تحتفل البشرية، في أكتوبر من كلّ سنة، باليوم العالمي للمعلّمين، غير أنّ احتفال هذه السنة جاء مطبوعا بآثار أزمة صحية عالمية غير مسبوقة، أغلقت أبوابَ المدارس وعطّلت حركة الناس. في هذا السياق العام، أصدرت اللجنة الدولية لمستقبل التعليم، التابعة لليونسكو، تقريرا اقترحت فيه تسع أفكار للنهوض بمستوى التعليم في عالم ما بعد كوفيد 19، نذكر منها تعزيز التعليم كصالح مشترك، وحماية الفضاءات الاجتماعية التي تمثلها المدرسة، ووضع التكنولوجيات المجانية في متناول الجميع، وحماية التمويل الوطني والدولي للتعليم العام..وتأتي هذه الأفكار مع استحالة العودة إلى العالم في شكله السابق، تؤكد ذات اللجنة.
يُحتفل باليوم العالمي للمعلمين يوم 5 أكتوبر سنويا، وذلك منذ 1994، في إحياء لذكرى توقيع التوصية المشتركة الصادرة عن منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 1966 المتعلقة بأوضاع المعلمين، وهي توصية تشمل عدداً من المبادئ التوجيهية بشأن السياسات التربوية، والبرامج التعليمية، وإعداد المعلمين، وتوظيفهم، وظروف عملهم، ومشاركتهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتعليم. ويُضاف إلى هذا اليوم، يوم عالمي آخر للتعليم يصادف 24 جانفي، اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 03 ديسمبر 2018، في إطار الاحتفال بالتعليم من أجل السلام والتنمية، واعتُمِد دعما لإحداث «التغيير من أجل التعليم الشامل والعادل والجيد للجميع»، والتأكيد على أن التعليم يضطلع بدور أساسي في بناء مجتمعات مستدامة ومرنة، ويساهم في تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة الأخرى.
القيادة في وقت الأزمات
احتفلت اليونسكو هذه السنة باليوم العالمي للمعلّمين تحت شعار «المعلّمون: القيادة في وقت الأزمات وإعادة تصوّر المستقبل»، وحسب المنظمة الدولية، فإن هذا الاختيار عائد إلى كون التحديات غير المسبوقة التي أوجدتها أزمة فيروس كوفيد 19، فرضت قيودا جديدة على نُظم التعليم، وأوجب ذلك مراجعة الأساليب التي يعتمدها المعلّمون.
وقد أثّرت الأزمة الصحية العالمية بشكل مباشر على المدارس، التي أغلقت أبوابها تماما في دول عديدة، وطال هذا التأثير السلبي قرابة 1.5 مليار تلميذ وطالب من جميع المراحل الدراسية، و63 مليون معلم ومعلمة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. ولم يكن التعليم عن بُعد فعالا بالضرورة، خاصة إذا علمنا أن 50 بالمائة من المتعلمين على الصعيد العالمي يفتقرون إلى الحواسيب، و43 بالمائة منهم يفتقرون إلى الشابكة (أنترنت) في بيوتهم. ويُضاف ذلك إلى العجز العالمي في عدد المعلمين، الذي تشترك فيه 112 دولة بما في ذلك ما يُعرف بالدول المتقدمة، مع ضرورة استحداث أكثر من 1.7 مليون وظيفة للمعلمين، حسب تقديرات الأمم المتحدة لسنة 2015.
عينٌ على الغد
كما دعت اليونسكو إلى ضرورة النظر في مستقبل المهنة، ليس في ظل حالات الطوارئ فحسب، كما أوعزت بإعداد سلسلة من الأوراق البحثية لتوجيه السياسات المستقبلية والخطط المتعلقة بالدور القيادي للمعلمين على مختلف مستويات المنظومة، وستُنشر النتائج النهائية في عام 2021.
قبل ذلك، وبالضبط سنة 2019، أطلقت اليونسكو مبادرة «مستقبل التربية والتعليم: تعلَّم لتصبح الإنسان الذي تريد» (Futures of Education: Learning to becoming)، بهدف إعادة التفكير في التعليم وإعادة تصور الطريقة التي يمكن للمعرفة والتعلم من خلالها تشكيل مستقبل البشرية والكوكب.
