سي محمد بونعامة كان قائدا مميّزا، محنكا في التنظيم
واجه كبار جنرالات فرنسا الاستعمارية بشجاعة
يحتفظ المجاهد عمر رمضان بصورة لامعة عن الشهيد سي محمد بونعامة الذي انخرط في الثورة بإرادة صادقة، ليتدرّج إلى درجة قائد الولاية الرابعة التاريخية، ويسلط في هذه الشهادة الضوء على مختلف جوانب مسيرة الرجل الذي تميز بقدرة فائقة في التنظيم وحنكة في إدارة الرجال في مواجهة كبار جنرالات فرنسا الاستعمارية. وبقي على نفس الإرادة والعهد إلى أن سقط في معركة غير متوازنة ألقى فيها جيش الاحتلال بكامل عدّته وعدده، ليبقى واحدا من الرموز التي خلّدت أسماءها في الذاكرة الوطنية، ويتم إحياء ذكرى استشهاده كل سنة بحضور ما بقي من الرفاق كما يرويه صاحب هذه الشهادة التاريخية التي تمثل صفحة تثري كتابة تاريخ ثورة أول نوفمبر، وهذا مضمون الشهادة التي تعتمد في تفاصيلها على مصادر دقيقة.
فقد جيش التحرير الوطني والثورة عامة بتاريخ 8 أوت 1961، واحدا من أكبر القادة إلا وهو قائد الولاية الرابعة التاريخية سي محمد (الجيلالي بونعامة) الذي سقط مع ثلاثة من رفاقه بالبليدة. كان بونعامة صاحب تخطيط استراتيجي بارع على الصعيدين السياسي والعسكري. فكان صانع ومهندس العديد من الأحداث التاريخية التي كان لها وزنها في تطوّر الكفاح وتأثيرها بالولاية الرابعة وتأثيرها في النهاية السعيدة للثورة. لقد سقط الشهيد في البليدة والولاية في أوج نشاطها تعرف حيوية قوية جدا مؤذنة بالنصر القريب. وكان استشهاده خاتمة ستّ سنوات قضاها في الجبال يخوض كفاحا قاسيا بلا هوادة وعاش أوضاعا في غاية التعقيد استطاع مع ذلك تجاوزها دائما لصالح الثورة. ووصل بونعامة باعتباره قائد الولاية قمة المسؤولية خطوة بخطوة مع مرور الزمن.
ولد الجيلالي بونعامة (اسمه الحقيقي) في 16 أفريل 1926، بموليار (المكان يحمل اسمه اليوم) في قلب الونشريس وسط عرش بني هندل، وهي منطقة جبلية فقيرة تشرف على سهل السرسو الخصب الممتد تحتها، وهو كبير إخوته بالإضافة إلى آخ وأخت. بعد الدراسة الابتدائية عمل بمنجم الرصاص في بوقايد القريبة من موليار وهو مصدر العمل الوحيد بالناحية. وهناك انخرط في صفوف حزب الشعب - حركة الانتصار، وأصبح مسؤول بوقايد، وفي سنة 1951 المحرك الرئيسي للإضراب الشهير الذي شنّه عمال المنجم واستغرق 5 أشهر كاملة. في يوليو 1954 حضر مؤتمر أورنو (بلجيكا) لكن ما لبث أن ابتعد عن مصالي مفضلا الانتقال إلى الكفاح المسلح. لم يشارك في تحضير فاتح نوفمبر 1954 بناحتيه، ومع ذلك تعرض للاعتقال منذ الأيام الأولى. ويقول في هذا الصدد، أن عناصر الأمن التي جاءت لاعتقاله قامت بوضع مسدس في جيبه لتبرير ذلك. سجن بسركاجي (بربروس سابقا) قبل الإفراج عنه سنة 1955 مع الإقامة الجبرية بوهران، لكن ما لبث أن هرب ليلتحق بالشلف ويتصل بنظام الثورة عن طريق بغدادي (احمد عليلي) الذي أصبح لاحقا أول قائد للمنطقة الثالثة للولاية الرابعة. وبمجرد التحاقه بجيش التحرير، دمّر جيش الاحتلال منزله العائلي عن آخره واعتقل شقيقه محمد سنة 1955، وما لبثت شقيقته أن فقدت زوجها المجاهد الشهيد، كما قتل جيش الاحتلال الشيخ مصطفى والده سنة 1960 في بوعطاب أثناء عملية تمشيط، وبعد فترة قتلت والدته فاطمة في قصف جوي استهدف بقعة مليانة (بلدة برج بونعامة) في الونشريس.
