* الثورة دفعت الفكر الإنساني لمراجعة جذرية للمنظومة القانونية الدولية
امتاز بيان أول نوفمبر 1954 بالوحدوية والشمولية فهو بسيط في كتابته واضح في معناه، يتوجه مباشرة إلى الشعب دون وسيط، ثم المناضلين المخلصين ولم يتوجه إلى الاستعمار إلا ليطرح عليه الخيار النهائي بين تحقيق الاستقلال بالسلم أو تحقيقه بالقوة.
هذه الوثيقة التاريخية ما تزال لحد الآن مرجعية الشعب الجزائري في بناء دولته، من كتبوها لم يتخرجوا من كبرى الجامعات..
في قراءة للبيان، خصص المجاهد محمد جغابة الفصلين الأول والثاني من كتابه « بيان أول نوفمبر دعوة إلى الحرب، رسالة للسلام قراءة في البيان» لمناقشة شكل الوثيقة التاريخية ومضمونها، معتبرا البيان كنز وثائق الثورة التحريرية ومطلع أدبيات الحركة الوطنية بمختلف أطوارها الذي لا يزال يثير النقاشات الأكاديمية والسياسية والإيديولوجية وحتى الفلسفية، لأنه لم يكشف بعد عن كل أسراره ومحتوياته وأبعاده.
البيان يمتاز بديمومته خاصة في الظروف المتأزمة كمرجعية كيانية، بني على مبادئ خالدة وأصبح أسطورة القرن العشرين يحفظها الأصدقاء والأعداء ويقتدي بها.
وأبرز جغابة أن هذه الوثيقة التي تجمع الكل حولها مهما كانت فعالياتهم السياسية أو تركيباتهم التنظيمية من أحزاب ونوادي فكرية أو تيارات أيديولوجية، هي المرجعية الأساسية ونص مقبول من طرف الجميع وغير قابل للطعن وهي صرخة تاريخ شعب ومحرروه إلا ناقلين لهذه الصرخة.
تعرف الوثيقة نفسها بطريقة صريحة ومباشرة وتحدد هويتها وترسم معالم خط سيرها في الأسطر الأولى، كما تصف الوضع السياسي العام والممارسة الحزبية بالتعفن والتدني مستعملة في ذلك التحليل الموضوعي المبني على التفسيرات والتعليلات والتبريريات اللازمة.
يتوجه البيان مباشرة إلى الشعب الجزائري دون وسيط وبكل مكوناته وحيثما وجد إلى الكبير والصغير، إلى العامل والفلاح إلى المثقف والأمي وإلى الذين يقطنون المدن والأرياف، إلى المناضل والمناصر إلى المتحفظ والمشكك، وحتى التائه والمناوئ، داعيا الكل إلى الالتفاف حول القضية الوطنية ومخاطبا الضمير الوطني وعارضا لهم الدرب الوحيد للتحرر.
إن بيان أول نوفمبر يقدم برنامجا للثورة التحريرية، يكون بمثابة أرضية سياسية لجبهة التحرير الوطني كحركة وطنية تعلن الكفاح المسلح، ويكون هذا البرنامج تعبيرا عن مشروع من أجل تحقيق السيادة، كما قد يكون بمثابة عقد أو ميثاق بين المناضلين، إن المتمعن في النص فلسفيا يجد فيه صيحة أمل وتفاؤل تدعو الجميع للمساهمة فعليا في مغامرة مثيرة، وفريدة من نوعها في وقت بدأ التذمر واليأس يؤثران في نفوس الجزائريين.
وأشار المؤلف إلى أن عبارة «أيها الشعب الجزائري» ليست مجرد أداة تبليغ ننادي بها، فالعبارة تحمل في الظرف التاريخي المعين كل سمات وميزات المبدأ والموقف التاريخي الحاسم.