تضمّ اللجنة الدولية المستقلة لمستقبل التعليم، التي أوكلت إليها هذه المهمة، 17 عضوا من مختلف الجنسيات والخلفيات، وتقودها رئيسة جمهورية إثيوبيا ساهلي ــــ وورك زاوده. وفي إطار مهمتها الرئيسية وهي إعداد تقرير عالمي عن مستقبل التربية والتعليم، تركز اللجنة الدولية اهتمامها على إعادة التفكير في دور التعليم والتعلم والمعرفة في ضوء التحديات والفرص الهائلة لآفاق المستقبل المتوقعة والممكنة والمستحسنة.
واستشرافاً لعام 2050 وما بعده، ترمي المبادرة إلى إعادة تصور الطريقة التي يمكن أن يسهم من خلالها التعليم والمعرفة في الصالح العام العالمي، خاصة وأن المعرفة والتعلم يمثلان «أعظم الموارد المتجددة التي تمتلكها البشرية لمواجهة التحديات ولابتكار البدائل. بيد أن التعليم يتجاوز الاستجابة لمتطلبات العالم المتغير، فالتعليم يحدث التحول في العالم».
ويشير مفهوم «تعلَّم لتصبح الإنسان الذي تريد» إلى فلسفة تعليمية ونهج تربوي ينظر إلى التعلّم على أنه «عملية تفتّح متواصلة تستمر مدى الحياة»، حيث يكون تفكير المرء استحضار منحىً فكري يشدد على القدرات الكامنة ويرفض الحتمية ويعبّر عن الانفتاح على ما هو جديد.
كما يستحضر مفهوم «تعلَّم لتصبح الإنسان الذي تريد» ضرورة تطوير القدرة على تصور حياة جيدة ومثمرة. فقد يظهر المستقبل، في نظر الكثيرين الذين يعيشون في ظروف الفقر والاستبعاد والنزوح والعنف، في جميع أنحاء العالم، على صورة مجموعة من الإمكانات المتقلصة أكثر مما يظهر على صورة عالم من الآمال والوعود، وحين تخيب تطلعات البشر، يصبح العالم في حالة معاناة، وهنا يتعين على البشر التساؤل: أيَّ إنسان تريد أن تصبح؟
وجاءت الأزمة الصحية لتضيف بُعدا آخر لهذه الرؤية، وفي ذلك يقول معدّو تقرير نشرته الجنة الدولية لمستقبل التعليم، إنه بينما كان الشعور بتسارع حالة عدم اليقين والتعقيد والهشاشة في العالم يُلهمنا، كنا جميعًا بعيدين عن التفكير في أنه في غضون بضعة أشهر ستذكرنا جائحة عالمية بأن تغييرات دراماتيكية يمكن أن تحدث بشكل مفاجئ وبطرق غير متوقعة أكثر مما يتخيله أي شخص. وتحدّث التقرير عن الإيمان بأن «المستقبل هو الآن»، وأن استجابتنا لـ كوفيد19 ومستوياته العديدة من الاضطراب سيكون لها تداعيات كبيرة على المدى القصير والطويل، ما يجعل هذه المبادرة «تحمل الآن ضرورة جديدة غاية في الاستعجال».
مستقبل بصيغة الجمع
لا يستخدم المشروع مفهوم «المستقبل» في صيغة المفرد، وإنما «آفاق المستقبل» اعترافا بالتنوع الموجود في سبل اكتساب المعرفة وتكوين الذات في جميع أنحاء العالم. ويفيد استخدام صيغة الجمع أيضاً، تؤكّد المنظمة الدولية، في الإقرار بوجود أبعاد متعددة للمستقبل، وأنه من المحتمل أن يكون هناك آفاق متنوعة لهذا المستقبل، منها ما هو مستحسن وما هو غير ذلك، وستختلف كل هذه الآفاق اختلافاً كبيراً تبعاً لهوية المرء وموقعه. لذلك، فبدلاً من محاولة رسم مستقبل واحد، تقرّ صيغة الجمع بوجود آفاق مستقبل متعددة وممكنة، ومستحسنة للبشرية على فضائنا المشترك وهو الكوكب.