لتحييد المجموعات المناوئة اضطر إلى المزاوجة بين اللّيونة والحيلة والقوة كذلك
شرع سي محمد مع بعض رفاقه في انجاز مهمة كبيرة تمثل في الدعوة للثورة في سهل الشلف والونشريس والظهرة، بإقناع سكان المداشر بعدالة الكفاح والتعريف بأهدافه. وكان عليه أن يكسب انضمام ومساندة اكبر عدد من المناضلين وتنظيم المراكز في الأرياف والجبال وإقامة ملاجئ داخل المدن مع تأسيس الخلايا الأولى لجبهة التحرير بها. لم تكن المهمة سهلة خاصة في الونشريس، حيث سبقت مجموعة “مصالية” بالانتشار فيه قبل جيش التحرير. واستقر أول فوج ناحية المرابطين الثلاثة (سيدي صالح)، ولتحييد المجموعات المناوئة اضطر سي محمد إلى المزاوجة بين الليونة والحيلة والقوة كذلك، وتمكن من إقناع أربعة منهم بالالتحاق بجبهة التحرير من بينهم سرباح الذي أصبح لاحقا أحسن مختص في المتفجرات بالولاية. وواصل نفس العمل مع مجموعة أخرى يقودها مصمودي من ناحية عمي موسى الذي استقر في زكور (بلدية بني لحسن)، وتمكن من عزله وفصله عن أنصاره بواسطة مناورة جمعت بين الحيلة والشجاعة. وما أن أشرفت سنة 1956 على نهايتها حتى تمكّنت جبهة وجيش التحرير من فرض نفسها نهائيا كقوة وحيدة تكافح من اجل تحرير البلاد عبر كامل تراب المنطقة الثالثة الواسع بما في ذلك الونشريس والظهرة. وشهدت نهاية هذه السنة كذلك اجتماعا تمّ فيه تنصيب الهياكل الجديدة تطبيقا لقرارات مؤتمر الصومام، فعيّن سي محمد ملازما أول مكلفا بالشؤون العسكرية في مجلس المنطقة، وفي خريف 1957، عيّن على رأس المنطقة الثالثة برتبة نقيب. تميّز الرجل بقدرة كبيرة في التنظيم وتجلى ذلك في تحول الونشريس الى قلعة لجيش التحرير الوطني، ما جعل الجيش الفرنسي يحجم عن المغامرة فيه طيلة سنة تقريبا. ولم تتمكن حملات القصف خلال خريف 1957 وربيع 1958 من كسر شجاعة سكان الونشريس أو القضاء على صمودهم. فقد انتشر المراقبون من المناضلين في جميع قمم الجبال، ينبهون بتحرك الطائرات بمجرد اقترابها من المداشر بعد إقلاعها من مطار الشلف العسكري. وبفضل هذا الانذار يسارع سكان القرى المستهدفة إلى مخابئهم قبل الشروع في القصف المدمر الشنيع. وكان تموين القرى يتمّ بطريقة مرضية اقتصاديا واجتماعيا انطلاقا من سهل السرسو بفضل المحافظين السياسيين ومسؤولي التموين. ونجد في باب البكوش باعتباره محور هذا الجزء الغربي من الونشريس مختلف المصالح مثل: العيادة، الهندسة العسكرية، الدكان، ورشة الخياطة، مراكز الاتصال (اعوان الاتصال). في خريف 1958 التحق سي محمد بمجلس الولاية بصفة رائد عسكري الى جانب العقيد سي امحمد بوقرة وسي صالح (محمد زعموم) تاركا وراءه منطقة منظمة ومهيكلة وقوية، تعتبر بحق احسن منطقة بالولاية. وقد تولاها بعده سي خالد، وهو شاب طالب في الحقوق كان نائبه السياسي ليواصل ما أنجزه فيها. وغداة استشهاد سي بوقرة في 5 ماي 1959، تولى سي محمد قيادة الولاية رفقة الرائد سي صالح ضمن قيادة جماعية.
