خــبرة تنظيميـة وإمكانــات لوجستيــة تنبـئ بنجـاح باهـر لمعـرض التجــارة البينيـة
تدخل الجزائر مرحلة حاسمة في التحضيرات لاحتضان الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية (IATF 2025) المزمع تنظيمها ما بين 4 و10 سبتمبر المقبل بقصر المعارض بالصنوبر البحري، حيث يُنتظر أن يكون هذا الموعد الاقتصادي القاري محطة استراتيجية على طريق تحقيق التكامل الإفريقي-العربي وتعزيز مكانة الجزائر كـ«بوابة للتجارة الإفريقية”..هي مرحلة مفصلية على صعيد التموقع الاستراتيجي في القارة الإفريقية، فهذا الحدث الاقتصادي البارز لا يُنظر إليه باعتباره مجرد تظاهرة تجارية أو عرض للمنتجات، بل باعتباره محطة استراتيجية في مسار القارة، وتجسيدًا لرؤية الجزائر في بناء فضاء للتواصل بين إفريقيا والعالم العربي.
التقارير الأخيرة الصادرة عن البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير (أفريكسيم بنك) تكشف عن ارتفاع لافت في حجم التجارة البينية داخل القارة بنسبة 12.4 بالمائة، خلال عام 2024، لتبلغ نحو 220.3 مليار دولار..هذه الأرقام، رغم أهميتها، تبقى متواضعة إذا ما قورنت بقدرات القارة وثرواتها الطبيعية والبشرية، حيث لا تتجاوز نسبة التجارة البينية الإفريقية 15 بالمائة من إجمالي المبادلات التجارية، مقابل أكثر من 60 بالمائة في أوروبا و50 بالمائة في آسيا.
هذا المعطى يفسر الطابع الاستراتيجي لمعرض الجزائر، إذ يسعى إلى إزالة الحواجز أمام المبادلات التجارية، وتشجيع الاستثمار المشترك، ودعم منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية التي أُطلقت رسميًا عام 2019، كأكبر تكتل اقتصادي في العالم من حيث عدد الدول الأعضاء.
أدوات النجــاح..
منذ الإعلان عن استضافة الجزائر لهذه الطبعة، تكثفت التحضيرات اللوجستية والتنظيمية. فقد ترأس وزير النقل، السعيد سعيود، اجتماعا تنسيقيا خصص لتسريع ترتيبات استقبال الوفود الرسمية والعارضين، وأكد بالمناسبة أن إنجاح المعرض “مسؤولية جماعية تتطلب التجند الكامل، بما يجسد رؤية رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون في جعل الجزائر قطبا للتكامل والتعاون الإفريقي”، مشددًا على ضرورة توفير أسطول نقل حديث ومريح، وإطلاق تطبيق إلكتروني لتسهيل تنقلات المشاركين، وأشار إلى وجوب إعطاء “أبهى صورة” عن الجزائر خلال هذا الحدث الهام، من خلال “توفير حافلات جديدة ومريحة وذات جودة عالية تليق بضيوف الجزائر، وتسخير طواقم مدربة تجيد الاستقبال، التوجيه والمرافقة”، لافتا إلى أهمية التنسيق بين كل الهيئات المعنية وتعبئة كافة الموارد البشرية واللوجستية لإنجاح التظاهرة.
أما وزير التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية، الطيب زيتوني، فقد عاين أشغال تهيئة أجنحة قصر المعارض “صافكس”، معتبرًا أن المعرض يشكل “منصة استراتيجية لتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الإفريقية، وفرصة لعرض القدرات الوطنية، لا سيما في قطاعات الإنتاج الصناعي، والزراعي، والصناعات التحويلية، والخدمات، وكذا الصناعات الإبداعية، كروافد واعدة لتنويع الاقتصاد الوطني وتعزيز تنافسيته في السوق القارية”، مؤكدًا أن الجزائر تريد أن تقدم نفسها للعالم كفاعل اقتصادي جاد وموثوق.
وفي السياق نفسه، أشرفت وزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات على أشغال الندوة السادسة للمجلس الاستشاري للمعرض، بحضور محافظ الطبعة الرابعة العربي لطرش والرئيس النيجيري الأسبق أوليسيغون أوباسانغو الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للمعرض. فالموعد الاقتصادي ليس مجرد حدث تجاري، بل هو خطوة نوعية نحو بناء جسور جديدة للتكامل القاري.
إشادة بالدور الجزائري
الطبعة الرابعة للمعرض ستعرف - لأول مرة - مشاركة الأردن عبر “بيت التصدير الأردني” الذي أوفد 12 مؤسسة من قطاعات صناعية وخدماتية متنوعة كالصناعات الغذائية والكيميائية والبناء والاتصالات والتعليم، واعتبر البيت الأردني أن المعرض “محطة استراتيجية لتعزيز التكامل العربي-الإفريقي”، مشيدًا بقدرة الجزائر على تسخير إمكاناتها لإنجاح التظاهرة وتحويلها إلى منصة عملية للشراكات الاقتصادية.