كما تتناول مبادرة مفهوم المستقبل بوصفه «حيزاً للتصميم الديمقراطي يرتبط بالماضي والحاضر من غير أن يقتصر عليهما». وتستند إلى «تحليل محدد الغرض وقائم على الأدلة للاتجاهات السائدة، الذي يمكن أن يساعد في تسليط الضوء على التحديات والفرص المتوقعة. وسيُستكمل ذلك بوضع آليات تشاركية لتصور آفاق جديدة ممكنة مستقبل التربية والتعليم. وستجمع المشاورات التي ستجري في مناطق عدة في جميع أنحاء العالم، و من خلال طرائق مختلفة، رؤى وتطلعات طائفة واسعة من الجهات المعنية لديها إدراك مشترك لضرورة ترسيخ ابتكار المستقبل وتولي زمام أموره على الصعيد المحلي ومناقشتهما على الصعيد العالمي».
جهود متواصلة على مدى عقود
تعتمد هذه المبادرة على عملية تشاورية مفتوحة وواسعة النطاق تشمل الشباب والمربين والمجتمع المدني والحكومات وقطاع الأعمال والجهات المعنية الأخرى. وتضطلع لجنة دولية رفيعة المستوى مؤلفة من قادة فكر من ميادين متعددة، ومن مختلف المناطق في العالم بتوجيه هذه العملية. وستنشر اللجنة في نوفمبر 2021 تقريراً يرمي إلى مشاركة رؤية استشرافية بشأن المصير المحتمل للتعلم والتعليم، وتوفير خطة بشأن السياسات العامة. وستحفّز المبادرة إجراء مناقشة عالمية بشأن الطريقة التي يمكن أن ترسم بها المعرفة والتعلّم ملامح مستقبل البشرية وكوكب الأرض.
ويُعتبر تقرير «مستقبل التربية والتعليم: تعلَّم لتصبح الإنسان الذي تريد»، التقرير الأخير من سلسلة تقارير عالمية أُعدت بتكليف من اليونسكو لمواجهة التحديات التي يحملها المستقبل، والحث على التغيير وإصدار توصيات بشأن السياسات العامة في مجال التعليم.
وقد أُعدَّ أول هذه التقارير وهو «تعلم لتكون: عالم التربية اليوم وغداً» ما بين 1971 و1972، وحذّر التقرير من مخاطر عدم المساواة والحرمان والمعاناة، وشدّد على سمات التعليم العالمية، ودعا إلى مواصلة نشر التعليم وإلى الأخذ بالتعليم مدى الحياة. وما بين 1993 و1996، أعدّت لجنة دولية ثانية تقريراً صدر بعنوان «التعلّم: ذلك الكنز المكنون»، شدّد على أهمية اتباع نهج إنساني في التعليم ووضع «دعائم التربية الأربع»، وهي:»التعلم من أجل أن تعرف، التعلم من أجل أن تفعل، التعلم من أجل أن تكون والتعلم من أجل العيش المشترك».
كما نشرت اليونسكو تقريرا سنة 2015 تحت عنوان «إعادة التفكير في التربية والتعليم: نحو صالح عام عالمي؟» اقترح إعادة التفكير في التعليم والمعرفة باعتبارهما صالحاً عاماً عالمياً.
أفكار لمواجهة تحديات العالم
«الجديد»
نشرت اليونسكو تقريرا في 27 صفحة، أعدّته اللجنة الدولية لمستقبل التعليم هذه السنة، حمل عنوان «التعليم في عالم ما بعد كوفيد: تسع أفكار للعمل العام» (Education in a post-COVID world: Nine ideas for public action). بُني هذا التقرير على أفكار تسعة تدعو إلى النقاش والمشاركة والعمل من جانب السلطات الحكومية، والمهنيين التربويين، والباحثين، والمتمدرسين من جميع الأعمار، والمجتمع ككل. ويأتي هذا الاقتراح في وقت «تذكرنا الأزمة الحالية بمدى أهمية التعليم العام في المجتمعات، والجماعات، وحياة الأفراد». وتقترح اللجنة الدولية لمستقبل التعليم هذه الأفكار التسعة «لاتخاذ إجراءات ملموسة للنهوض بالتعليم».