اتبع تكتيكا حربيا بارعا في مواجهة هجوم شال الواسع على الونشريس
كان سي محمد في ربيع 1959 بالونشريس لأداء مهمة ثقيلة تتعلّق بالتصدي للهجوم العسكري الكبير إحدى حلقات مخطط شال القائد الأعلى للقوات الفرنسية بالجزائر. بدأ هذا المخطط أولا بالمنطقة الخامسة باسم عملية “كورون” التي شملت أقصى غرب الونشريس، وجنّد شال في هجومه بين 40.000 و56.000 رجل، سريعي الحركة، مجهزين بوسائل ضخمة، يزحفون من الغرب نحو الشرق، ما بين الشريطين الحدوديين للبلاد كآلة كاسحة كما يسميها العدو. وتستعين هذه القوة الضخمة بالوحدات الثابتة لإسنادها، وقد أقحم سلاح الطيران كطرف أساسي في المعركة عددا كبيرا من الطائرات من مختلف الأنواع، والمروحيات التي جهزت بالرشاشات الثقيلة لأول مرة. حاولت قوات الولاية الخامسة لا سيما بالمنطقة السابعة التصدي للعدو، لكنها اضطرت الالتحاق بالقسم التابع إلى الولاية الرابعة من الونشريس، حيث داهمتها عملية “كوروا” التي انطلقت بالولاية الرابعة في افريل 1959. واجهت ترسانة العدو هذه كتائب الولايتين الخامسة والرابعة جنبا إلى جانب، ونتج عن ذلك اشتباكات عنيفة تسببت في خسائر ثقيلة من الجانبين. أدرك سي محمد بسرعة أن هذا الهجوم يختلف اختلافا كليا عن العمليات السابقة التي واجهها جيش التحرير، فأمر الوحدات بتجنب المواجهة وخوض المعارك مع العدو، وقرّر تقسيم الكتائب إلى أفواج صغيرة والانسحاب من الجبال والاقتراب من السهول وضواحي المدن، على أن تقوم الأفواج بضرب الأهداف العسكرية حيثما كانت، وبفضل هذا التكتيك استطاع حماية المكاتب من الدمار. ظلّ الونشريس صامدا رغم الخسائر والمجازر المرعبة التي ذهب السكان ضحية لهان وتدمير قرى بكاملها، واضطر العدو على شنّ عملية اهرى على الونشريس باسم “سيغال” الصرصور خلال شهري اوت وسبتمبر 1960. للتذكير أن مخطط شال تواصل سنة 1959 من خلال عمليات “جومال” ابتداء من جويلية بالولاية الثالثة بعد عملية “ايتنسال” (الشرارة) بالولاية الأولى في نفس الشهر. وتلت تلك العمليات “بيير بريسيوز” (الحجارة الكريمة) بالولاية الثانية في سبتمبر دون أن ننسى عمليات مماثلة أخرى واصلها الجنرال “قراسبو” سنتي 1960 و 1961 بعد رحيل الجنرال شال. ينبغي أن نوضح هنا أن هذه العمليات تمّت في عهد الجنرال دوغول العائد إلى الحكم في جوان 1958، وفي ظلّ الجمهورية الخامسة، وكانت هذه السياسة تستهدف القضاء على جيش التحرير التهجير الواسع للسكان وتوسيع المناطق المحرمة ومواصلة التربيع العسكري بإقامة المراكز في كل مكان. كانت سنتا 1959 و 1960 من أصعب سنوات الحرب على جيش التحرير وعلى الشعب، خاصة في الأرياف والمناطق الجبلية، وسجلت أضخم الخسائر العسكرية والمدنية خلال هاتين السنتين، كما سجل اكبر عدد من المفقودين وتهجير مئات الآلاف من العائلات التي طردت من ديارها وأراضيها، وارتكاب اخطر التجاوزات في حقّ السكان المدنيين فمصير كفاحنا تقرّر خلال هاتين السنتين. لقد قاوم الثوار في الجبال إلى أقصى ما يمكن للإنسان أن يتحملن يعانون في