الانتفاضة الشّعبية العارمة لـ 11 ديسمبر 1960 ليست «عفوية» أبدا بل تعتبر مدّا تحريريّا راسخا في مسار الثّورة بعد 6 سنوات من انطلاقتها المظفّرة ليدوّي ذلك الصّوت القوي، وتلك الصّرخة العميقة ليتّسع صداها في أرجاء المعمورة، أنّ هناك شعبا مناضلا يئنّ تحت استعمار بشع غير إنساني، يمارس كل أشكال الابادة لمحاولة طمس كفاحه الوطني لاسترجاع سيادته السليبة منذ 130 سنة.
هكذا كانت رسالة كل من انتفض في ذلك اليوم في بلكور بلوزداد حاليا، المدنية (سالمبي سابقا)، القصبة وما جاورها، معلنين مرة أخرى رفضهم المطلق والقاطع لهذا الاحتلال الغاشم، مع منح نفس ثان للثورة والاستمرار في إلحاق المزيد من الضّربات الموجعة لعساكر فرنسا في المدن، القرى والمداشر، بالرغم من الحصار المشدّد المضروب على الجزائر من أقصاها إلى أقصاها (الخطّان المكهربان موريس وشال) وعمليات التّمشيط الواسعة، وغيرها من الأساليب الجهنّمية التي حاولت عزل الثورة عن الشعب.
وتعد مظاهرات 11 ديسمبر 1960 حلقة متينة من حلقات الارادة الشّعبية المتصارعة مع الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، أقحمت جميع الفئات في هذه المعركة المصيرية، ومن هذه العيّنات الكشافة الاسلامية الجزائرية التي كان لروّادها أداءاً متميزا ونادرا في تفاعلها المباشر مع الأحداث الاستثنائية آنذاك، وانخراطها المشهود في صناعة المواقف الثابتة تجاه الوطن لدى الشباب بتلقينهم مبادئ التضحية، وهذا ما كان يكرّره «القادة» على مسامع المنخرطين يوميا لجعلهم على يقظة دائمة واستعداد دائم لاتخاذ القرار «العظيم».
في هذه الشّهادات نحاول الاطّلاع على ما قام به أفواج الكشافة وعددهم 5 على مستوى القلعة الصّامدة ألا وهي القصبة، ويتعلق الأمر بالفلاح، الاجتهاد، الشهاب والقطب، من خلال المساهمة في أن يكون الذراع المساعد في الظّروف القاسية والمعقّدة مثلما وقع ذلك في أحداث 11 ديسمبر 1960 بتفاصيلها التي مازال هؤلاء يتذكّرونها بعد كل هذه العقود.
وبالرّغم من بلوغهم من السن عتيا إلاّ أنّ ذاكرتهم الحيّة ماتزال تستحضر تلك الأحداث بكل تفاصيلها الدقيقة المندرجة في إطار المهام المخوّلة لهم كنشطاء في الكشافة الاسلامية الجزائرية، صلتهم بالثورة لا تحتاج الى نقاش جل قادة هذا التنظيم وجدوا أنفسهم إطارات ذات تجارب رائدة، وخبرات مفيدة في خدمة الطلائع الأولى لجيش التحرير الوطني كمحافظين سياسيين وضباط ميادين.
ونحن الجزائريّون لا نسقط في طروحات المدرسة الكولونيالية في كتابة التاريخ، التي تريد تجزئة الأحداث البارزة التي صنعتها الثورة التحريرية والمولودة من رحمها بإطلاق أوصاف لا تليق بمقامها وعنفوانها السّامي، الرّامي إلى تخليص الانسان من نير الاستعمار، فما معنى أن ندرج في أدبياتنا وخطاباتنا أنّ ما جرى يوم 11 ديسمبر 1960 كان «عفويا»، هذا غير مقبول عند أحرار هذا الوطن، الذين يرفضون رفضا قاطعا الوقوع في هذه الأخطاء التاريخية من حيث لا يشعرون لأنّ «العفوية» يعنى بها أن تلك المحطّة الفاصلة التي عجّلت باستعادة السيادة الوطنية منفصلة عن باقي المحطات الأخرى، وهذا غير صحيح بتاتا.
مخبي: رسالة قويّة إلى العالم
الكشّاف عبد القادر مخبي من فوج «القطب» مقره بـ
«لابيشري»، كان شابا يافعا وناشطا يتحرك في كل الاتجاهات من أجل خدمة القضية الوطنية آنذاك بكل الوسائل المتاحة لمقارعة هذا «الوحش» الضّاري، وما أن اندلعت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 سارع رفقة الشباب الى مد يد المساعدة الى كل من تعرض الى إصابات بليغة جراء إطلاق النار من طرف عساكر الاحتلال.
