عادات وتقاليد راسخة

تكافل وتآزر في الوادي

مع عودة كل مناسبة اجتماعية ودينية بولاية الوادي، تعود مظاهر التكافل والتضامن لنشر المحبة بين الناس  وتجسد روح التعاون والتآزر الحقيقي بين المواطنين، وترسيخ العادات والتقاليد الحميدة المتأصلة في أوساط المجتمع المحلي منذ قرون.

احتفلت ولاية الوادي بعيد الأضحى المبارك في أجواء ونفحات دينية غمرتها البهجة والسرور والتلاحم والتقارب بين العائلات والأقارب والجيران، في ظل تجسيد العادات والتقاليد العريقة بالمنطقة، التي ميزت الاحتفاء بهذا العيد.
كما لم تثن إجراءات الوقاية من انتشار فيروس كورونا، والتباعد ومحدودية التزاور بين العائلات من الاحتفال وإبراز العادات داخل المنازل، بعيدا عن التجمعات العائلية الكبيرة.
عرفة في كل منزل
يعتبر صيام يوم عرفة في الأوساط المجتمعية المحلية بالوادي من السنـن المتأصّلة، يصومه الكبير والصغير طمعا في الأجر والثواب العظيم، إذ بالكاد يخلو منزل من صائم في يوم التاسع من ذي الحجة في ربوع هاته المنطقة.
ربّات البيوت ينبّهن أفراد العائلة يوم الثامن من ذي الحجة بصيام يوم التاسع منه، ورغبة كل فرد في الاستيقاظ للسحور وأداء هذه السنة المتأصلة، مع شروعهن في تحضير مأكولات ومشروبات السحور خاصة التمر والحليب.
كما تتحول فترات المساء من يوم التاسع ذي الحجة، كأنّها لحظات من رمضان ونفحاته السمحة، مع ملاحظة توافد كبيرا للمواطنين على اقتناء الفواكه والمشروبات الطبيعية واللحوم، حيث تكون شربة الفريك سيدة مائدة إفطار صائمي يوم عرفة، مثلها مثل موائد شهر رمضان الفضيل.
شحذ السكاكين
قبل حلول موعد عيد الأضحى المبارك بأيام تشرع العائلات بالوادي في اقتناء ما يلزمها من سكاكين، إذ يفضل البعض شراءها من الصانعين التقليديين لمثل هذه الوسائل المنزلية، الذين يكثر نشاطهم في مثل هذه المناسبات كسبا للرزق، كما تبدع أياديهم في صناعة أفضل وأجود تلك الوسائل المنزلية.
ويفضل العديد من المضحّين قبل أيام من حلول عيد الأضحى، القيام بإعادة شحذ السكاكين والسواطير المنزلية المتوفرة لديهم، حتى تصبح حادة وجاهزة لعملية نحر الأضحية وتقسيمها بسهولة، كون عملية الشحذ غير مكلفة ماديا، وتتوفر خدماتها في الأحياء من طرف بعض المتخصصين فيها، أو حتى متطوعين حائزين على آلات مخصصة لذات الغرض.
صلاة العيد والتهاني
يتوجه الرجال في الصباح الباكر إلى المساجد لأداء صلاة العيد والاستماع إلى الخطبة التي تشد سامعيها في الغالب إلى مبادئ التسامح والتآلف والتراحم في أوساط المجتمع، ومباشرة بعد انقضائها يتبادل المصلّون التهاني داخل المسجد وفي أروقته الخارجية والشوارع المحيطة به، ثم يتفرقون نحو منازلهم من أجل البدء في نحر الأضحية، في حين يتفرغ آخرون لإعداد كانون الحطب الصحراوي الذي يتميز بنقاوته ورائحته الطيبة وطول مدة حفاظه على شدة الحرارة وتوهّج الجمر.
 تبادل المصلّين للتهاني بعد انقضاء صلاة العيد هذا العام تميّز باتخاذ مختلف إجراءات الحد من انتشار فيروس كورونا، والامتثال للتدابير كارتداء الكمامات واكتفاء الكثير بتبادل التّهاني لفظيا من دون تلامس جسدي ومصافحة.
 كما أن بعض المواطنين فضلوا أداء صلاة العيد والاستماع للخطبة، ثم الخروج مباشرة من المسجد من دون تقديم التهاني منعا لأي تفش محتمل للوباء والإصابة به.
تزاور وتلاحم اجتماعي
يتزاور الأقارب والجيران بعد انقضاء فترة النحر والشواء وتناول اللحم، ويتبادلون التهاني والهدايا والحديث عن مجريات أحداث صبيحة العيد بداية من النهوض مبكرا وإيقاظ أفراد العائلة والتوجه للمقابر لزيارة المتوفين، إلى كل باقي تفاصيل عملية النحر، وحجم الكبش وسعره، وشواء اللحم.