عزلتهم، وقد توقّف إمدادهم بالأسلحة بعد أن قام العدو بغلق الحدود شرقا وغربا، يواجهون مشكل نقص الذخيرة بعد أن كانت المخازن تنفذ جراء المعارك الكثيرة التي يخوضها جنودنا الأبطال. وينبغي التذكير بأن الولايات هي التي كانت ترسل دورياتها الخاصة (كتائب من الشباب المجند) لاجتياز الحدود وجلب الأسلحة، وكانت هذه الدوريات المكونة من شباب أعزل متطوّع من المدن والأرياف، تقوم برحلات لعدة أشهر بهدف جلب قطعة أو قطعتين من السلاح لكل جندي. وكانت كثيرا ما يكتشفها العدو في عدوها ورواحها لا سيما في نهاية 1958 و 1959 وقد أصبحت خسائر هذه الدوريات باهظة، ما جعل مجلس الولاية يقرّر وقفها كمصدر من مصادر الإمداد.
وابتداء من 1961 أقام نظام “الاتصال السريع” بين المراكز القيادية
ونظرا لبعد الولايتين الثالثة والرابعة عن المناطق الحدودية، كانت معاناتها أكبر من نقص الأسلحة والذخيرة، وتحملت الولاية الرابعة التي تتوسّط البلاد أقوى قدر من الضغوط، علما أنها كانت تستقطب 2 / 5 من تعداد الجيش الفرنسي. كان على مسؤولي الولاية ومجالس المناطق والنواحي أن يواجهوا هذه الظروف القاسية جدا بكرامة وإيمان ثوري متجنبين إظهار انزعاجهم ومرارتهم حفاظا على معنويات الجنود والشعب. قاد سي محمد تلك المرحلة الصعبة - بعد استشهاد سي أمحمد بوقرة في 5 ماي 1959- رفقة الرائد سي صالح بداية، ثم بمفرده بعد ذهاب هذا الأخير في نهاية صيف 1960، عقب قضية “الإيليزي” بجهود مضنية في جميع الميادين بهدف ضمان حضور جبهة وجيش التحرير طبقا للتكتيك الجديد المتمثل في الاعتماد على الأفواج الخفيفة وسريعة الحركة التي تلقّت الأمر بالانتشار عبر السهول وضواحي المدن. في هذا الصدد اثرى سي بونعامة - بفضل قدراته المشهودة في التنظيم والاستشراف التي جعلت منه مخططا استراتيجيا بمعنى الكلمة - “دليل الفدائي” الذي كان سي أمحمد بوقرة قد وضع صياغته الأولى، ويتعلّق الأمر بدليل عملي يؤطر عمل الاطار والجندي البسيط ضمن جيش التحرير أو في الأوساط الشعبية. ومازال مجاهدو الولاية الرابعة يتذكرون المنشورين 18 و18 مكرّر المشهورين اللذين وضع سي بونعامة بواسطتهما برامج عمل واضحة ووجيزة يتعين على الإطارات تطبيقها على مستوى المناطق والنواحي والأقسام. وبمجرد أن قرّرت الحكومة المؤقتة في جوان 1960 ضمّ العاصمة إلى الولاية الرابعة، ركز بونعامة كامل اهتمامه على إعادة تنظيمها - للتذكير، أن العاصمة لم تعد تابعة لأي ولاية أو تنظيم رسميا بعد مغادرة لجنة التنسيق والتنفيذ واسر واستشهاد المسؤولين الرئيسيين للمنطقة المستقلة - وسارع بإنشاء منطقة جديدة تضمّ العاصمة هي المنطقة السادسة إدراكا منه لمكانتها ودورها الاستراتيجي الهام. وعيّن على رأسها محمد بوسماحة مع ثلة من الإطارات والعناصر التي تنتمي لناحية العاصمة والساحل. وكان إلحاق أجزاء من الساحل بالعاصمة يهدف إلى توفير عمق وتمكين المجاهدين العاملين في قلبها من مجال للمناورة والانسحاب عند الضرورة وكانت المنطقة الجديدة تحظى بمتابعة دائمة من جانبه شخصيا.