أولا. الالتزام بتعزيز التعليم كصالح مشترك، كما أن التعليم حصن ضد اللاّمساواة. وفي التعليم كما في الصحة، نحن بأمان عندما يكون الجميع آمنين؛ ونحن نزدهر عندما يزدهر الجميع. وفي هذا السياق، يعتبر التقرير أن الصحة العامة والتعليم العام مترابطان بشكل وثيق، مما يظهر الحاجة التي لا يمكن إنكارها للتعاون والتضامن والعمل الجماعي من أجل الصالح العام.
ثانيا. توسيع نطاق تعريف الحق في التعليم لمراعاة أهمية التوصيل والوصول إلى المعرفة والمعلومات. ودعت اللجنة إلى نقاش عام عالمي، سيشمل على وجه الخصوص المتعلمين من جميع الأعمار، حول كيفية ووسائل توسيع الحق في التعليم.
ثالثا. تعزيز مهنة التدريس والتعاون بين المعلمين، وقد أظهر المعلمون ابتكارات رائعة في استجابتهم لأزمة كوفيد 19، وكانت الأنظمة الأكثر مشاركة مع العائلات والمجتمعات هي الأكثر مرونة. وفي هذا الإطار، يجب أن نشجع الظروف التي تعطي للمعلمين المتواجدين في الخطوط الأمامية استقلالية ومرونة للعمل في تعاون.
رابعا. تعزيز مشاركة وحقوق التلاميذ والشباب والأطفال، على العدالة بين الأجيال والمبادئ الديمقراطية أن تجبرنا على إعطاء الأولوية لمشاركة الطلاب والشباب في البناء المشترك لتغيير مرغوب.
خامسا. حماية، في تحولنا التعليمي، الفضاءات الاجتماعية التي تمثلها المدرسة. هذه الفضاءات، باعتبارها مادية، لا غنى عنها، ويجب أن يفسح التنظيم التقليدي للفصول الدراسية المجال للعديد من طرق «أداء المدرسة»، ولكن من الضروري الحفاظ على المدرسة كفضاء زمني متميز عن الحياة الجماعية، محددة ومختلفة عن مساحات (فضاءات) التعلم الأخرى.
سادسا. وضع التكنولوجيات المجانية ومفتوحة المصدر في متناول المعلمين والطلاب. من الضروري دعم الموارد التعليمية المفتوحة والأدوات الرقمية ذات الوصول المفتوح. لا يمكن للتعليم أن يزدهر على المحتوى الجاهز الذي تم إنشاؤه خارج الفضاء التعليمي والعلاقات الإنسانية بين المعلمين والطلاب. لا يمكن أن يعتمد التعليم أيضًا على المنصات الرقمية التي تسيطر عليها الشركات الخاصة.
سابعا. تضمين محو الأمية العلمية في المناهج الدراسية. حان الوقت الآن للتفكير بعمق في البرنامج، حيث نحارب إنكار المعرفة العلمية ونكافح بنشاط المعلومات المضللة.
ثامنا. حماية التمويل الوطني والدولي للتعليم العام: للوباء القدرة على تقويض عقود من التقدم. يجب على الحكومات الوطنية والمنظمات الدولية وجميع شركاء التعليم والتنمية الاعتراف بالحاجة إلى تعزيز الصحة العامة والخدمات الاجتماعية، ولكن في نفس الوقت التعبئة حول حماية التعليم العام و من تمويلها.
تاسعا. تعزيز التضامن العالمي لإنهاء المستويات الحالية للّا مساواة. أظهر لنا كوفيد 19 كيف تستغل مجتمعاتنا اختلالات القوة ونظامنا العالمي مبني على عدم المساواة. وتدعو اللجنة إلى تجديد الالتزام بالتعاون الدولي والتعددية، فضلاً عن تنشيط التضامن العالمي القائم على التعاطف والتقدير لإنسانيتنا المشتركة.
وخلص التقرير إلى أن كوفيد 19 يمثل تحديًا حقيقيًا لقطاع التعليم لم يشهده منذ ظهور مفهوم التعليم العمومي في القرن التاسع عشر، ويفرض علينا هذا التحدّي مسؤولية حقيقية. كما أكّد التقرير أن التعليم يجب أن يكون في قلب عالم ما بعد كوفيد. وتدعو هذه الأفكار المقترحة إلى نقاش حقيقي ومشاركة وعمل من قبل الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني والمهنيين التربويين، وكذلك المتعلمين وأصحاب المصلحة على جميع المستويات.