عادت الدبلوماسية الجزائرية، بقوة إلى المشهد الإفريقي، في الأسابيع الأخيرة، مؤكدة الاستعداد لإعادة بعث التعاون الثنائي والمتعدّد مع دول القارة. وتجلى ذلك من خلال الأجندة المكثفة لوزير الشؤون الخارجية صبري بوقدوم.
«..إن الجزائر الجديدة الجاري تشييدها ستضطلع من الآن فصاعدا، بدورها كاملا في إفريقيا وفي العالم» بهذه الكلمات خاطب رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون قادة دول الإتحاد الإفريقي في قمة 09 فيفري من العام الماضي، بأديس أبابا.
ولا شكّ أن المقصود بالدور الكامل، هو توظيف الثقل الدبلوماسي بكل أدواته السياسية والاقتصادية، وكل الخبرات الأمنية، للانخراط بشكل أقوى في تقاسم الأهداف المشتركة بشكل ثنائي أو متعدّد مع جميع الدول الإفريقية، بعد سنوات من ترك المساحة شاغرة.
وإن حافظت الجزائر على نفوذها وتأثيرها، داخل معظم مفوضيات الاتحاد الإفريقي، فإن دورها في التكتلات الجهوية الأربع للقارة، ظلّ شبه غائب لعدة سنوات، واقتصر على العلاقات الدبلوماسية العادية التي لم تتطوّر أو تتوسّع إلى مجالات أخرى.
ومنذ مطلع السنة الماضية، عاد صوت الجزائر ليصدح عاليا، في إفريقيا، ويكشف عن عودة أقوى تليق بالإرث والمكانة التاريخية لها، خاصة وأن بعض المحللين يعتقدون أنها تقدمها الصف الإفريقي من صميم مسؤوليتها المنوطة بها وليس مجرد سعي وراء نفوذ أو غلبة دبلوماسية.
ومثلما قادت في ستينيات القرن الماضي، الحركات التحررية ضد للاستعمار، أعلنت بشكل جلي استعدادها لقيادة الحركية التنموية الرامية إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي للدول الإفريقية في آفاق 2063، وأنشأت لهذا الغرض الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية، بمهام وأبعاد موجهة إلى إفريقيا وخصوصا الساحل الإفريقي.
أجندة مكثّفة
بعد كشف رئيس الجمهورية، عن الخطوط العريضة لسياسته الخارجية، والتي تولي أهمية قصوي للقارة الإفريقية، باشرت الدبلوماسية الجزائرية، عملية التنفيذ على الأرض، وإن تعثرت في وقت سابق بسبب حالة الإغلاق للتصدي لوباء كوفيد-19، فقد عادت بقوة في الأسابيع الماضي من خلال جولات ماراطونية لوزير الشؤون الخارجية صبري بوقدوم.
وكان الوزير بوقدوم، قد أكد في 02 جانفي الماضي، أن عودة رئيس الجمهورية من رحلته العلاجية بألمانيا سترفع من وتيرة العمل الدبلوماسي والاستجابة لكل التحديات وليس فقط ملف الصحراء الغربية.
ويكفي تصفح الحساب الرسمي لوزير الخارجية بموقع تويتر، للاطلاع على مدى كثافة النشاط الدبلوماسي منذ 30 ديسمبر 2020 إلى غاية 17 فيفري الجاري، مقارنة بالفترات السابقة.
ويمكن إحصاء أزيد من 23 نشاطا رسميا لبقدوم، يخصّ العمل الثنائي أو المشترك في القارة الإفريقية لوحدها، وتتصدر ليبيا وتونس ومالي، القائمة، باتصالات ولقاءات واجتماعات.
محطة في كيدال
وفي سابقة هي الأولى من نوعها، ترأس وزير الخارجية الدورة 42 للجنة متابعة اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، والذي احتضنته لأول مرة مدينة كيدا أقصى شمال البلاد. ومعروف أن هذه المدينة تمثل المعقل الرئيسي لأكبر الحركات السياسية في مالي، وكان من الصعب جدا على الماليين أنفسهم دخولها حتى أثناء الحملات الانتخابية.
وغرّد بوقدوم عبر تويتر، أن احتضان كيدال لأول مرة اجتماع من هذا النوع
«حدث غير مسبوق ومؤشر هام، من شأنه إعطاء دفعة قوية لمسار السلم والمصالحة الذي ترعاه الجزائر بالتعاون مع اللجنة الدولية».
ويفهم من الحدث، أن الوحدة الترابية والوطنية لمالي، أخذت المسار الصحيح وبات أكثر قوة، مقارنة بالسنوات الماضية، وتحتاج إلى مواصلة الدعم والمساندة من قبل المجموعة الدولية حتى يخرج البلد إلى برّ الأمان من خلال تطبيق اتفاق الجزائر، الموقع سنة 2015، بعد 08 أشهر من المفاوضات الشاقة والعسيرة بين الحكومة المركزية وحركات الشمال.
