حقيقة التي وقفت عليها «الشعب» وعاشتها رأي العين ويقينا لا تلقينا، وعادت تسرد يوميات لما ظل يسمى حديثا بالبليدة بالأربعاء تحديدا قرية «أفريكا تاون». إنه مشهد بوادي جمعة بضواحي مدينة الأربعاء الشرقية.
على ضفتي وادٍ تصرف فيه مياه التطهير الصحي في الغالب، ويفيض نادرا خلال موسم الأمطار والبرد والثلوج، يطلق عليه «وادي جمعة»، ارتفعت ما يشبه بـ «الخيم» والبيوت المصنوعة من كارتون وبلاستيك وقصدير وقش وكتان وكل ما جاد به باطن الأرض من معادن مصنعة ومحولة، وتوزعت في هندسة فوضوية، في الارتفاع مرة وفي المساحة طولاً وعرضاً مرات أخرى، وفي اللون والنوع والصعود والنزول أحايين أيضا، وظهر منها أطفال لبسوا مظاهر البؤس والفقر والجوع وصمت البراءة، التي لا تعي ولا تميز أين هي أو ما الذي جيئ بها إلى هنا ومن هم هؤلاء الجيران من بني الإنسان، واسترسلوا وتداعوا في عفوية طفولية وراحوا يمارسون ألعابا شعبية وتزحلقوا فوق قطع من الكارتون من ربوات ومنحدرات، وهم يفرحون ويضحكون ويتسابقون.
بين تلك الصورة «الصامتة»، أطلت من بين تلك الخيم المزركشة، وكأنها ثوب تم ترقيعه بقطع من كل لون ونوع قماش، نساء مرة لبسن دور «الأمهات» وتارة أخرى كنا في صورة «صبايا» بأعين براقة في عمق أبيض لافت وسكوت وسكون محير، ومرة أخرى تراءت فتيات آية في الحسن والجمال الطبيعي الإفريقي الصرف، رغم ملبسهن البالي وبشرتهن الطبيعية اللامعة، والخالية من المساحيق والأصباغ.
واحدة تحمل طفلا على طريقة والدة بطل المسلسل الأسود «كنت كنتي» ـ مسلسل أمريكي أرخ للقصة الكاملة لرحلة وتهجير الأفارقة قسرا وعبيدا من القارة السمراء إلى أمريكا، وحمل اسم «جذور» أو بالإنجليزي «روتس» ـ، فيما أخرى اجتهدت في توازن مضبوط ورياضي، ووضعت على رأسها قنينة ماء أو أغراضا تحتاج إليها في يومياتها، وعلى ظهرها برزت عينا طفل في تمويه وكأنها الطبيعة، ترقب من خلفها عالما مازال لم يعه بعد، أما أخرى فخرجت أمام بوابة دارها ومدّت رجليها، وجلست ترقب الغادي والرائح، وتصور كل من يمر أمامها بدقة وتفصيل من رأسه إلى أخمص قدميه، ولا تتركه إلا وهي تتفرّس كل صغيرة وكبيرة فيه وما يحلمه بيديه، وبين الحين والفينة يظهر رجال وشباب نحاف في الغالب ومتوسطو القامة، وهم متسمّرون يرمقون كل غريب ولا يتحدثون إلا فيما بينهم، في تمتمة كلمات حينما تسمعها، تدرك أنك تشاهد فيلما توثيقيا لـ «ناشيونال جيوغرافيك أو ديسكوفري»، وهنا تبدأ حدود ومشاهد القرية الإفريقية أو كما بات يطلق عليها «أفريكا تاون».
من «الماساي» إلى قرية الأفارقة الجزائرية... تدب الحياة
يستحيل للزائر ألا يتعجب أو يتفوه بكلمات الدهشة والاستغراب، حتى أن الرائي يُخيل إليه وهو على يقين ووعي كل الوعي، بأنه ليس على تراب بلده الجزائر، بل بقرية من القرى الإفريقية، كل الصور توحي بأنك بين قبيلة أو عشيرة من عشائر «الماساي» أو «الزولو» ولكن من دون ماكياج الرجل الإفريقي القبلي وسلاح بدائي، وزي تقليدي وحلق في العنق وآذان كبيرة ومثقوبة، فالكلام إفريقي واللون إفريقي والعقلية أو الذهنية أفريقية، عدا ذلك فالتراب والمحيط جزائري.
