التقرير اختزل جرائم فرنسا في أودان وبومنجل
جيش الحدود أكذوبة ابتدعتها فرنسا
ذاكرة المكان تدل على مآثر الأمة وهويتها
انتقد الباحث في التاريخ صادق بخوش، تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، الذي حصر الذاكرة الجماعية للحقبة الاستعمارية في ثورة التحرير و»معركة الجزائر» سنة 1957، بينما سعى إلى تجاهل ما قبل هذه المرحلة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في بلادنا. كما أنه تناول بشكل يثير تساؤلات مسائل لا تعنيه وهي ضرورة إدراج مسألة المصاليين في الذاكرة، وهي مسألة جزائرية جزائرية محضة، يقول بخوش، مشيرا إلى أن ستورا أخرج التاريخ من مساره العلمي إلى مسار غير علمي، أي فيه قصد لمحاولة تمييع مسألة الذاكرة.
تطرق صادق بخوش لدى استضافته في «ضيف الشعب»، إلى عدة مسائل متعلقة بالذاكرة التاريخية وما طرحه ستورا في تقريره المعنون: «مسائل الذاكرة حول الإحتلال وحرب الجزائر»، الذي يتحدث فيه عن الذاكرة وليس التاريخ، موضحا أنه يجب الفصل بين هذين المصطلحين، حيث أنه لكل إنسان ذاكرة خاصة، فهي مسألة ذاتية فردية أكثر منها جماعية. في حين التاريخ يخضع للعلم والقرائن والدلائل.
وأضاف بخوش، أن المؤرخ الفرنسي يحصر في تقريره هذه الذاكرة الجماعية بين ضفتي البحر المتوسط في ثورة التحرير ومعركة الجزائر سنة 1957، ويسعى ليلغي ما قبل هذه المرحلة أو يتجاهلها. علما أن ذاكرتنا تمتد على مدى 132 سنة وما ثورة التحرير التي دامت سبع سنوات ونصفا ومعركة الجزائر، إلا نقطة في بحر هذا التاريخ. مبرزا أن الإستعمار الفرنسي لبلادنا، استعمار من نوع خاص مختلف عن كل المستعمرين الذين سبقوه، فهو استعمار للأرض، بحيث غيّر المشهد في الأرض الزراعية لصالح الاقتصاد الفرنسي، للمعالم التاريخية والتراثية بإعادة بناء معمار أوروبي جديد من أجل مسح ذاكرة المكان، هذه الأخيرة التي تدل على مآثر الأمة وهويتها، تحويل المساجد إلى كنائس وإسطبلات للحيوانات.
إضافة إلى الإبادة الجماعية التي قام بها المجرمون من أمثال بيليسي وبيجو وغيرهم... تفتيت وتشتيت القبائل ونفيهم إلى مناطق، معظمهم مات جوعا وفقرا وبؤسا. وكذا الطرد التعسفي لكثير من المناضلين بعائلاتهم إلى كاليدونيا «كايان»، المشرق العربي والمغرب وتونس وتحقير الإنسان الجزائري بإعطاء أسماء نابية ووقحة.
ويذكر الباحث، عملية أخرى أخطر وقليل ما يُتحدث عنها، هي القضاء على اللغة وتشويه الدين وبث نعرات قبلية وعشائرية وأساطير كاذبة، حيث طبقت على الجزائريين جملة من العلوم والنظريات الإستعمارية تسمى الأنثربولوجيا والإيثنولوجيا وعلم الإجتماع، وأحدثت مدارس لتخريج العشرات من العلماء العسكريين من المخابرات الذين يبيدون الشعب وضباط آخرين مكلفين بما يسمى المكاتب العربية، يتعلمون اللهجات المحلية ويتقنون اللغة العربية، كما أبدعوا في تأليف كتب ووثائق مضللة وأخضعوا الجزائريين إلى تجارب بتشريح بعض أعضاء جثة الشخص حتى يبرروا نظرية عنصرية مفادها، أن هذا الإنسان الذي له أعضاء معينة خطر على المجتمع الذي يريده الفرنسيون.
إضافة إلى ترسانة القوانين الجائرة العنصرية، مثل قانون كريميو وسيناتوس كونصولت وغيرها، وإجراءات أخرى تمنع الإنسان حتى أن يفكر.
وأوضح «ضيف الشعب»، أن ستورا لا يذكر في تقريره إلا الذاكرة الفرنسية، أي خروج الفرنسيين بعد ثورة التحرير وهروبهم من الجزائر كمكونات، علاوة على 80 ألف حركي. وبحسب المؤرخ الفرنسي، فقد تركت هذه المسألة جرحا لا يندمل بسيكولوجيا. ففرنسا اليوم يهمها عواطف الأقدام السوداء المقدر عددهم بأكثر من نصف مليون مهاجر وأخذت حقوقهم التي بقيت في الجزائر وليس لهم الحق في زيارة هذا البلد وأكثر من مليون ونصف جندي وضابط فرنسي، يقول بخوش.
وأضاف، أن تقرير ستورا يركز على اليهود بشكل كبير ويقول بأن الوجود اليهودي في الجزائر منذ مئات السنين. ويستشهد بأن الكاهنة كانت يهودية وهذه النقطة لم يحسم فيها التاريخ، قائلا: «ستورا، كعادته، يخطئ في كتبه بما في ذلك ذكره أن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد من الجيش الفرنسي، ولقد صحّحت المسألة، لذلك فإن مؤرخا لا يدقق مسألة مشينة».