فحوى النداء إنذار يجمع القول بالفعل ولا يترك خيارا أو إختيارا بين حضارتين وثقافتين ومستقبلين متبرئا من كل نشاط وعمل تجاوزته الظروف، منددا بالشعارات الجوفاء والعصبيات الحزبية، علاوة على ذلك فإن عبارة «أيها الشعب»، هي أول رصاصة توجه إلى المستعمر، الذي لم يتمكن رغم خططه ومخططاته مسخ هوية الشعب وكسر إرادته، وهي دعوة من أبناء شعب إلى شعبهم الذي حفظ الدين واللغة والعادات والتطلع إلى غد مشرق.
يعبر البيان عن مبدأ يجعل من الشعب السيد الوحيد في تقرير شؤونه بنفسه وفق تطلعاته الذاتية، والرافضة لكل وصاية داخلية أو خارجية من جهة وحقه في استعمال كل الطاقات والوسائل المتوفرة لديه، لإسترجاع سيادته التي اغتصبها العدو.
وتوجه البيان في الدرجة الثانية إلى المناضلين الوطنيين بدون تمييز بين انتماءاتهم الحزبية والإيديولوجية وبدون إقصاء جاعلا من القضية الوطنية القاسم المشترك الوحيد.
في هذا الصدد، أوضح جغابة أن مخاطبة المناضلين من أجل القضية الوطنية بعد مخاطبة الشعب دعوة لتحمل المسؤوليات من قبل النخب الطلائعية، والابتعاد عن ممارسات الماضي السياسوية، قائلا: «من خلال هذه العبارة يكشف سر نجاح الانتشار السريع للثورة إذ كان الإلتحاق بصفوفها شخصيا خاليا من كل شرط وقيد، وكان أصحاب القرار يهدفون إلى تحقيق أمرين الأول إفهام الفعاليات السياسية المتواجدة في الساحة، إن التأخير والمماطلة ووضع القيود أمام منخرطيها اتجاه النداء سيعرضها لا محالة إلى تهمة الخيانة، والثاني جعل الفعاليات السياسية في موقف يؤدي حتما إلى الانفجار الداخلي».
البيان اللبنة الأولى في استرجاع السيادة الوطنية يمكن اعتباره كإعلان الإستقلال نفسه بحيث يقوم بالقطيعة مبدأ وممارسة، أظهر إعلان نوفمبر قضية شعوب تكافح ضد إحتلال أراضيها وقهر سكانها ونسخ هويتها، فكان الصراع صراع وجود أولا وجود أجبر الفكر الإنساني السائد آنذاك على مراجعة جذرية في المنظومة القانونية الدولية المبنية على حقوق المتحضرين فقط وفق المعادلة، ونتج عن كل ذالك اعتماد حق تقرير مصير الشعوب.
البيان نداء للسلام.. والكفاح المسلح وسيلة
في المقابل، يكتسي الإطار الجغرافي في بيان أول نوفمبر، حسب قراءة المجاهد أهمية كبرى ذات دلالات عديدة منها الفلسفية والأخلاقية والحضارية، حيث هدف البيان إلى البعد الإنساني في إعلان الثورة بعيدا عن كل نظرة ضيقة، وتأكيد مبدأ التضامن التحرري والوحدة في العمل، مع التذكير أن الحركة الوطنية الجزائرية، رغم ما أصابها تبقى السباقة إلى الدعوة إلى الوحدوية، والتأكيد على أصالة الشعب الجزائري وانتمائه الحضاري، تدويل القضية الجزائرية من جهة، وإدراج الثورة في رقعة واسعة تجعل من الصراع صراعا دوليا من أجل السلام.
وأكد المجاهد أن الثورة الجزائرية أعلنت من أجل السلام، وبيان نوفمبر هو نداء للسلام وما الكفاح المسلح إلا وسيلة حتى لا يفهم الاستعمار أن نداء السلام هو استسلام.
وتطرق البيان لطبيعة الدولة المستقلة المنشودة في عبارة «الاستقلال الوطني بواسطة إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية».
