ماذا لو خرج سياسيّون في الجزائر، قبل أيّ موعد انتخابي واعترفوا أنّهم بصدد القيام بدعاية انتخابية، يروّجون فيها لوعود وردية ويبيعون الوهم فقط، مخاطبين الجمهور بما قلّ ودلّ «حضرات السّادة والسّيدات..نحن نكذب فقط»، سيكون هذا ربما مشهد لمقطع من مسرحية سياسية، أبطالها ممثّلون فقط، تقمّصوا أدوارا بعيدة كلّ البعد عن الواقع المعيش.
«أكذب وأكذب..حتى يصدّقك النّاس»
الواقع المعيش، يقول عكس هذا المقطع المسرحي، فمنذ قديم الزّمان والكذب هو «أفيون» الحياة السياسية حتى صار المثل «أكذب وأكذب، ثم أكذب حتى يصدّقك الناس» لصاحبه جوزيف غوبلز الألماني، هو شعار سياسيين لا ينتظرون يوم أول أفريل من كل سنة لرمي وعودهم على جمهورهم، تماشيا وكذبة أفريل أو ما يسمى بسمكة أفريل، وهو يوم الكذب والخداع العالمي عن طريق المزحة، بل يمارسونه في كل لحظة يخاطبون فيها الجمهور خلال المواعيد الإنتخابية لكسب أصواتهم.
أوّل الشّهر الرّابع من السنة الميلادية الذي اقترن بسمكة أفريل، سرعان ما ينتهي إلى مجرّد مزحة وضحك بعد التأثير على الضحية، واعتراف صاحب الكذبة بذلك، غير أنّ الكذب المتواصل في السياسة هو «شرّ لابد منه»، إذ يقول العارفون أنّ الكذب ملح السياسة، حيث أصبح هذا الشّعار اليوم مبرّرا لفشل أغلب السياسيّين، مع غياب برامج بديلة ومقنعة خاصة مع اقتراب المواعيد الانتخابية للمؤسّسات الشّعبية، ووسيلة للتّغطية على عجزهم في إقناع النّاخبين بالحجّة والدليل لاستمالتهم صوبهم.
سلاح المترشّحين «الخارق»
على مقربة من تشريعيات جوان القادم، التي لا تفصلنا عنها سوى أسابيع قليلة، حيث تجري تحضيرات الأحزاب لها بوتيرة متسارعة، وفي انتظار عرض التشكيلات السياسية لبرامجها الانتخابية، شرعت في محاولات التّأثير على النّاخبين عبر خطابات جديدة ومختلفة، وبوجوه جديدة أيضا في محاولات لكسب تعاطف النّاخبين، وإيهامهم بقدرتها على إصلاح مسارها، أو مسار السلطة أيضا، مع استعراض العضلات في هذا الوقت بالذات، وهو كلام ينطبق على جميع الأحزاب.
تصريحات بدأت منذ مدة تستفزّ المواطن، فقد خرج أبو الفضل بعجي، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني منذ أيام ليخبرنا أنّ «الأفالانيّين» يستعدّون للاحتفال بذكرى حراك 22 فيفري 2019، بينما لم تكن خرجة غريم الأفالان التقليدي لسنوات أقلّ غرابة، حيث أكد الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، الطيب زيتوني، أنّ «حزبه كان في الصّفوف الأولى لحراك 22 فيفري 2019»، ما جعل منصات التواصل الاجتماعي تنفجر سخرية ممّن أسموهم «الأحزاب الأجهزة» التي اعتمد عليها النظام السابق لإطالة عمره. وهذا تمهيدا للحزبين للانخراط في الاستحقاقات المقبلة.
هذه عيّنة فقط، بدأت في عملية «التّسخين» استعدادا للدخول إلى موعد جوان المقبل، دون الخوض في تجارب سابقة عرفتها الجزائر، حيث كان فرسان المرادية يمنّون الناخبين بوعود وردية لا يزال الشّعب الجزائري يتجرّع مرارتها ليومنا هذا. فلا «يابان إفريقيا» أضحت الجزائر، ولا السّجون أغلقت أبوابها ولم يتحقّق بذلك تلك الوعود الزّائفة والخارقة للكذب، وبالرغم من ذلك فقد أصبح الكذب والوعود الانتخابية سلاح يستخدمه المرشّحين والأحزاب لكسب الأصوات فقط.
فقدن للثّقة وعزوف..
حاليا تستعد الجزائر لأن تتحوّل خلال الحملة الانتخابية المقبلة التي تنطلق في 17 ماي الداخل إلى حلبة للمصارعة، البطل فيها هي «وعود كاذبة» التي يسوّقها المتسابقون على كراسي المجلس الشعبي الوطني، كما حدث خلال استحقاقات مماثلة أين استغلّ المترشّحون حاجة ساكنة القرى والأرياف الملحة، إلى تحسين الظّروف المعيشية للتأثير عليهم وكسب أصواتهم، ما اضطرّ النّاخبون لإغماض عيونهم، ومحاولة تصديق تلك الأوهام، بالرغم من أنّهم متيقّنون من أنها لا تعدو سوى أن تكون مجرّد حملة انتخابية فقط، ووعود تنتهي بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات.