وهكذا تمّ تحويل ما يعرف بالقصبة بحمام السبع إلى فضاء مفتوح لاستقبال الجرحى، وإحضار علب الأدوية وتطلّب الأمر كذلك اقتحام الصيدليات لاستخراج مواد الاستطباب، ولم يتوقف الوضع عند هذا الحد بل استدعى ذلك توفير الأكل للجميع، وإقامة الحراسة المشددة على مداخل ومخارج حي القصبة حتى لا يعتقل من تم التكفل بهم.
ويرى «مخبي» بأنّ انتفاضة 11 ديسمبر 1960 تعد موقفا وطنيا صريحا ومباشرا ضد الاحتلال الفرنسي، أظهر الجزائريّون خلالها تمسّكهم بأرضهم الطّاهرة، مبرزين للعالم بأنّ هناك شعبا مكافحا خلافا لما يدّعيه الاعلام الكولونيالي، الذي فشل فشلا ذريعا في تشويه الحقائق في الميدان.
شلفوح: رفعنا الرّايات خفاقة
أمّا الكشّاف محمد شلفوح من فوج «الاجتهاد»، فقد لاحظ يوم 11 ديسمبر 1960 حركة غير عادية وهو عائد من «بولفار برو» شارع الشهداء حاليا، وبمجرد وصوله إلى نواحي بلكور حي بلوزداد في الوقت الراهن وقف على موجات بشرية في مسيرة حاشدة وزغاريد النساء تدوي من الشرفات تشجيعا لما يجري في الشارع.
وفي يوم 11 ديسمبر 1960 انقلب الوضع رأسا على عقب، عندما استرجع الجزائريون المبادرة وخرجوا كرجل واحد، معلنين رفضهم للاحتلال وسجّلت مواقف مشرفة وهذا برفع الرايات الوطنية عاليا وخفاقة على مستوى سيدي عبد الرحمان أثارت غضب المظليّين، الذين شرعوا في إطلاق النار في كل الاتجاهات، وبالرغم من ذلك فإن المتظاهرين من الشباب لم يتراجعوا الى الوراء بل تقدموا الى الأمام بصدور عارية تحديا علنيا لهؤلاء القتلة، الأول منهم سقط، تلاه الثاني، أما الثالث فقد ترجّاه الناس ألاّ يتقدّم من أجل استرجاع العلم الوطني خوفا من القضاء عليه وللتكفل بالجرحى، الذين أصيبوا برصاص قوات الاحتلال الموجودة على مستوى الحواجز، اضطر الكثير من أعضاء الكشافة إلى جلبها من الصيدليات القريبة من تلك المواقع، والجدير بالذكر أنّه بعد عودة البوادر الأولى للهدوء شرع البوليس في اعتقال نشطاء الفوج واقتيادهم إلى ثكنة «أورليان» علي خوجة حاليا.
قماريز: واجهنا الآلة الدعائية الاستعمارية
الكشاف توفيق تماريز من فوج «الفلاح»، يعد حقّا ذاكرة بامتياز لتاريخ هذه المدرسة المكوّنة للرجال المقبلين على تحمّل المسؤولية تجاه الوطن، وما تنتظرهم من أحداث فاصلة لإحداث القطيعة مع الاستعمار. وفي خضم هذه الحركية التاريخية الحاسمة يتذكّر توفيق جميع القادة الأفذاذ والأشدّاء الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل إعداد جيل قادر على تحمّل مسؤوليته المكلّف بها، متحدّين جميع المضايقات التي كانت تلاحقهم في حياتهم منهم محمد مجان، رشيد ماحي وأحمد فويلة نماذج إنسانية نادرة قيمتها من ذهب «لا يحول ولا يزول»، السيد ماحي ألحّ على فتح أبواب الكشافة على مصرعيها لمواجهة العمل الدعائي والبسيكولوجي الاستعماري، الرامي الى عزل الكشافة الاسلامية الجزائرية عن الحاضنة الشعبية، وهذا بإنشاء أفواج صغيرة تتكون من 8 أعضاء، وهذا من أجل مواجهة النشاط «الترفيهي» الذي باشرته عقيلة ماسو في نقل الشباب والشابات من باب جديد والقصبة إلى الغابات للتسلية وقاعات السينما وإدماجهم في مراكز التكوين المهني كمحاولة لإبعادهم عن الأطر التنظيمية الوطنية من بينها الكشافة.