وفي طريق من باماكو إلى كيدال، توقف وزير الخارجية بمدينة غاو، أين استذكر روح شهيدا الواجب، القنصل العام بوعلام سايس ونائبه طاهر تواتي الذين اختطفا من قبل جماعة إرهابية سنة 2012، وقال «ستبقى ذكراكم في قلوبنا..لا ولن ننسى».
متابعة عن كثب
زيارة بوقدوم إلى مالي في 10 و11 من الشهر الجاري، كانت الثالثة له، منذ الإطاحة بالرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا في أوت من العام الماضي، بعدما كان أو مسؤول أجنبي رفيع يصل باماكو بعد وقوع التغيير غير الدستوري.
وأقنعت الجزائر اللجنة العسكرية في مالي، بتعيين مدني كرئيس دولة لتسيير فترة انتقالية لا ينبغي أن تتجاوز 18 شهرا، حتى لا تنزلق الأوضاع وتصمد مؤسسات الدولة، كما حرصت على ضمان الحفاظ على اتفاق الجزائر المبرم بين الحركات السياسية والسلطات الانتقالية الجديدة.
وأكثر من ذلك، تضمنت الحكومة الانتقالية الحالية وزراء من الفصائل السياسية، وهي رسالة قوية، على الدعم والعناية التي توليها الجزائر لهذه الجارة الجنوبية، ورفضها تكرار نفس الأخطاء التي وقعت في الماضي القريب وحوّلت البلد إلى برميل متفجرات بلغت شظاياه معظم دول الجوار.
والتقى بوقدوم، بالعاصمة المالية، رئيس الدولة باه نداو، ونائبه العقيد عاصمي غويتا، وكذا وزير المصالحة العقيد إسماعيل واغي، وقبلهم وزير الخارجية زيني مولاي، حيث أجرى مباحثات «بناءة نوقشت خلالها العلاقات الثنائية وكيفية الدفع قدما بعملية السلم والمصالحة الوطنية التي ترافقها وتدعمها الجزائر».
اجتماع لجنة الأركان
تزامن وصول وزير الخارجية إلى باماكو، مع انعقاد اجتماع مجلس رؤساء الأركان لدول أعضاء لجنة الأركان العملياتية المشتركة التي تضم الجزائر، مالي، النيجر وموريتانيا.
وشارك في الاجتماع، وفد من أركان الجيش الوطني الشعبي، بقيادة اللواء محمد قايدي، رئيس دائرة الاستعمال والتحضير لأركان الجيش الوطني الشعبي، بصفته ممثلا للفريق سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي بدعوة من العميد امرو ديارة، رئيس الأركان العامة للجيوش المالية.
اللواء محمد قايدي، أكد خلال الاجتماع على ضرورة تضافر الجهود «في إطار تعاون واضح وصريح بين الدول الأعضاء»، يرتكز خاصة «على تبادل المعلومات وتنسيق الأعمال على طرفي الحدود، بالاعتماد، أولا، على الوسائل والقوى الذاتية».
ويحيل بذلك إلى أهمية بناء القدرات الذاتية للدول الأعضاء، لمواجهة التهديدات الأمنية بجميع أشكالها، بما يتماشى ورغبات شعوب المنطقة التي باتت ترفض بشدة التواجد العسكري الأجنبي وبالأخص الفرنسي، في ظل تصاعد العلميات الإرهابية شمال مالي وفي منطقة الحدود الثلاثة بين مالي والنيجر وبوركينافسو.
ومنذ 29 جانفي المنقضي، يتولى خبراء من بعثة الأمم المتحدة في مالي (ميونيسما) بالتحقيق، في حادثة الغارة الفرنسية التي أودت بحياة 20 شخصا على الأقل وسط البلاد، وفق ما كشفته البعثة، «وتحدّث قسم حقوق الإنسان مع شهود في المكان، وتمكن من التحقق من معلومات معينة وتوصل إلى نتائج ستدون في التقرير النهائي»، بحسب ذات المصدر.
هذا الحادث الذي زاد من حنق الشعب المالي ضد القوات الفرنسية، جعل الصحيفة الفرنسية الشهيرة ميديا بارت، تعنون، الثلاث مقالا لها بـ: «فرنسا تغوص في مستنقع الساحل.. عملية برخان في طريق مسدود»، وتقول فكرته إن الشكوك حلت محل الآمال التي عقدت على برخان وقدرتها على مساعدة دول الساحل في محاربة الإرهاب بسبب الإستراتيجية الأمنية التي تتبعها.
ليبيا .. تنسيق وحضور مكثف
ولا يقل الوضع في مالي، أهمية عن الوضع في ليبيا بالنسبة للجزائر، وإن كانت هناك بعض الفوارق والتعقيدات الواضحة بين الملفين، فمن الصعب أن يفلت ما يجري في الجارة الشرقية من أيدي الدبلوماسية الجزائرية، بعد الآن.
ورغم الضغوطات التي مارستها بعض القوى، لإبعاد الجزائر عن الملف الليبي، أو لإرغامها على الانحياز لطرف على حساب آخر، إلا أن رسالة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون كانت في غاية الوضوح: « لا حل في ليبيا دون الجزائر، ولا حل يتعارض مع مصالح الجزائر».