الحضور العربي المتزايد يعكس تحولا تدريجيا في الوعي بأهمية العمق الإفريقي، إذ لم يعد ينظر إلى القارة كفضاء بعيد أو محيط مهمش، بل كفضاء واعد للنمو والتنمية، وهو ما ينسجم مع توجه الجزائر التي جعلت من التنمية المستدامة والتضامن الدولي ركيزتين أساسيتين لسياستها الخارجية، من خلال مساهمتها المستمرة في دعم جهود التنمية في القارة الإفريقية في مختلف الأطر التعاونية الثنائية والمتعددة الأطراف، فضلا عن انخراطها التام في تجسيد التكامل القاري عبر العديد من المشاريع ذات الطبيعة الاندماجية، وكان رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، قد شدد – في كلمة مؤتمر الأمم المتحدة الرابع لتمويل التنمية - على ضرورة الانتقال من مرحلة التشخيص إلى المبادرة الفعلية، بإيجاد الحلول الكفيلة بتمويل التنمية، وأضاف أن “الرفاه المشترك أصبح مطلبا أساسيا وليس مجرد خيار ثانوي”، مؤكدا أن هذا “لن يتأتى دون رأب فجوة التنمية وتقليص فوارق التقدم بين الدول، بما من شأنه توفير بيئة دولية سانحة للتكفل بمختلف التحديات والأزمات التي يشهدها العالم اليوم”.
وتراهن الجزائر، من خلال موقعها الجغرافي الاستراتيجي على ضفاف المتوسط، باعتبارها البوابة الشمالية للقارة الإفريقية، لتكريس إمكاناتها في خلق حلقة وصل بين التكتلات الاقتصادية، فإلى جانب امتلاكها حدودًا برية واسعة مع مالي والنيجر وليبيا، فإنها تملك واجهة بحرية كبرى على المتوسط تجعلها نقطة عبور هامة للسلع والطاقات والابتكارات.
وقد عبّر وزير النقل عن هذا التوجه قائلا: “رؤية رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون واضحة: جعل الجزائر قطبًا للتكامل والتعاون الإفريقي، وجسرا للتواصل مع العالم العربي وأوروبا”.
شراكة تنموية تتجاوز التحديات
إن التحديات التي تواجه إفريقيا عديدة..ضعف البنية التحتية للنقل، قلة التنوع الصناعي، التبعية للمواد الأولية، وصعوبات التمويل. ومع ذلك، فإن الإرادة السياسية تتجه اليوم نحو تجاوز هذه العراقيل عبر تعزيز الشراكات الداخلية والانفتاح على شركاء جدد.
ويرى خبراء أن الجزائر، بما تملكه من قدرات إنتاجية وبنية تحتية قيد التوسع (موانئ، مطارات، شبكة طرق عابرة للصحراء)، يمكن أن تلعب دور “المسرّع” في هذا المسار، وفي هذا الإطار، سجل بيان صادر عن وزارة الخارجية، استقبال كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية، المكلفة بالشؤون الإفريقية، سلمة بختة منصوري، لمدير تيسير التجارة وترقية الاستثمار بالبنك الإفريقي للاستيراد والتصدير (Afreximbank)، جاينمور زاناموي، واستعرضا مدى التقدم في التحضيرات الخاصة بتنظيم المعرض الإفريقي للتجارة البينية، واتفق الطرفان على أهمية مواصلة التنسيق مع مختلف الشركاء الأفارقة المعنيين، بما يضمن إنجاح هذا الحدث الاقتصادي القاري الهام، وتعزيز دوره كمنصة استراتيجية لترقية المبادلات التجارية والاستثمارات داخل القارة الإفريقية”.
إفريقيا يبنيها الأفارقة
ولعل النجاحات التي تحققت في بعض التجارب الإقليمية، تؤكد أن التكامل الإفريقي ممكن. فجنوب إفريقيا وكوت ديفوار ونيجيريا حققت نسبا متقدمة في التجارة البينية. ومع ذلك، تبقى الحاجة ملحّة لتوسيع هذا التعاون ليشمل دول الشمال الإفريقي والفضاء العربي، وهنا تبرز الجزائر كفاعل قادر على “توسيع الدائرة” عبر تقريب الضفتين الإفريقية والعربية، وهنا يتبين دور المعرض الاستراتيجي “فهو ليس مجرد منصّة للتبادل التجاري، بل هو مختبر لرؤية جديدة لإفريقيا..إفريقيا قادرة على النهوض بنفسها من الداخل قبل أن تنتظر الحلول من الخارج”.
لا تخفي الجزائر أن هدفها من احتضان هذا المعرض يتجاوز الجانب الاقتصادي الضيق إلى بُعد استراتيجي أشمل، يتمثل في بناء شراكة إفريقية–عربية–دولية متوازنة، تعزز السيادة الاقتصادية للقارة وتفتح أمامها منافذ جديدة نحو الأسواق العالمية.
اقتصاد إفريقي مستقل
إن رهان الجزائر هو أن يتحول معرض الجزائر إلى أكثر من مجرد موعد اقتصادي عابر، بل إلى نقطة انطلاق لرؤية جديدة تؤسس لاقتصاد إفريقي أكثر استقلالية، وأقدر على مواجهة الصدمات العالمية كأزمات الطاقة والغذاء، ومن هنا، فإن استضافة هذا الحدث تعد بمثابة رسالة قوية مفادها أن الجزائر لا تراهن على إفريقيا فقط، بل تراهن من أجل إفريقيا، فـ«التنمية في إفريقيا ليست خيارًا ثانويًا، بل مسارا حتميا لتجاوز العراقيل التي تعترض شعوبها، والجزائر ملتزمة بأن تكون شريكًا موثوقًا في هذا المسار”.
لحظــة تاريخية
إن معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر لا يختزل في كونه مجرد سوق للمنتجات أو فضاء لعقد الصفقات، بل هو موعد استراتيجي يعكس إرادة سياسية واقتصادية لتجديد مسار التكامل الإفريقي، ويكرّس الجزائر كبوابة طبيعية للتواصل بين إفريقيا والعالم العربي والعالم بأسره.
هي لحظة تاريخية للقارة كي تراهن على قدراتها، وللجزائر كي تؤكد موقعها كفاعل مركزي في صياغة مستقبل إفريقيا الجديد..مستقبل يتجاوز الصعوبات ويراهن على التنمية كخيار لا رجعة فيه.