تمّ التحكم في العاصمة بسرعة ما جعلها تعيش نشاطا كثيفا توّج بمظاهرات 11 ديسمبر 1960 الشعبية الضخمة، التي تبعتها مظاهرات أخرى شهدتها العاصمة من 1 إلى 5 جويلية 1961. وابتداء من هذه السنة أقام بونعامة نظام “الاتصال السريع” بين المراكز القيادية: صندوق بريد لدى مناضل ثقة في كل مدينة هامة، يقوم بإرسال البريد الذي يستقبله في نفس اليوم على متن سيارة الى نظيره في مدينة اخرى. على سبيل المثال البريد الصادر عن مركز قيادة الولاية الموجه إلى المنطقة الثالثة يرسل من البليدة نحو الشلف، فيصل مركز قيادة المنطقة خلال 3 أو 4 أيام، علما أن البريد سابقا كان بتناقله “أعوان الاتصال” من مركز إلى آخر فلا يصل وجهته إلا بعد 15 أو 20 يوما، وأسندت مهمة تنظيم جهاز “الاتصال السريع” إلى شاب اسمه خالد باي عيسى.
اقترح على الحكومة المؤقتة الإذن بطبع كل المنشورات لجميع الولايات
لم يكن بونعامة يهمل الاتصال بالولايات الاخرى، فعاود الاتصال بمحند اولحاج قائد الولاية الثالثة وصالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية وكانت له علاقة مستمرة مع القائدين سي طارق وسي مجدوب من الولاية الخامسة، يعززها واجب التضامن والتعاون، كما أقام بواسطة البريد السريع علاقات مع اتحادية فرنسا، فضلا عن اتصاله الدائم بالحكومة المؤقتة بتونس وهيئة اركان جيش التحرير بالمملكة المغربية. كان سي محمد يولي دائما اهمية كبرى للاتصال والدعاية والحرب النفسية بصفة عامة، من ذلك مثلا ترك مناشير في مكان كمين “تامدرارة” في ديسمبر 1957، على الطريق بين الشلف وموليار (برج بونعامة) لإيهام الجيش الفرنسي بوجود فيلق لجيش التحرير ينشط بالونشريس. ولنفس الغرض دعا صحفيا ايطاليا لزيارة المناطق الجبلية قام بها في ماي 1961، ونشر على اثرها عدة مقالات موضوعية صدرت بجريدتي “كوريري دي سييرا” و«لاستمبا”. لقد جهّز مختلف مراكز البليدة بآلات سحب تعمل بكامل قدراتها وأراد جعل هذا الجهاز اللوجيستي الهائل يخدم مصالح الثورة، بحيث اقترح على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الإذن بطبع كل المنشورات لجميع الولايات في المواضيع التي تحدّدها هذه الأخيرة، غير انه لم يتلق اي رد على اقتراحه. وتمكنت الولاية الرابعة بفضل هذا الجهاز القيام بحملة دائمة موجهة الى المجنّدين الجزائريين في الجيش الفرنسي لحثّهم على الفرار وقام بنفس العمل تجاه وحدات “الحركى” والدفاع الذاتي. وكان الى جانب ذلك يزوّد المناضلين بالنشرات الخاصة، وقد أثمرت هذه الحملات في نهاية 1960 وخاصة سنة 1961 بالتحاق العديد من الجنود الجزائريين العاملين في الجيش الفرنسي بالولاية، التي سجلت كذلك عمليات هروب متكرّرة للحركى الذين التحقوا بها بأسلحتهم. وحرصا على مضاعفة النشاط والتقرب ميدانيا من الجزائر العاصمة أقام بونعامة في البليدة وضواحيها عدة ملاجئ مجهزة بمخابئ سرية: بـ«التراب الأحمر” عند مناضل من بني صالح وآخر لدى دهري بلقاسم، منتج مشروبات، وأقام ملجأ آخرا عند الحاج ريكا يضم جهازين للاتصالات كما اقيم ملجأ لدى قويدر النعيمي حيث توجد آلات الطبع والنسخ، مع المحافظة على مركز القيادة الرئيسي في جبال موزاية بتامزغيدة. وقرّر سي محمد لاحقا تجميع اجهزة الطبع والاتصالات في مكان واحد في ملجأ النعيمي المجهز بمخبـأ سري يسمح بالخروج عند الطوارئ عبر سقف المنزل.