ويعد توفيق قماريز موسوعة جامعة مانعة في تاريخ الكشافة الاسلامية الجزائرية، عاش كافة مراحل التغييرات التي شهدها هذا التنظيم، زيادة على امتلاكه لأرشيف استثنائي منذ القائد العام محمد بوراس لا نجده في جهات أخرى.
عبدون: إعداد جيل قادر على المواجهة
الكشّاف علي عبدون من فوج «الشهاب»، أكّد على المهمة الجوهرية المخوّلة للمنخرطين في هذا التنظيم ألا وهي إعداد جيل قادر على مواجهة هذا الحمل الجاثم على صدورنا بالتركيز على قيم خاصة التربية، الصبر، الحكمة، وبعد النظر لأن أغلى كلمة تدور في فلك الكشّاف هي الثقة.
وفي هذا الاطار شارك أعضاء الكشافة في جمع التبرعات من ذهب ومال، نقلت بكل أمانة إلى المقر الرئيسي دون المساس بها.
وهنا كشف عبدون أنّ الثوار الجزائريين المبحوث عنهم من قبل البوليس الفرنسي تمّ إخراج الكثير منهم الى فرنسا عبر وفود كشفية، مكثوا هناك وانضموا إلى صفوف الجبهة لمحاربة الفرنسيّين في عقر دارهم.
قرشي: لا انفصام بين الكشّاف ووطنه
يرى الكشاف قرشي الحاج من فوج «الفلاح»، أن مفهوم المواطنة له صلة وثيقة لا تنفصم عن أداء هذا التنظيم الحضاري، يؤدي حتما الى التحلي بالمسؤولية تجاه الآخر وخاصة حيال الوطن، ولا نتصوّر نشاطا خارج هذا الاطار يترعرع فيه الكشّاف ماعدا علاقته الوطيدة بأرضه، ولا يتأتّى هذا إلا بالتكوين الصارم المبني على القيم.
وما أن تطأ أقدام الطّفل مقرات الكشّافة يجد الفضاء الذي يتربّى فيه، وهو عبار عن شعارات أبدية ثلاثية «بكل جهد»، «كن مستعدا» و»خدمة الحياة العامة» والهدف من كل هذا هو تحضير هؤلاء للتفاعل مع أي قرار لاحقا.
وكانت للكشّافة مشاركة قويّة خلال 11 ديسمبر 1960، وبالمناسبة تحضر المتحدّث قرشي حادثة فاصلة في شارع «مارينغو» وبأسفل مقهى بوعلام لحدايد، اقتحم المتظاهرون من الشباب محلا لأخذ اللون الأخضر لاستعماله في اليفطات بناحية مناخ فرنسا، حيث كانت المواجهة على أشدّها مع عساكر الاحتلال، إضافة إلى استعمال محارم الكشافة ذات اللونين الأخضر والأبيض، كما هاجم الشباب مقرا على مستوى القصبة ورفعوا الراية الوطنية بفضل يوسف الحديد المعروف باسم «زرقيني»، هذا ما أحدث هلعا لا يوصف في أوساط القوات الفرنسية.
تشكيكن: إرادة التّحرّر لا تقهر
بالتّوازي مع ذلك، كان جمال تشكيكن طفلا صغيرا آنذاك، وبالرّغم من سنه هذا ما يزال يتذكّر شرارة اندلاع المواجهات بين سكان بلكور والمستوطنين «بحي العقيبة» يوم 5 ديسمبر، وبعد الهدوء الحذر الذي عمّ المنطقة عاد الغليان الشعبي يومي 7 و8 ديسمبر بسب إستفزازات مستوطن ضد الأطفال الجزائريين عند وقوع حجارة على واجهة محله، فسارع إلى مخفر الشّرطة ورجع رفقة الأعوان والمستوطنين، وتمّ اعتقال الطفل لكن المفاجأة الكبرى أنّه في يوم 9 ديسمبر قدم الشباب الجزائري إلى المحل وأخذوا مواد الدهن، وهكذا استعان بالشرطة ثانية.
وبتاريخ 10 ديسمبر وإثر هذه الحوادث والمناوشات ازدادت التجمعات، صاحبتها موجات من الغضب واستيقظ الجميع على كتابات جدرانية مفادها «الجزائر جزائرية»، «تحيا الأفلان..»، وهكذا تمّ إحراق المحل وفي يوم 11 ديسمبر 1960 تعالت حدّة الزغاريد إيذانا بفجر جديد في كامل أحياء العاصمة.