قدمت إلى تندوف وعمرها لا يتجاوز 16 سنة كانت شابة متزوجة ومسؤولة عن ولد وبنت، جاءت سنة 1975 هاربة من الغزوالمغربي على السكان العيون العزل، لا تحمل معها سوى طفلين صغيرين.. مأساة تشرد عائلتها وفقدانها كل ما تملك من نفيس زادتها فاجعة استشهاد زوجها وهو يحارب في صفوف الجيش الصحراوي عن الشرف والعرض والأرض..
عن أيام اللجوء الصعبة تتذكر خالتي دادة محمد السير في الصحراء الوعرة الموحشة، تحت أشعة الشمس اللافحة نهارا، بدون طعام أوأغطية تقيهم برودة الليالي.. وتتذكر تلك النساء الحوامل اللواتي وضعن أطفالهن تحت شجر «الطلح «في العراء..
كنا نتنقل، تقول «بقليل من السيارات كان أصحابها يتنقّلون على متنها النساء والأطفال وكبار السن بعيدا قدر المستطاع عن ارض المعارك وعن نيران، هجمات وبطش المستعمر الغازي، ويعودوا أدراجهم ليقلوا أفواجا أخرى.. وكان أسبوعا مضى علينا كأنه ظهرا نمشي أفواجا وسط أخطار ضربات الشمس ولسعات العقارب، وكان خوفنا الأعظم هو شبح قصف الطيران المغربي أو عثور جنودهم علينا وتنكيلهم بنا..
وجاء خلاصنا حين وصلنا إلى روابي تندوف الجزائرية، وجاءنا الدعم من السلطات الجزائرية ومعه الأمل الذي ما زلنا نعيش عليه ونتشبت فيه ونتغذى منه نحن والأجيال الصاعدة، أمل الرجوع إلى ديارنا في العيون والداخلة والسمارة واوسرد، أراضينا التي سنستعيدها يوما من المخزن المغربي الغاشم..
تعود الذكريات بالمرأة الفحلة التي تزوجت مرة ثانية لتنجب 3 أطفال آخرين وليموت زوجها الثاني هو الآخر شهيدا من أجل تحرير أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب، تعود بها الذكريات إلى السنوات الأولى على أرض اللجوء، وكيف نسجت من الخرق البالية جوانب خيمة تأويها هي وأطفالها الرضع وكيف تعلمت أن تتأقلم في الأرض المضايفة وتنقل لأولادها حب الوطن الأم وتعلمهم قطع الوعد بالصمود والتحدي والتفاني في التضحية والنضال من اجل العودة يوما إلى الديار.
سنة 1990 جاءت خالتي دادة محمد لتسكن الأراضي المحررة بتفاريني في خيمتها المتواضعة التي نسجتها بيدها وإقامتها داخل مجسم من ألواح الزنك المعدني، كي تقيها هجير الشمس وقسوة رياح المحيط. الباردة..
تعيش دادة بعد أن تجاوزت عقدها السابع اليوم، مع ابنها وزوجته وأحفادها، أولادها الآخرون تزوجوا ورحلوا.. مازلت خالتي دادة متمسكة بتقاليدها البدوية العريقة بـ»رابوزها» الذي تنفخ به في الجمرات التي تضع عليها إبريق الشاي وبفرنها التقليدي المبني من الطين وبزرابيها المنسوجة باليد وبقارورة العطر التي تقدّم منها لضيوفها تكريما لحضورهم مجلسها.. مازلت تحطب الحطب وتخيط الخيمة وتظفر الحلفاء تصنع منها السلالة تبيعها لتعيل بها نفسها.
«خالتي دادة» الصمود.. هي رمز المرأة التي تعيش بكرامة، شامخ أنفها في السماء.. لم نفوّت فرصة وجودنا بخيمتها المتواضعة لتشيد بنخوة الجزائريين وبـ»مساندتهم ومآزرتهم للشعب الصحراوي وموقفهم النبيل الذي لم يتغيّر مند 1975 مند ذلك اليوم الذي هبوا فيه لنصرة نسوة وأطفال وشيوخ عزل تلاحقهم في الصحراء قوات قمع وإبادة مدجّجة بالحقد وبالسلاح، وواصلوا إلى حدّ اليوم نصرتهم لقضية الشعب الصحراوي العادلة ومساندته في مطالبته بحقه في تقرير المصير»..