كان يفضّل العيش بين رجاله والمشاركة في المعارك إلى جانب رفاقه
في أوجّ هذا النشاط فوجئ سي محمد عند وصوله إلى ملجأ النعيمي مساء الثلاثاء 8 أوت 1961، بعد أن تمكّن الجيش الفرنسي مستعملا وسائل ضخمة، من تحديد موقعه، مستفيدا من من مصالحه المتخصصة في التقاط الذبذبات الصوتية التي يبثها جهاز الإرسال أثناء الاتصالات التي كان يقوم بها سي محمد مع الخارج. لقد ظلّ العدو منذ شهور عديدة يتابع تنقلات سي محمد خفية بواسطة المدعم الـ 44 لسلاح الإشارة المرابط بالحراش الذي كان يلاحقه بدون توقف. وحرصا من السلطات الفرنسية على الإيقاع بسي محمد، سارعت في نفس الليلة باستقدام كومندو من مدعم “الصدم” الـ 11 التابع مباشرة لجهاز المخابرات ولرئاسة الحكومة الفرنسية، الذي طار من مدينة “كالفي” بكورسيكا. بدأت المعركة على الساعة 11 ليلا، وقد تمكّن سي محمد مع رفاقه من إحراق جميع الوثائق التي كانت بحوزتهم، وقاوموا وهم محاصرين عدة ساعات إلى أن سقط سي محمد شهيدا رفقة ثلاثة من رفاقه وهم: خالد باي عيسى، مسؤول جهاز الاتصال السريع، عبد القادر وادفل العامل على جهاز الإشارة، مصطفى النعيمي وهو مناضل شاب وعون اتصال لبونعامة. وأصيب في المعركة بجروح: محمد تقية، مسؤول مصلحة الدعاية والاعلام والأمانة وبن يوسف بومهدي صهر قويدر النعيمي، عون اتصال والعائد من مهمة بالخارج بتكليف من بونعامة. ولم ينج سوى محمد النعيمي ابن قويدر الذي تمكّن من الفرار والالتحاق بالثوار. كان رجلا في غاية الحيوية، شديد المراس، راسخ التمسّك بالمبادئ، هذا الرجل عرف كيف يحافظ على بساطته وتواضعه، فكان لذلك يحظى لدى الجنود باحترام كبير وكذلك لدى المناضلين والشعب. كان يفضل العيش بين رجاله والمشاركة في المعارك إلى جانب رفاقه، بل في مقدمتهم أحيانا لقيادتهم. كان كذلك مع كومندو جمال أثناء الهجوم على مركز قيادة كوبيس، وفي تامدرارة على رأس فيلق. قبل اسابيع من استشهاده أهداني صورته مدبّجة بالعبارة التالية: “ليس القائد من يخوض حربا فقط، وانما ذلك الذي يكوّن رجالا ويمكل قلوبهم، يحبّهم ويكون قبلة حبّهم”. والملاحظ أن بونعامة لم يتحصّل قط على رتبة عقيد، رغم قيادته الولاية الرابعة من سبتمبر 1960، إلى أوت 1961.