كما تفضل عائلات أخرى تأخير الزيارات إلى فترتي ما بعد العصر أو الليل، للتفرّغ للتنظيف وتقسيم الأضحية وإخراج الجزء المخصص للصدقات، وحفظ الجزء المتبقي جيدا في الثلاجات حتى لا يفسد، نظرا لارتفاع درجات الحرارة في هذه الفترة، وكذلك ترتيب شؤون المنزل والتحضير لاستقبال الضيوف والمهنّئين في ظروف لائقة.
 وتراجع مستوى الزيارات العائلية هذا العام، حسبما لوحظ، بسبب إجراءات الوقاية من انتشار فيروس كورونا، والتخوف من انتشار العدوى، وحتى إن جرت الزيارات يتم فيها مراعاة الوقاية والتباعد وعدم المصافحة.
 الوضع الوبائي والإجراءات المتخذة لمنع تفشي الوباء، فرضت على كثير من العائلات الإحتفال داخل منازلها، وإبراز العادات والتقاليد بعيدا عن التجمعات الكبيرة.
الأضاحي واللحوم للفقراء
جمعيات خيرية كثيرة أطلقت منذ أيام مبادرات لجمع أضاحي العيد ولحومها، لتوزيعها على الأيتام والفقراء والمحتاجين، لضمان مشاركتهم في أيام الفرح والسرور، والتمتع بأيام العيد الثلاثة كغيرهم من فئات المجتمع.
كما تحرص كثير من الجمعيات على تقديم لحوم يوم العيد، بعد الانتهاء من نحر الأضاحي صباحا سواء كانت كباشا أو عجولا، ثم تجزئها بكميات مناسبة، وتوزيعها على الفقراء، مع مراعاة شروط تغليف تلك اللحوم ووضعها في أماكن نظيفة مراعية لشروط الحفظ والسلامة، ومنحها في ظروف خاصة بعيدا عن الازدحام وأعين الناس.
أكد «نبيل قدوري» عضو وناشط في جمعية لمسة حنان الخيرية ببلدية المقرن في تصريح لـ»الشعب»، أن الجمعية نظمت مبادرة خاصة بجمع لحوم الأضاحي، وتم توزيعها على الأيتام والفقراء لإدخال الفرح والسرور عليهم في العيد، وإشراكهم في إحياء هذه المناسبة الدينية المباركة.
الجمعية، بحسب قدوري، استقبلت كميات من لحوم الأضاحي من المتطوعين والمحسنين الذين قاموا بإحضارها إلى مقرات الجمعية، ومنحها لمستحقيها خلال أيام العيد، منوها بأن هناك الكثير من الجمعيات الخيرية في الولاية نظمت حملات لجمع الأضاحي واللحوم في إطار التكافل والتلاحم الإجتماعي، وتوزيعها على الأيتام والفقراء والعائلات المعوزة في أجواء تضامنية.
واعتبر المتحدث، الدور الذي تقوم به الجمعيات الخيرية في المناسبات الدينية ايجابيا، هدفه مساعدة العائلات المحتاجة، مشيرا كذلك إلى مساهمة رجال الأعمال والمحسنين في المنطقة لإدخال الفرح والسرور على الأيتام والمعوزين لتجسيد هذه الشعيرة المقدسة وتوطيد روابط الأخوة والإحساس بالآخر.
 كما تنظم جمعية لمسة حنان في إطار التضامن الاجتماعي، حسب نبيل، خرجات تطوعية صحية لفائدة البدو الرحل المتنقلين في الصحاري على مدار العام، تشتمل على فحوصات وتقديم أدوية مجانية، وغيرها من النشاطات الخيرية والإنسانية التي تسهر الجمعية على تسطيرها وتنفيذها خدمة للمجتمع.
جمع الأضاحي واللحوم لتوزيعها على الأيتام والفقراء والمعوزين تعتبر من المظاهر الاجتماعية الحميدة في ولاية الوادي، من شأنها تقوية أواصر المحبة وروابط الأخوة بين المواطنين، كما أنها حافز لرجال الأعمال والخيرين لتقديم المساعدة في مثل هذه المناسبات الدينية.
حطب صحراوي وشواء على الجمر
يستهوي شواء اللحم على الجمر سكان الوادي خلال أيام عيد الأضحى، وهو من العادات التقليدية التي فرضها نسق الطبيعة الصحراوية منذ القدم، وظلت تلازم العائلات في كل مناطق الولاية.