هذا الأمر - حسب المختصّين في المجال النّفساني - يعتبر من بين أهم عوامل فقدان الثقة بين الناخب والمنتخب عليه، وما بين الشّعب والسلطة أيضا، متسبّبا في عزوف انتخابي، لا يزال هو «البعبع» الذي تخشاه السلطة في كل استحقاق تشهده الجزائر، حيث يقول العارفون أنّ الوعود الانتخابية ولّدت حالة من الإحباط في صفوف الناخبين بعد اكتشافهم وهمَ ما كانوا يتلقّونه من وعود.
فالأكاذيب السّاذجة التي تثير الغرابة والضّحك التي لا يصدّقها أي شخص، أضحت سببا في تفاقم أزمة الثقة، حيث أصبح يلاحظ على السّاحة السياسية كما يلاحظه المترشّحون، برودة في تعاطي النّاخبين مع تجمّعاتهم ولقاءاتهم خلال الحملة، ولسان حال المواطنين «أصبحنا مزارا خلال الحملات الانتخابية فقط، من خلال تقديم وعود وردية، ثم تختفون ولا نراكم مدة خمس سنوات أخرى».
«الفايدة..نرجعوها جنّة»
كعيّنة من وعود نوّاب العهدة الثامنة للمجلس الشعبي الوطني التي لم تكتمل، بعد حلّ المجلس الشعبي الوطني من قبل الرّئيس، هناك من وعد بتحويل الجزائر إلى جنة، وكأنّه يملك خاتم سليمان أو عصا موسى، وهناك من وعد برفع نسبة النجاح في التعليم لتصبح 100 في المائة، ونقل الجامعة عبر الفضاء الأزرق، وهناك من لعب على الوتر الاجتماعي للجزائريّين، ووعد بتزويج كل العزّاب والعازبات مع ضمان السّكن اللاّئق، وتقديم منحة بطالة، وإكرام العرسان الشباب بمسكن لائق.
ومن بين وعود المترشّحين، كما نتذكّر جميعا أنّه وعد بترك هاتفه مفتوحا لمدة خمس سنوات من سنة 2017 إلى غاية سنة 2022 - كانت من المفروض نهاية العهدة الماضية، قبل حل الغرفة السفلى - وهذا للرد على انشغالات المواطنين، متعهدا بأن يرد على كل مكالمة يتلقاها في أي وقت، فيما قال أحدهم في ذلك الوقت إنّه سينقل مكتبه من قصر زيغود يوسف إلى بيته لاستقبال المواطنين والمساهمة في حل مشاكلهم، وغيرها من الوعود الكاذبة السّاذجة التي تحوّلت إلى محلّ سخرية الجزائريين، غير أنّ الواقع يقول عكس ذلك فلو كانت الوعود توفّى لوفّاها السّاكنون في البرلمان منذ سنة 1997 إلى سنة 2021.
ميثاق أخلاقيات الحملة الانتخابية
في آخر استحقاقات رئاسية في الجزائر، اعتمدت السّلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات لأول مرة في تاريخ الجزائر على ميثاق أخلاقيات الحملة الإنتخابية، الذي وقّعه المترشحون الستّة في ذلك الوقت، حيث يهدف إلى ضمان حسن سير الحملة الانتخابية، وينص على «المبادئ التّوجيهية والممارسات الخاصة التي تشكّل إطار السلوك الأخلاقي المنتظر من فاعلين ومشاركين في العملية الانتخابية». والسؤال المطروح اليوم على هيئة محمد شرفي: هل ستعتمد هذا الميثاق خلال التشريعيات؟ وهل سيحمل في طيّاته نصوصا لمحاربة الأكاذيب الخيالية، التي تجعل من المترشحين مجرّد مهرّجين لا سياسيين؟ سؤال ستجيب عنه السّلطة المستقلّة في قادم الأيام.
أكذب أكثر..فرصة أكبر
قد تكون للسياسيّين الذين يكذبون أكثر من غيرهم فرص أكبر في الفوز بالمناصب، كما تقول دراسة جديدة. أجريت سنة 2020 من قبل خبراء الاقتصاد في جامعتي باث في المملكة المتحدة وكونزتانز في ألمانيا تجربة انتخابية في المختبر شارك فيها 308 أشخاص، وجدت أنّ المرشّحين الذين يتقدّمون في مجال السياسة هم «الأكثر استعداداً للنّكث بوعودهم الانتخابية».
وبين الوعد والنّكث خيط رفيع، لكن الأكيد في كلّ هذا أنه وبعد الاستحقاقات المقبلة، هل سيستيقظ الجزائريّون على مرحلة جديدة، آملين في أن يفي الفائزون بمقاعد في القصر التشريعي بوعودهم وتخليصهم من مشاكلهم وهمومهم، خاصة وأنّهم شطبوا عليهم في القائمة الانتخابية عكس كل المرات التي كانت تحدث، أم أنّهم سيصطدمون بمشاهد متكررة؟
تساؤلات سيجيبنا عنها أوّل برلمان في عهد «الجزائر الجديدة».