وقال أيضا، إن المؤرخ الفرنسي يحشر أنفه في مسائل لا تعنيه عندما يثير مسألة المصاليين، على أساس أنه يجب أن تدرج في الذاكرة ويجب إماطة اللثام عن الأشخاص المختفيين الذين لم يعثر لحد الآن لا على قبورهم ولا عن معلومات تدل على زمن ومكان وكيفية قتلهم.
ويضيف بخوش، أنه من غرائب التاريخ لدى هذا المؤرخ، الذي لا نلومه ولا نشتمه عندما يتحدث عن المختفين من الجزائريين، يذكر موريس أودان بوصفه أوروبيا وعلي بومنجل الذي كان له صديق فرنسي من الشخصيات الكبرى يدعى روني كابتونت وهو محام للثورة، باستثناء هذين الشخصين لا يذكر أحدا، لكنه يشير جزافا إلى ما جرى في معركة الجزائر التي كان فيها خيال كل مجرم مفتوحا.
معهد لتخريج علماء التعذيب والإبادة
في هذا الشأن، أكد ضيف الشعب، «أن فرنسا الدولة الوحيدة في تاريخ الإنسانية المعاصرة التي أسست معهدا عاليا بسكيكدة أسمته جاندارك، مختصا في تخريج علماء التعذيب والإبادة. وهذه المسألة لم تذكر في تقرير ستورا، هذا الأخير يريدنا ان نتصالح مع ذاكرتهم، أي مصالحة فرنسية فرنسية، بينما ذاكرتنا تهمل وإن كانت المصالحة مع الجزائر ستكون لاعتبارات أخرى»، قال الباحث.
وأشار إلى تركيز التقرير بشكل كبير على الذين اختفوا في وهران، وهؤلاء لم يقتلوا من طرف المجاهدين، إنما قتلوا من طرف المنظمة المسلحة السرية الفرنسية الإرهابية «OAS»، كما تجاهل ستورا 140 ألف جزائري الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية دفاعا عن فرنسا وأكثر من 400 شهيد ماتوا بسبب الألغام التي زرعتها وأكثر من 152 مناضل نفذ فيهم حكم الإعدام بالمقصلة بأمر من المجرم فرانسوا ميتران، الذي كان أنذاك وزيرا للعدل. ويتحدث عن حرب الجزائر على أنها أحداث أو عملية ضمان الأمن، مضيفا أن ديغول لم يهتم بمسألة الذاكرة، كان يهمه تحرير فرنسا من فرنسا عندما أصبحت دولته تنعت في الأمم المتحدة بأنها دولة مجرمة، وبعد الإستقلال حاول التموقع كزعيم فمدّ يده إلى دول العالم الثالث وكانت له شبه علاقة نسبيا إيجابية مع الجزائر، لكن لمدة أربعين سنة أصبح فيه شيئ من النسيان بين الطرفين، حيث دخلت الجزائر في ظروف قاهرة بتهريب الأموال والملفات والأرشيف، ولم تقم فرنسا بمرافقة الدولة الجزائرية الحديثة، مثلما نصت عليه اتفاقيات إيفيان، بل ساعدت على حرب أهلية، قال ضيف الشعب. وفي هذا الصدد أكد أن جيش الحدود أكذوبة ابتدعتها فرنسا من أجل تقسيم الجزائر.
ستورا قسَّم الأرشيف إلى إداري وعسكري
وفيما يتعلق بمسألة الأرشيف، أوضح بخوش أن ستورا يذكر نوعين من الأرشيف؛ تسييري يتعلق بالعمالات الثلاث: الجزائر العاصمة، وهران وقسنطينة، أي كل ما يتعلق بالإدارة والميزانية، ترك تقريبا من 2 إلى 3 من حجمه العام في الجزائر. وأرشيف استراتيجيتي وعسكري تحديدا. ويقول المؤرخ الفرنسي، إن هذا الأخير من صلاحيات الدولة الفرنسية وجزء من سيادتها ولا يحق للجزائريين الحصول عليه. بل يذهب للقول إن فيه أرشيفا بقي في الجزائر يجب على الجزائريين تسليم نسخ منه.
وأضاف «ضيف الشعب»، أن رد ستورا على عبد المجيد شيخي المكلف بملف الذاكرة، لما قال إن فيه قانونا دوليا يحكم هذا الأرشيف وإن الوثيقة بنت المكان، كان ردا سياسيا وليس علميا مستعملا مادة في القانون وهو نوع من التحايل بالقول إن الجزائر كانت في ذلك الوقت فرنسية وبالتالي لا يحق للجزائريين المطالبة بشيء تملكه فرنسا وهم كانوا فرنسيين إذن فالوثيقة فرنسية.
وبحسب ستورا، فإن ما يقوله شيخي عن القانون الدولي، لا يحق في هذه المسألة. ويذهب إلى أكثر من ذلك، بما يسمى سيادات الدول، وأنه لا يمكن أن تفرض دولة على أخرى قوانينها. ويقول مادام وقع في اتفاقيات إيفيان على العفو الشامل بين الطرفين على عدم وجود متابعات وفيه تسامح، لا يحق للجزائر اليوم المطالبة، بل يجب أن تفتح ما لديها من الأرشيف للباحثين الجزائريين والفرنسيين للإطلاع عليه. كما يتحدث عن أرشيف موجود في الشهادات والأفلام ويذكر معركة الجزائر، وبذلك المؤرخ الفرنسي أخرج التاريخ من مساره العلمي إلى مساره غير العلمي في محاولة لتمييع ملف الذاكرة.