ويوضح جغابة أن الدولة الديمقراطية الاجتماعية في حرف وروح البيان هي تجسد الاستقلال التام الذي ينادي به الشعب، فالديمقراطية والاجتماعية هما الركيزتان للاستقلال الوطني كمطلب شعبي لا كاختيار حزبي إيديولوجي.
وهنا تظهر عبقرية النص النوفمبري، في حين معنى المبادئ الإسلامية يخضع لمعطيات تاريخية حضارية ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها أو يوظفها أو يوجهها إلى غير اتجاهها الأصلي الطبيعي، ويندرج كتصدي لذلك الإدعاء القائل بأن المعضلة الدينية عويصة بحكم تواجد المعمرين، وأن سكان الجزائر متعددو الديانات والطوائف، فأكد البيان أن دولة الجزائر المستقلة دولة مسلمة موحدة لا يستثني روح التسامح والتعايش، بحيث أن الدولة ستضمن الحريات الفردية دون تمييز عرقي أوديني.
ويؤكد البيان الحركة الشعبية كحركة واحدة لا تتجزأ تحت لواء جبهة التحرير الوطني كواجهة تمثل الشعب وتنبع منه لا تقصي أحدا، ولا تشترط في الإنضمام إليها إلا تعبير إرادة الشعب في التحرر، والهدف تحرير الأرض والإنسان والطاقات والنضالات الحيوية ولا مجال لأي شرط حزبي ولا جهوي ولا حتى عقائدي ديني حتى تتمكن البلاد من إسترجاع قيم وهوية وكيان من استشهد من أجلها.
امتص البيان الغضب الثوري الشعبي وحوله إلى قوة لا تقهر تجاوزت الانقسامات ووحدت الطاقات النضالية، هو نموذج فريد من نوعه في أدبيات الحركة الوطنية بما يحمله من قيم وأخلاقيات ومواقف، وبما يحدد ويعرف من مبادئ لازالت صالحة إلى اليوم لتغذي الفكر والممارسة، فهو جدلية قائمة قابلة للتكيف بها ومعها.
فالنص نتاج تجربة وخبرة نضالية طويلة قاسية وأليمة، وهي استجابة تاريخية استيراتيجية لما كان يحدث في تونس والمغرب من مسار تحرري، بالرغم من أن الأوضاع في هذين البلدين كانت أحسن من تلك التي تسود في الجزائر.
وأشار الكاتب إلى أنه في هذه الوضعية المعقدة والمتأزمة اجتمعت مجموعة من المجانين في عشق الجزائر، وأقرت المرحلة الحاسمة الفاصلة إنه الفاتح من نوفمبر في ثوانيه الأولى مجموعة قليلة العدد والعدة كثيرة الإيمان والعزيمة، محدودة التأثير شديدة البصيرة مكونة في أغلبها من شبان لم يعتلوا المسؤولية، فاجتمعت المجموعة وناقشت وحللت وقررت كالرجل الواحد والمناضل العازم، وأطلقت أول رصاصة كالأذان للتكبير والاستشهاد ولم الصفوف المشتتة، وإنعاش اليقين بعد الشك وإعلاء الوطنية المكافحة على الوطنية الحزبية.
وأبرز أن الوثيقة النوفمبرية تعطي لاصطلاح الوثيقة معنى الرباط بين مراحل وأجيال مختلفة كانت نتاجا منطقيا لأفكار وخبرات وتجارب في مسار نضالي طويل، وبالتالي كان البيان يتضمن تصورات جديدة في معالجة الأوضاع الداخلية الخاصة المتعلقة أساسا بالأزمة التي كان حزب الشعب يعاني منها.
وأضاف جغابة أن الوثيقة لم تستعمل الخطاب الديني والأساليب البلاغية المتداولة، آنذاك فهي تبرأت من كل الوصايات والزعامات والميولات، وأرجعت الأمور إلى نصابها، تغليب روح الحق والجماعة على روح السيطرة الحزبية أو النخبوية أو الطبقية.