في القديم عندما كان لا يتوفر غاز وكهرباء للطبخ، كان الحطب الصحراوي هو مصدر الوقود للعائلات وملاذها الوحيد لإعداد الوجبات اليومية، والتسخين، والقيام بمختلف الأغراض المنزلية، ويتميز ذلك الحطب بنقاوته ورائحته الطبيعية الزكية، ويحافظ على طول مدة شدة الحرارة وتوهّج الجمر، وهي خاصية لا تتوفر في أنواع الحطب الأخرى، جعلت منه محل إقبال حتى في حاضرنا لشواء اللحم في المناسبات والأعياد.
مع دخول العشر الأواخر لشهر ذي الحجة، تقوم العائلات بتحضير كميات من الحطب الصحراوي، إمّا بجلبه من أعماق الصحراء بواسطة سيارات أو عربات تجرها دواب، أو شرائه من عند الباعة الذين يكثر نشاطهم في هذا المجال قبل حلول العيد بأيام.
وتتم عملية الشواء بهذه الطريقة بعد إشعال النار في الحطب الموضوع على الرمل، وانتظار تحول جزء منه إلى جمر، ثم يوضع اللحم في شباك فوق الجمر مباشرة مع إضافة مختلف التوابل وأنواع البهارات الأخرى التي تجعل من اللحم ذا مذاق لذيذ ورائحة مثيرة.
وفي هذا الشأن يقول «الطاهر»، رب عائلة يقطن بمدينة الوادي، بأنه يقتني الخشب الصحراوي من عند الباعة الذين ينتشرون خلال فترة العيد بالضواحي، ولا يستغني عنه للشواء في أيام العيد، إلى غاية انتهاء لحم الأضحية.
ومن مميزات الحطب الصحراوي، حسب الطاهر، سرعة اشتعاله وطول مدة توهّج الجمر، وانبعاث دخان نظيف وصحي منه، حيث ينعكس ذلك بشكل ايجابي على عملية الشواء وصحة وسلامة اللحم.    
سكان الصحراء عموما مكّنهم الاستعمال الدائم للحطب الصحراوي في المناسبات والأعياد من اكتساب خبرة في استخدامه لشواء اللحم، وحتى طبخ المأكولات التقليدية الأخرى كـ»خبرة الملة» التي تشتهر بها منطقة وادي سوف وباقي مناطق الجنوب الكبير.
فسحة صحراوية
بالإضافة إلى استخدام الحطب الصحراوي لشواء اللحم في المنازل، تفضّل العديد من العائلات الخروج إلى الهواء الطلق في الصحراء في فترة المساء - ما بعد العصر-، عندما تبدأ درجات الحرارة في الانخفاض والشمس بالمغيب، وذلك للتنفيس والهروب من ضغط جدران البيت، والشّواء على الجمر في أجواء رائعة يمتزج فيها جمال الصحراء وغروبها مع حنين جلسات السمر بالتقاء أفراد العائلة والأقارب.
الكثبان الرملية المترامية التي تشع بلونها الذهبي أيضا تستهوي الكثير من أصحاب السيارات والدراجات رباعية الدفع للتسابق وتعلم مهارات السياقة عليها، رغم أنها محفوفة المخاطر، فأي توقف مفاجئ للسيارة على تلك الرمال يكون مآله غوص العجلات وصعوبة إخراجها ودفعها، إذ يكون تخليصها إلا بتوفر مركبات أكبر حجما رباعية دفع، أو عدد كبير من الشبّان للمساهمة في عمليتي الحفر والدفع.
«سالم» شباب ثلاثيني هاوي للنزهات الصحراوية في المناسبات، قال بأن خرجات العيد تكتسي طابعا عائليا بعيدا عن لمّة الأصدقاء، حيث يقوم في ثاني أيام العيد مساء بجمع أفراد البيت بمن فيهم أخواته المتزوجات اللواتي يأتين للمعايدة وتبادل التهاني مع الأهل، ويتوجه بهم إلى أقرب نقطة صحراوية تحتوي على كثبان رملية نظيفة وحطب صحراوي، تكون قريبة من الطريق الرئيسي حتى تسهل العودة ليلا بعد انتهاء الفسحة العائلية.
إعداد لحم الشواء وتشريحه وتحضير العصائر الطبيعية، حسب سالم، يتم في المنزل ليكون اهتمام الجميع بعد الوصول لنقطة الفسحة المحددة، منْصبًّا على جمع الحطب الصحراوي اختصارا للوقت، وعلاوة على عملية الشواء يتم طبخ الشاي على الحطب، الذي يأخذ بدوره نكهة صحراوية تقليدية رائعة.
ريبورتاج: سفيان حشيفة

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024