اعترف أحد المهاجرين الأفارقة قائلا لـ «الشعب»، إن «الجزائر بالنسبة لهم هي أشبه بالحلم، نطعم الطعام مثل سابيقيتي وعجائن «سيم» و»عمر بن عمر» و»ماما» وماركات وطنية أخرى، ونلبس ما جادت به السوق، ونتبضع سلعا جزائرية، وننام تحت قمر الجزائر، ونداوي ونضع مواليدنا بعيادات طبية تكفلت وأحسنت».
أما حسن الحاج أحمد فقال في شهادته: «إن نظرتهم للجزائر عظيمة، وهم يعتبرون الجزائر «قارة إفريقيا» ولكن بحجم أصغر». ويدقق في الكلام ويقول شكلاهما متشابهان في التضاريس التي تظهر من الشمال المطل على المتوسط، حيث ترتفع على شواطئه أشجار الزيتون ويسبح «السردين والتونة» في مياهه، وإلى الجنوب عند «رأس الرجاء الصالح بجنوب إفريقيا «حيث القروش القاتلة تحرس الحدود البحرية بالمحيط».
يتوقف الحاج أحمد قليلا ويواصل: «جغرافيا فالجزائر دولة إفريقية نراها «عظيمة»، رغم لون بشرة ناسها ولسانهم، لكن العقلية إفريقية وموقف التمثيل في المحافل الرياضية والقضايا المصيرية، فالجزائر قبلة «للثوار»، كما قال السابقون، وأيضا أنموذج يمثل القارة السمراء في البطولات العالمية خاصة في كرة القدم، فهي بالنسبة لهم مفخرة وأنموذج، يتمنون ويحلمون أن يظلوا على أرضها، لأمنها ومسالمة أهلها وكرمهم العفوي، ففي الجزائر «أنام ولو في العراء و اعمل»، ختم المتحدث.
المشهد الثالث... بيع وشراء وحياة اقتصادية نافعة
اللافت وأنت تجول بناظرك في القرية الأفريقية، أن تلحظ بأن الأمر يتعلق بما يشبه المدينة الصغيرة، تضم غالبية الضروريات، إن تعمقت في النظر وقفت على محل لـ «حلاق القرية» ، محل لبيع المواد الغذائية والمشروبات الغازية والعصائر، والياغورت والحلوى وما شابه، حتى أن سكان القرية الإفريقية اجتهدوا وفكروا في محل آخر لـ تعبئة رصيد الهواتف الجوالة، بل أن واحدا من محظوظي القرية، نجح وفكر ودبر واقتنى مولدا كهربائيا وخصصه لإنارة المكان من جهة، ومد وصلات كهربائية لشحن الهواتف النقالة، وهي فكرة استحسنها الكثير وجلبت لصاحبها الرزق والفائدة.
أما عن بقية الضروريات، فهم جلبوا الماء من أحياء بالجوار، او انتظروا محسنا من سكان مدينة «الأربعاء» وقد خصص لهم صهريجا لمياه الاستهلاك اليومي، واحد في الصباح والثاني في فترة المساء. أما الكهرباء فكل وإمكاناته وشطارته، منهم من استغل تقنية المولدات الكهربائية وأضاء به المكان، والآخرون أشعلوا الشموع، وطهوا الطعام على الجمر والنار وأوقدوها في الليل للاستضاءة والدفء في فصل البرد والشتاء.
ترى بين كل تلك المعالم الافريقية وفي زاوية من القرية السمراء، صورة لأزواج خرجوا في فترة المساء وجلسوا غير بعيد عن خيمهم وبيوتهم الفوضوية يتسامرون ويضحكون بين الحين والآخر، وربما يسترجعون ذكريات الأهل في أوطانهم، أو جلسوا واتصلوا بعزيز عليهم، يطمئِنُونهم عن أحوالهم في غربتهم، ويطمئنُّون عليهم في وطنهم الأم، وهي الصورة الشاعرية الساحرة التي تعلق في الأذهان، وتجعل من المكان أو «أفريكا تاون» «أستوديو» كبيرا لمشهد سينمائي إفريقي بالأسود والأبيض الجميل، تركناه وراءنا وكأننا كنا في بعد زمني آخر.
البليدة: لينة ياسمين