وأشار إلى أن البيان لم ينتهج السبيل العلماني كما يحلو للبعض الادعاء، بل أن الطرح العلماني على غرار مجمل الطروحات، هو الذي تكيف مع الخطة الوطنية، ومطالبها واستوعب الشعب الكثير من مقتضيات الحداثة والعصرنة التي تبنتها الثورة داخليا وخارجيا.
مبدأ السلم والعالمية عند قراءة المبادئ والأهداف، يظهر بوضوح أن الثورة الجزائرية هي دعوة إلى السلم وما الكفاح المسلح إلا الوسيلة الأخيرة التي فرضها الإستعمار على الشعب بتعنته وتطلب موقفه ومخالفته لمجرى التاريخ، ويأتي الكفاح المسلح كإحدى الوسائل فقط بنص البيان، حيث جاء «تماشيا للتأويلات الخاطئة وللتدليل على رغبتنا الحقيقية في السلم وتحديدا للخسائر البشرية وإراقة الدماء، وهذا المبدأ سلسلة من الإقتراحات لتحقيق الإستقلال بطريقة سلمية إن صدقت نية السلطات الفرنسية في ذلك»، حسب ما أوضحه المؤلف.
وجاء في نص البيان» انسجاما مع المبادئ الثورية واعتبارا للأوضاع الداخلية والخارجية فإننا نواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى تحقيق هدفنا «، هذا تأكيد آخر على أن الثورة إن كانت عازمة على تحقيق الهدف دون أي تنازل، فهي مستعدة لإستعمال كل الوسائل خاصة السلمية منها.
وتأكد هذا المبدأ من خلال الممارسة طوال الحرب المريرة، بحيث كان الجانب السياسي بالأداة الدبلوماسية هو السلاح الأقوى، ومن جهة أخرى لم يسبق لجيش التحرير أن قام بمجازر وتقتيل المدنيين الأوروبيين، أو حتى مهاجمة المؤسسات المدنية مثل المدارس أو الكنائس والمعابد.
على مستوى آخر، يظهر تحليل المبادئ المضمنة في البيان الطابع الكوني الإنساني للمشروع الثوري النوفمبري، بحيث يدرج هذه المبادئ في إطار ميثاق الأمم المتحدة والعمل الوحدوي لكل القوى التحريرية وعمل على تدويل القضية الجزائرية، بصفتها قضية عادلة تستوقف الجميع خاصة الضمائر الإنسانية الحرة، مما جعل دوائر المناصرين تتسع أكثر فأكثر. وقد ساهمت الثورة بقسط كبير في تكريس هذه المبادئ في المحفل العالمي فيما يتعلق بمبدأ تقرير مصير الشعوب، وهذا واقع تاريخي.
وفي الأخير، يبين جغابة أن هيكلة البيان محكمة منهجيا وتسلسل الأفكار وانسجامها ودقة مصطلحاتها، وبساطة تعبيرها ووضوح رؤيتها، قائلا:» وإلا كيف يمكن تقديم تاريخ ومستقبل أمة في أقل من مائة سطر ألمت بجميع الجوانب، بالرغم من أن محرروه لم يتخرجوا من أشهر الجامعات وليست لهم شهادات أكاديمية».
وأضاف أنه بعد التحليل التاريخي للأوضاع الداخلية وتحديد المبادئ شرعت الوثيقة في جزئها الثالث في تحديد أهدافها بمنتهى الدقة والوضوح، إن الميزة الأولى للتطهير السياسي تجلت في تجاوز النظرة الضيقة إذ توجه البيان إلى الشعب والمناضلين المخلصين لا للأجهزة الحزبية.
ويرى أن المسألة هنا هو الضمير الوطني والحس الوجداني الجزائري، مما دفع كل مواطن جزائري بأن يفكر فيما يكون الغد ومصيره، هكذا ومن هذا المنطلق كفاح واضح المعالم داخليا وخارجيا صارم المطلب وحدوي المسعى، والطابع الشعبي تحت لواء جبهة التحرير الوطني والشمولية في التجنيد أي لا وجود للإقصاء ورفض الأطر التنظيمية.