الدور الجزائري في ليبيا، يتضح من خلال نشاط وزير الخارجية صبري بوقادوم، الذي قام بـ 7 جلسات عمل مع مسؤولين ليبين في ظرف أسبوعين (من 27 جانفي إلى 12 فيفري).وخلال زيارته إلى طرابلس التقى بوقدوم بقيادات الهيئات الليبية السابقة، كرئيس المجلس الرئاسي السابق فايز السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ووزير الخارجية محمد الطاهر سيالة، وحمودة سيالة رئيس مجلس النواب في طرابلس.
وفور انتخاب سلطة تنفيذية جديدة، في جنيف، تباحث بوقدوم، مع رئيس الوزراء المنتخب عبد الحميد دبيبة، وموسى الكوني نائب رئيس المجلس الرئاسي «تجدّد فيه التأكيد على التعاون والتواصل ودعم الجزائر للسلطة الليبية المؤقتة وتضامنها المطلق والدائم مع الشعب الليبي».
ولطالما دعت الجزائر إلى تغليب الحوار بين الليبيين وإبعاد التدخلات الأجنبية، وهو ما نقله وزير الخارجية ليان كوبيشن الممثل الخاص للأمين العام في ليبيا، إلى جانب «سبل الدفع بالمسار السياسي الأممي لحل الأزمة الليبية ودور الجزائر ودول الجوار في دعم هذه الجهود بما يحفظ وحدة وسيادة هذا البلد الشقيق بعيدا عن التدخلات الأجنبية»، وذلك خلال مكالمة هاتفية بادر بها الأخير.
جولة ماراطونية
إلى الجانب الملفين الليبي والمالي، قام وزير الشؤون الخارجية صبري بوقدوم، في الفترة الممتدة بين 12 و26 جانفي الماضي، بجولة إفريقية شملت 6 بلدان، واستهلها من جنوب إفريقيا، ثم مملكة لوسوتو فأنغولا، وصولا إلى كينيا والكونغو الديمقراطية، وانتهت بليبيا.
وفي نوفمبر الماضي، زار رئيس الدبلوماسية الجزائرية، نيجيريا، والتقى لأول مرة بممثل المجموعة الاقتصادي لغرب إفريقيا، أين تقرّر بعث العلاقات المثمرة بين هذا التكتل الجهوي مع الجزائر.
وتجلى ذلك في مداخلة الوزير بوقدوم، في اجتماع لجنة الاتحاد الإفريقي المكلفة بإصلاح مجلس الأمن، التي تمسّكت فيها الجزائر «بالموقف الإفريقي الموحد، بضرورة تصحيح الظلم التاريخي الني تعرضت له إفريقيا عبر منحها مقعدين دائمين وتوسيع تمثيلها في المقاعد غير الدائمة مع ضرورة إصلاح أساليب عمل المجلس».
ومن الواضح، أن محور الجزائر - بريتوريا، انتعش كثيرا في الأسابيع القليلة الماضية، فبعد الاستقبال الكبير الذي حظي بها من قبل رئيس جنوب إفريقيا، تجدد الاتصال بين بوقدوم ونظيرته ناليدي باندور، أين تم التطرق إلى «عديد القضايا ذات الاهتمام المشترك» والمواضيع «المتعلقة بالعلاقات الثنائية المتميزة».
وتتواصل محادثات الوزير بوقدوم، مع نظرائه من باقي الدول الإفريقية، حيث تحادث الثلاثاء مع فريدريك شافا الذي عين وزيرا للشؤون الخارجية والتجارة الدولية لجمهورية زيمبابوي، وقبله مع وزير خارجية التشاد أمين أبا حسين.
وخلال هذه الجولة، أوصلت الجزائر للعالم، أنها استعادة دورها الطبيعي، في القارة الإفريقية، كبلد محوري مؤثر، ويتصدّر الصف الأول للدفاع عن الحقوق التاريخية للأفارقة، وتحقيق الأهداف التنموية.
والمتوقّع أن تمهد هذه الجهود الكثيفة، إلى نتائج ملموسة على المدى، تسجل من خلال العودة الفعلية للجزائر إلى صدارة العمل القاري، واستعادة مكانها الطبيعي، بعدما استغلت أطراف غيابها لتحقيق أجندات تتعارض مع المبادئ التأسيسية للاتحاد وتستهدف بشكل مباشر المصالح الاستراتيجية الجزائرية.
ويتزامن العمل الدبلوماسي، مع الاستعدادت الجيدة التي قامت بها الحكومة لدخول منطقة التجارة الإفريقية الحرة، كفتح المعابر البرية للتجارة مع الشقيقة ليبيا وتقنين تجارة المقايضة مع دولتي النيجر ومالي، وإنعاش المبادلات والتعاون مع موريتانيا.
ومع دخول الطريق العابر للصحراء الجزائر - لاغوس حيز الخدمة شهر جوان المقبل، ستعرف العلاقات الاقتصادية بالمنطقة تحولات غير مسبوقة، في انتظار بناء ميناء الوسط بشرشال (تيبازة).