطنين، لأنها ثقافة غائبة في مجتمعنا، فعندما يقاطع مثلا سلعة ما كالدجاج تجده يشتري نصف دجاجة أو ربعها، وقال في ذات السياق إن التحسيس، اليوم، يجب أن يتوجّه إلى التاجر وليس المستهلك.
وكشف رئيس الاتحاد الوطني لحماية المستهلك، إنّ الوضع يتطلّب إجراءات جديدة تتخذها الدولة، تتمثل في خلق مؤسسات عمومية للبيع بالجملة، بالإضافة إلى توفير أسواق جوارية تتعامل بصفة مباشرة مع المواطن، مع توفير فضاءات تجارية لهذه المؤسّسات العمومية لمنع أي احتيال من التاجر.